محمد الحمامصي يكتب:

الجاسوسية خطر متربص في غياب ثقافة أمنية

تسعى أغلب دول العالم إلى تركيز جهاز مخابرات متطور يمنحها إمكانية التحكم في المجال الداخلي ويوفر لها فرص الاطلاع على معطيات الدول الأخرى. لذلك تعمل قصارى جهدها لتجنيد عناصر بشرية بمواصفات خاصة تؤمن لها القيام بالمهام بنجاح. لكن دخول وسائل التكنولوجيا إلى معترك الجوسسة قلل من مكانة الجواسيس ووفر سيلا هائلا من المعلومات، ما يحتم على البلدان التنبه للأمر بإقرار برامج تثقيف وتوعية بخطورة المسألة. ضمن هذا السياق أصدرت، دار العربي للنشر والتوزيع كتابا تحت عنوان “أشهر قضايا الخيانة والجاسوسية: الجاسوسية والوعي الأمني”، من تأليف محمود الخولي، تناول فيه بالتوضيح أهمية التوعية الأمنية لدى المواطنين وخاصة الشباب، من خلال عرض أساليب عمل أجهزة المخابرات بصفة عامة، وأشهر قضايا الجاسوسية.

يتساءل الكثيرون منذ سنوات عديدة عن أهمية استمرار حاجة الدول إلى أجهزة مخابرات تقوم بتجنيد عملاء وجواسيس للحصول على معلومات سرية تهم أمنها القومي من دول أخرى. ويعتقد هؤلاء أن وسائل التجسس الإلكترونية المتنوعة والتقدم التكنولوجي تفي بالغرض المطلوب دون الحاجة إلى تكبد عناء تجنيد الجواسيس. ويرون أن المعلومات المتوفرة في المصادر العلنية المختلفة إلى جانب ما يتم الحصول عليه بالوسائل التكنولوجية لا يجعل هناك معلومات سرية إضافية تحتاج إلى عميل للحصول عليها.

وعلى الرغم من مشروعية التساؤل من وجهة نظر اللواء محمود إسماعيل الخولي وكيل المخابرات المصرية السابق، في كتابه “قضايا الخيانة والجاسوسية: الجاسوسية والوعي الأمني”، فإن الإجابة عنه لدى جميع أجهزة مخابرات دول العالم واحدة، وهي أنه لا غنى عن الجاسوس- البشري.

تسعى أغلب دول العالم، المتقدمة وغير المتقدمة، إلى أن تكون لديها أجهزة مخابرات تعمل على تجهيز ضباط مخابرات على أعلى مستوى من التدريب التخصصي للحصول على المعلومات السرية التي تهم أمنها القومي من الدول الأخرى.

ويتسم القيام بهذا العمل بخطورة شديدة على الضابط نفسه، وعلى العميل، وعلى العلاقات بين دولة الضابط والدولة التي تُمارس على أراضيها الجاسوسية، إذا تم كشفه أو كشف العميل أو كشف النشاط الاستخباري الذي يقوم به. ومن هنا، فإن ضباط المخابرات لا بد أن يتميزوا بمواصفات خاصة وقدرات غير عادية، وهم دائما يعملون تحت ضغط عصبي ونفسي.

يهدف كتاب الخولي الصادر عن دار العربي إلى توضيح أهمية التوعية الأمنية لدى المواطنين وخاصة الشباب، من خلال عرض أساليب عمل أجهزة المخابرات بصفة عامة، وأشهر قضايا الجاسوسية.

ويبين الكتاب أن الثقافة الغربية تتناول قضايا المخابرات والجاسوسية في إطار من الشفافية وحق المعرفة، وذلك لدواع أمنية في إطار التوعية الأمنية للمواطن والحفاظ على الأمن القومي للدولة، ولإعطاء دروس يستفيد منها الجميع، بما في ذلك أجهزة المخابرات وأجهزة الأمن المختلفة لتفادي الأخطاء التي حدثت بهدف عدم تكرارها، ولتطوير مستوى الأداء في عمل أجهزة المخابرات في الداخل والخارج.


ورغم أن الخولي يشرح في مختلف القضايا التي يطرحها الملابسات التي جعلت هؤلاء الجواسيس يعملون لصالح جهاز مخابرات دولة أجنبية، ومن ثمة يخونون دولتهم. فإنه في المقابل يؤكد على أنه لا يوجد مقابل يمكن قبوله أو تبريره لخيانة الوطن.

يقول “في الأغلب ومهما طال الزمن فسيتم الإيقاع بالجاسوس الخائن وإلقاء القبض عليه. وبدلا من أن يكون المرء بطلا قوميا يفخر بنفسه وتفخر به عائلته ودولته إذا أبلغ عن محاولة تجنيده، نجده يصبح خائنا ويجلب العار والمهانة لنفسه وعائلته على مدى العمر. وفي النهاية لا شيء يظل مجهولا ومخفيا”.

ويشير إلى أنه في إطار نشر هذه الثقافة الأمنية نجد أن عددا كبيرا من الجامعات في أميركا والدول الأوروبية تدرّس مقررات أكاديمية في “المخابرات” والجاسوسية والأمن القومي.

وفي الوقت الذي نجد فيه ضباط مخابرات متقاعدين من وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ينشرون كتبا أو مقالات موضوعية في إطار الشفافية والتوعية الأمنية والدروس المستفادة، نجد ظاهرة أخرى أخذت تنتشر بين ضباط الموساد -المخابرات الخارجية الإسرائيلية- حيث يعمد الكثير منهم إلى نشر كتب لأسباب شخصية عن قضايا جاسوسية للموساد، سواء لأسباب مادية أو كتصفية حسابات.

ويلفت الخولي إلى أن هناك عدة مواصفات توضح وتحدد أن هذا الشخص جاسوس وهي: أولا، أن يتعاون مع جهاز مخابرات أجنبي. ثانيا، أن يتلقى احتياجاته من المعلومات ويرسلها. ثالثا، أن يتلقى مقابلا عن ذلك؛ سواء مكافأة مالية أو هدايا أو خدمات. فإذا لم تكن هذه الأمور متواجدة في العلاقة بين الشخص الأجنبي والمواطن فهي علاقة إنسانية عادية. أما إذا كانت هناك شبهة شك في أي من هذه النقاط، فعلى المواطن أن يتخذ الإجراء الأمني اللازم بالإبلاغ.

إجراءات أمنية احترازية
يشدد الخولي على وجوب اتخاذ الجهات الرسمية إجراءات أمنية احترازية لمنع تسرب المعلومات الهامة، ومن هذه الإجراءات تلك المتبعة في جهات حكومية أميركية وأوروبية وفي الشركات العالمية حفاظا على أسرار عملها.

ومن أهم هذه الإجراءات التي يضعها الخولي:

الكتاب يبرز أن الثقافة الغربية تتناول قضايا المخابرات والجاسوسية في إطار من الشفافية وحق المعرفة
الكتاب يبرز أن الثقافة الغربية تتناول قضايا المخابرات والجاسوسية في إطار من الشفافية وحق المعرفة
فرض نظام للسيطرة على الوثائق والمعلومات الهامة والسرية من حيث تحديد من لهم حق الاطلاع عليها، وإيجاد سجل لتحديد من الذي اطلع على معلومة معينة ومتى ولماذا وماذا فعل بها؟ وينطبق ذلك على المعلومات المحفوظة إلكترونيا أو في الملفات الورقية.


وضع نظام صارم لتصوير الوثائق والمستندات، يشمل بيانات حول الوثيقة، الشخص، التوقيت، وعدد النسخ.
الرقابة الإلكترونية على المعلومات المحفوظة إلكترونيا وضبط عملية تحويل المعلومة، ونسخها في أقراص مدمجة أو بريد إلكتروني وما إلى ذلك.


وضع كاميرات مراقبة قي الطرقات وفي الأماكن الحساسة في المنشأة مثل غرفة الأرشيف وتصوير المستندات.
تطبيق نظام تفتيش الأفراد بصورة مفاجئة بحيث يتم اختيار عينة عشوائية في مواقع وتوقيتات مختلفة.
التنبيه على الأفراد بضرورة الإبلاغ عن أي شخص يحاول الاطلاع على معلومة لا تدخل في نطاق اختصاصه.
ويرى الخولي أن هذه الإجراءات الأمنية الاحترازية تتخذها جهات وشركات في دول أخرى، ولكن ما نركز عليه هنا هو الوعي الأمني، ذلك السلاح الشخصي الذي يجعل الفرد مدركا لما هو خطر على الأمن، وما هو ضد الأمن، سواء الأمن الشخصي أو أمن المعلومات. وإلى جانب ما تقوم به الأجهزة الأمنية المصرية في مجال الوعي الأمني، هناك أدوار أخرى مكملة يجب أن تنفذ؛ ويأتي في مقدمتها من حيث قوة التأثير “الإعلام” و”الدراما”.

ويشير إلى أن الرأي العام يتأثر بما يعرض في وسائل الإعلام المختلفة سواء كانت برامج أو ندوات أو مقالات أو دراما.

وتسعى الدراما التلفزيونية من حين لآخر إلى أن تقدم -بالتنسيق مع المخابرات العامة- مسلسلات من ملفات هذا الجهاز العريق، تبرز البطولات الوطنية، وترفع الروح المعنوية للمواطن، وتزيد من مشاعر حب الوطن والإخلاص له وزيادة الوعي الأمني.

غير أنه من الضروري أن تكون التوعية الأمنية متضمّنة في المسلسلات التي تتناول موضوعات اجتماعية عادية، بحيث يمكن أن تتضمن بعض المشاهد موقفا يتعرض فيه أحد أبطال المسلسل لعملية اقتراب منه من جانب ضابط مخابرات أجنبي يحاول تجنيده ليكون جاسوسا، ويقوم المواطن بإبلاغ الجهات الأمنية المختصة، سواء لإدارة الأمن في الجهة أو لمكتب المخابرات العامة في المحافظة التي يقيم بها.

وإلى جانب ذلك من المفيد إنتاج المزيد من المسلسلات التي تسهم في زيادة الوعي الأمني بالتنسيق مع جهاز المخابرات العامة وتكون من واقع ملفات تلك المخابرات. ناهيك عن أهمية إعادة عرض المسلسلات التي تطرقت للمسألة، من حين لآخر، لإتاحة الفرصة للشباب لكي يشاهدوها والاستفادة منها.

وينبه الخولي إلى أن العمليات الإرهابية التي تتعرض لها مصر منذ فترة ليست بالقصيرة هي من تخطيط أجهزة مخابرات أجنبية، بغض النظر عن القائمين بالتنفيذ. مؤكدا على دور الأسرة حيث يقول “يجب أن يكون هناك دور تربوي أمني تقوم به الأسرة مع أطفالها، ليدركوا خطورة وجود شخص غريب في المنطقة أو في السينما أو في السوبرماركت أو أي منشأة ويكون حاملا حقيبة ثم يتركها ويخرج. لذا يجب تعليمهم أهمية سرعة الإبلاغ عن ذلك”.

ويؤكد ارتباطا بدور الأسرة، أن هناك دورا هاما للمدرسة مع الأطفال والشباب من الابتدائي إلى الثانوي. وليس المقصود وجود مقرر دراسي في الوعي الأمني. فقد يكون ذلك مفيدا، ولكن الأكثر إفادة وتأثيرا وفاعلية هو التلقين الشخصي والحوار مع الأطفال والشباب، مع إمكانية استخدام أفلام مصورة تعرض عليهم في الفصل ويعقبها شرح من خبير أمني يتم استقدامه للحديث مع الأطفال والشباب، قد يكون ضابطا ما زال في الخدمة ويتم التنسيق مع جهة عمله للقيام بهذه المهمة، أو يكون ضابطا متقاعدا لديه خبرة عملية سابقة.

الاختراق السيبراني
ويدعو الخولي إلى وجوب الاحتراس وتوخي الحذر عند استخدام “وسائل التواصل الاجتماعي”. ويضيف “أن الاستخدام الخاطئ للفيسبوك بصفة خاصة يسبب مخاطر أمنية شديدة، فأجهزة المخابرات والتنظيمات الإرهابية تستخدم هذه الوسائل وتخترق الحسابات الشخصية للأفراد لتجمع المعلومات الشخصية عنهم وعن عائلاتهم وأصدقائهم وتعاملاتهم وتحركاتهم وأدق الخصوصيات والعلاقات المتداخلة والشؤون المالية. ثم تقوم بتحليل هذه المعلومات لاختيار من ترى أنه يصلح للتجنيد وتحدد كيفية الاقتراب منه”.

وتشكل الهواتف الحديثة المزودة بإمكانيات تكنولوجية متطورة خطورة شديدة على الأمن الشخصي؛ ولذلك فإن تعليمات الأمن في الكثير من الدول لمختلف الجهات الحكومية، والشركات الكبيرة العالمية تقضي بعدم إدخال الهاتف المحمول إلى المبنى الذي تتواجد فيه المكاتب وغرف الاجتماعات.

ويرجع السبب في ذلك إلى أن جهاز الهاتف يمكن أن يتحول إلى جهاز تسجيل أو تنصت على ما يدور في الغرفة من خلال تقنيات متقدمة يمكن أن تستخدمها أجهزة معادية.

ويعكس ما تعرض له السير جون سويرز حجم الخطر المحدق بالأشخاص جراء التساهل في استخدام الفيسبوك، حيث وضعه اختراق لحسابه الشخصي في موقف أمني حرج، وهو الذي كان من المقرر أن يتسلم عمله كرئيس لجهاز المخابرات الخارجية البريطاني MI6 في نوفمبر 2009.


الخطر المحدق
جرت العادة أن تحاط هذه التعيينات بسرية عالية قبل استلام العمل. لكن السيدة شيللي زوجة السير سويرز نشرت في يوليو 2009 على حسابها في الفيسبوك أخبارا عن الأسرة وأصدقائها وعلاقاتها الاجتماعية مصحوبة بعدد من الصور والكثير من التفاصيل، والغريب أنها لم تضع أي قيود حمائية على ما نشرته في حسابها، مما جعله متاحا لحوالي 200 مليون مستخدم بغض النظر عن أماكن تواجدهم.

وبمجرد رصد ذلك الأمر تم تنبيه وزارة الخارجية وMI6 وتم حذف ما نشر من تفاصيل شخصية وعائلية عنه. الحقيقة المؤكدة في أمر الفيسبوك أنك لست وحدك في حسابك مع أصدقائك فقط أو الدائرة المحدودة التي تتصور أنها هي فقط التي تطلع على ما تنشره في حسابك. فالفيسبوك يعتبر مصدرا هاما يجعل أي جهاز مخابرات يسعى وراءه؛ فهو يتيح إمكانية الوصول إلى ملايين الأسماء والعناوين والأصدقاء ودوائر المعارف والوظائف والأنشطة والحسابات البنكية وبطاقات الائتمان.

ويلفت الخولي إلى مصدر آخر للمعلومات تستخدمه أجهزة المخابرات التي تتابع الشؤون المصرية وهو صفحة الوفيات حيث اعتاد المواطنون الإعلان عن حالات الوفيات في الأسرة بالنشر في الصحف. والإعلان عن وفاة شخص في حدّ ذاته وإبلاغ المعزّين بمكان وتوقيت العزاء ليس فيه أي ضرر، ولكن الخطر يكمن في صياغة النعي التي تشمل الأقارب ووظائفهم وأماكن عملهم تفصيلا وتحديدا، ويصل الأمر في الكثير من الأحيان إلى التباهي والتفاخر بالمناصب والوظائف. ولعله يكون من الأفضل أن يراعى الاختصار في مثل هذا الأمر والاكتفاء بالبيانات الأساسية والأقارب من الدرجة الأولى -دون وظائف وجهات عمل- بالإضافة إلى مكان وتوقيت العزاء.

تؤكد قضايا الجاسوسية التي تناولها الخولي إلى أن الكشف عن العملاء كان نتيجة عمل إيجابي من جانب شخص لديه شعور بالمسؤولية والحس الأمني، حيث تنبه إلى تصرف معين وساوره بشأنه الشك، وقام بالإبلاغ عنه، أو شخص مسؤول ظل يبحث عن الثغرة الأمنية التي يحدث تسرب المعلومات السرية من خلالها، ولم ييأس وظل يبحث إلى أن توصل إلى المتسبب في الخسائر الأمنية التي تضرّ بالأمن القومي للدولة