يمينة حمدي تكتب:

الهوس المتنامي بـ"الأنا"

في الاتحاد تتأكد قوة البشر حتى لو كانوا بين بين”، هكذا عبّر الشاعر الإغريقي هوميروس ببلاغة فصيحة عن أهمية عملية التعاون والتكامل في الأدوار بين الأفراد.

أما فينس لومباردي مدرب كرة القدم الأميركية “غير كرة القدم المعروفة”، فيعتبر العمل الجماعي بمثابة الشريان داخل المنظمات والمؤسسات، فعندما ينعدم مثل هذا التعاون الجماعي، فإن جميع الأمور تصبح أشبه بالمهمات المستحيلة.

بغض النظر عن نطاق أو مجال العمل، لا يأتي النجاح أبدا بمفرده، بل يتوقف على مدى التفاعل الإيجابي بين الزملاء، وما يتحلّون به من روح تعاونية ومثابرة، بشكل يمنحهم إحساسا بديهيّا وعميقا بأهمية الأفكار التي يبتدعها كل واحد منهم، ما يمهّد الطريق أمام تحسين الأداء الفردي لكل شخص ويساهم في نجاح مؤسسة العمل ككل.

معظم الشركات والمؤسسات الكبرى تستثمر اليوم في العديد من الأنشطة الترفيهية داخل بيئة العمل، مثل المقاهي الصغيرة والنوادي الرياضية، بالإضافة إلى تنظيمها لحفلات خاصة بعيدا عن مكان العمل، من أجل جمع الموظفين في أجواء غير رسمية وأكثر ودية، وكل ذلك هدفه تقوية الروابط الاجتماعية بين الموظفين، التي باتت أمرا أكثر أهمية من أجواء الاجتماعات التي يجلسون فيها يحملقون في بعضهم البعض، وتنتهي في معظمها من دون فائدة.

التفاهم والود بين مجموعة العمل يُسهم في صنع أشخاص أكثر كفاءة، على عكس الانعزال والاكتفاء بتلقّي التعليمات مباشرة من المدراء، من دون المساهمة مع الزملاء في صناعة الأفكار وتطويرها، لكن ذلك يَصْدُق بشكل خاص حين يجاهد كلّ موظف لاستيعاب الاختلاف بين قوة العمل التي تتسم بالتنوع، وتقبّل وجهات النظر المختلفة، من دون حساسيات زائدة، أو شعور بالرفض أو النقص ممن حوله.

لا شيء يمكن أن يجعلنا نشعر بالراحة والامتنان أكثر من رؤيتنا، على سبيل المثال زميل يستغني عن قسط من وقته، ليشرح لنا فكرة ما أو يقترح علينا تخطيطا معيّنا، أو يسألنا عن أحوالنا، مثل هذه التصرّفات التي تبدو بسيطة في ظاهرها، قد تخلق نوعا من الروابط الحميمة، وتجعل الزملاء يشعرون بالارتباط في ما بينهم.

بالطبع، ليس الجميع قادرين على أن يكونوا بهذه الكياسة في الأخلاق والتعامل مع غيرهم، فالبعض قد يصل بهم الأمر حتى إلى عدم إلقاء التحية على زملائهم لأسباب تكون أحيانا واهية وواهمة، وحين يرسخون بعض الأفكار البغيضة في أذهانهم، فإنهم يكونون بذلك قد جعلوا العمل مع زملائهم صعبا وكريها إن لم يكن أقرب إلى الجحيم! لأنهم لم يحاولوا التقرّب منهم أو التعامل معهم بشكل مثمر.

من المؤسف أن البيئات الأسرية والاجتماعية اليوم قد ساهمت في تنامي النزعة الفردية، التي جعلت الكثيرين أكثر ميلا للانعزال، وحدّت من التواصل مع الآخرين رغبة في تحقيق المصالح الشخصية، ما أدى إلى تضخم سلوك اللامبالاة تجاه الغير.

بالطبع سيكون لهذا الهوس المتنامي بـ”الأنا” تداعيات سلبية، وقد كشفت الأبحاث الحديثة أن الأشخاص أصبحوا يميلون إلى أن يكونوا أكثر عدوانية، وأقلّ تعاطفاً ورحمة مع غيرهم، وأقلّ تقبّلاً لوجهات نظر الآخرين. وربما هذا يشكّل جزءا من السبب الذي ساهم في تنامي المظالم المرتبطة بالنوع والعرق والطائفة.

الخلاصة تقول: إن السعادة الحقيقية نادرا ما تقاس بالأجور وبالمناصب وحدها، لكنها في معظم الحالات ترتبط بالشعور بالانتماء إلى مجموعة أكبر ذات هدف مشترك.