يمينة حمدي تكتب:

مرض خطير دائم ومقدس

صدق من قال إن “البشر حيوانات اجتماعية بالفطرة”، فهم ينزعون إلى تبني الكثير من المعتقدات غير المنطقية، التي قد تبدو أقل أهمية من أن يتم التعليق عليها، بالرغم من أن لديها في بعض الأحيان، القدرة على أن تشكل شخصياتهم أكثر مما تفعله تجاربهم، وقد يصل تأثير تلك المعتقدات إلى مجالات كثيرة في الحياة، ولعل وصول البعض إلى حالة من الانغلاق والتعصب لتلك المعتقدات أمر لا مفر منه.

أستحضر هنا مقولة شائعة للكاتب الأميركي أوليفر وندل هولمز “عقل المتعصب يشبه بؤبؤ العين، كلما ازداد الضوء المسلط عليه ازداد انكماشه”، وهو بذلك يحثنا على أن ننظر إلى الصورة الكبرى التي تتكون منها أفكارنا ومعتقداتنا وكل المسلمات الراسخة في أذهاننا، لكن بطبيعة الحال، هذا يتوقف على الدائرة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص، ومدى توفر مبدأ حرية الرأي والتعبير الذي يتيح له التحدث عن رفضه أو قبوله لتلك المعتقدات.

في الكثير من المجتمعات، ما زال الناس يطبقون تعاليم المعتقدات التي يتوارثونها عن أجدادهم وآبائهم بحذافيرها، بغض النظر عن مستواهم التعليمي أو الثقافي، رغم أنه بإمكانهم أن يكونوا سادة على عقولهم، ويضعون حدا لأي أفكار لا تعجبهم، ولكن للأسف معظمهم يجدون صعوبة في التخلص من تلك المعتقدات بعدما ترسبت في أذهانهم وأصبحت جزءا من أفكارهم الراسخة، والأسوأ من هذا كله، أنهم يكونون أكثر عرضة لما يسمى بـ”الدوغماتية المكتسبة”، بمعنى أن تملي عليهم تلك المعتقدات مواقف معينة تجعلهم ينغلون من الناحية الذهنية، وقد تترتب على ذلك تداعيات جسيمة على حياتهم.

الإيمان الراسخ ببعض المعتقدات، بدلا من التفكير والبحث فيها بالعقل، قد يقف حائلا دون فهمنا لذواتنا ومشاعرنا، وقد يحدث لنا أزمات وعقبات بالجملة في حياتنا اليومية والاجتماعية، وكذلك على مستوى خياراتنا السياسية وغيرها من الأمور.

والأمثلة كثيرة عن المعتقدات الثقافية الخاطئة المتجذرة في حياتنا، ومن بين هذه المعتقدات، ما نحمله من آراء وتوقعات عن بكاء الرجال والسياقات الاجتماعية التي يجب على الرجال عدم إبداء مشاعرهم فيها صراحة، لأنها يمكن أن تهدر رجولتهم، مثل هذا الأمر يحد من عدد المرات التي يستسلم فيها الرجال للبكاء، رغم جدوى الدموع ودورها في التعامل مع الأحداث المثيرة للانفعالات، والتنفيس عن مشاعر الحزن التي بداخلهم.

ثمة رابط بين نظرة الرجال للبكاء وبين سلوكياتهم وتصرفاتهم في المواقف الصعبة، ونسبة كبيرة من الرجال ما زالوا يميلون إلى كبت مشاعرهم ويجاهدون لإخفائها عن الآخرين، ولذلك فمعدل الانتحار بين الرجال أعلى بالمقارنة مع النساء.

تبدو العلاقة بين الانتحار والاضطرابات النفسية، كالاكتئاب وتعاطي المخدرات والكحول واضحة تماما، لكن العديد من حالات الانتحار تعزى أيضا إلى قمع المشاعر وعدم التعبير عما بالداخل من ألم، أو البكاء علنا، حتى في أكثر الظروف قهرا.

اعتادت بعض الأسر تربية أطفالها الذكور على فكرة أن “الرجال لا يبكون”، وبهذا فهي تنشئهم منذ الصغر على ثقافة كبت المشاعر، وإذا حدث كبت لهذه المشاعر لسنوات طويلة، فإن هذا سيتجلى في نهاية المطاف بطريقة مأساوية. وقد لاحظت بعض الأبحاث أن الرجال أقل استعدادا للفضفضة، لكن هذا لا يعني أنهم لا يعانون من مشاكل نفسية تعادل أو تفوق ما تعانيه النساء، غير أنهم أكثر تحفظا في التعبير عن مشاعرهم، وهذا الأمر يزيد من مخاطر إقدامهم على الانتحار.

تقول سوزان شويزر، وهي باحثة متخصصة بدراسة العواطف في جامعة كامبريدج “عندما تحاول قمع شعور ما، كما هو الحال عندما تحاول قمع فكرة ما، يمكن أن يكون لذلك تأثير عكسي. ومن المرجح أن يعود هذا الشعور بقوة أكبر في وقت لاحق”.

ومن المؤسف أن معظم الأسر لا تدرك أن الأفكار والمعتقدات التي يتم غرسها في الأطفال منذ الصغر هي التي تسطّر حياتهم وتيسرها وتسيّرها، وقد ترتبط بعض المعتقدات بالكثير من الإيجابيات، مثل الرضا بشكل أكبر عن الحياة، وتراجع نسبة المشاعر العدائية، واكتساب علاقات أفضل مع الآخرين، وانخفاض معدلات الاكتئاب والقدرة على تنظيم العواطف والتحكم فيها، وصحة جسدية وعقلية أفضل وعمر أطول، وفي المقابل، لا تصنع بعض المعتقدات فروقا كبيرة، لأنها لا تعكس في الغالب القدرة على تعزيز علاقات جيدة مع الآخرين، كما لا تساعد على اتخاذ قرارات سليمة أو تمنح ذلك الإحساس الداخلي بالسلام النفسي.

وإذا أردنا أن نضمن مستقبلا مزدهرا وطويلا لأبنائنا، يجدر بنا أن نهتم بتعليمهم كيف يعبرون عن مشاعرهم من دون خجل، ونترك لهم المجال لاختيار الحياة التي يرغبون فيها، وليست الحياة التي نرغب فيها نحن أو يريدها المجتمع.