هاني مسهور يكتب:
الخليج 1980: الإمارات على خط النار الدبلوماسي
من قلب الضربات العميقة التي تهز إيران من داخلها، ومن بين أصداء الانفجار في السراديب والمخازن النووية، تتشكل خريطة جديدة للردع الإقليمي، إسرائيل تضرب، وإيران تصمت أو تتعثر في الرد، بينما العيون تتجه إلى الخليج العربي، لا بوصفه طرفا في المواجهة، بل كمنطقة الرهان، وساحة الانفجار المحتمل، وسط هذا الاصطدام التاريخي بين محورين مسلحين بالأيديولوجيا والتكنولوجيا، تخرج الإمارات كصوت مختلف، تحاول أن تقول للعالم ليست كل الدول تصطف خلف النار.
الإمارات العربية المتحدة، ومنذ عقود، تؤمن بأن الاستقرار ليس خيارا ظرفيا، بل هوية إستراتيجية، وفي هذا المشهد المشتعل تقدّم نفسها من جديد كدولة مسؤولة، تحاول عبر أدواتها الدبلوماسية والسياسية أن تُبقي باب العقل مفتوحا، لا تنفي حقيقة أن إسرائيل وإيران دخلتا طور المواجهة المفتوحة، ولا تتجاهل طبيعة الصراع مترامي الأطراف الذي يتحرك من غزة إلى صنعاء، ومن لبنان إلى قلب طهران، لكنها في الوقت نفسه تدرك جيدا أن اشتعال الجبهة الكبرى سيجرف الجميع.
منذ الساعات الأولى للضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت شخصيات رفيعة في الحرس الثوري الإيراني، تَبيّن أن طهران مكشوفة، وأن اختراقها الاستخباري بلغ مستويات حرجة، ومع كل طلعة إسرائيلية، ينهار جزء من سردية “التفوق الإيراني”، وتتراجع هيبة “محور المقاومة” أمام ضربات مركزة تكشف كم كان النفوذ الإيراني هشا، رغم تمدده، لكن مع كل انفجار داخل إيران ثمة سؤال يجب أن يُطرح عربيا: من سيدفع ثمن هذا الصدام إذا تجاوز خطوطه الرمادية وتحول إلى حرب إقليمية شاملة؟
موقف الإمارات اليوم لا يهدف إلى التوازن الرمادي، بل إلى بناء موقف عربي عقلاني، يحصّن المنطقة من الانزلاق إلى جبهات مفتوحة
الإمارات، ومعها دول الخليج العربية، تعرف الجواب جيدا، لقد عاشت هذه المنطقة لعقد كامل تحت ظلال صدامات الآخرين، الحرب العراقية – الإيرانية لم تكن على حدود إيران فقط، بل مزقت الخليج العربي كله، نزف العراق لعقود، وانكفأت إيران في حرب طويلة ثم خرجت منها أكثر عدوانية واندفاعاً، ودول الخليج العربي، التي لم تكن طرفا مباشرا في الحرب، دفعت أثمانا باهظة من استقرارها وأمنها وتوازنها الاقتصادي، من هذا المنطلق تبدو طبول الحرب في وعي الخليج السياسي، وفي الإمارات تحديدًا، كإنذار لا يُغري، بل يُحذّر، فالذاكرة مثقلة بتجارب لم تكن انتصاراتها دون أثمان باهظة.
تدرك القيادة الإماراتية أن المنطقة لا تحتمل “حربا كبرى”، فالحروب حين تبدأ لا تعود تسأل عن الجغرافيا ولا عن الانحيازات، وقد جرّبت الإمارات ذلك حين امتد حريق الحوثيين من صعدة إلى كل شبه الجزيرة العربية، لكن رغم قدرتها العسكرية الكبيرة وتحالفاتها الدولية القوية، فإن الإمارات لم تختَر الانجراف خلف مشاريع التوسّع أو الانتقام، كانت دائما تؤمن بأن الردع لا يُختزل في الصاروخ، بل يُبنى في المدرسة والميناء والمستشفى، وأن البناء هو أقوى سلاح ضد الفوضى.
وفي ظل هذا الاصطدام يبدو واضحا أن الخليج العربي كله، بقيادة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، يراجع حساباته بعناية، نعم، لا أحد يثق بإيران النووية، ونعم، لا أحد ينسى دورها في دعم الميليشيات وتخريب العواصم، لكن الوقوف على حافة حرب عالمية مصغّرة بين إسرائيل وإيران ليس خيارا مقبولا، خاصة وأن إيران تحاول جرّ المنطقة إلى هذا المستنقع لتفرض نفسها مجدداً على طاولة التفاوض، أو لتكسب تعاطفا زائفا من الشارع العربي.
إن الصمت الخليجي المدروس اليوم لا يعني الحياد، بل يعني الحسابات الدقيقة، فبينما يخوض الإسرائيليون معركتهم الأمنية، ويتلقى الإيرانيون صفعة تلو أخرى، يتحرك العرب المسؤولون لإطفاء الحريق، وليس لصب الزيت فوقه، وهذا هو الفرق الجوهري بين دولة تعتقد أن الهيمنة تمر عبر الخراب، وأخرى تعتقد أن النفوذ الحقيقي لا يُبنى إلا عبر التنمية والانفتاح والشراكات المستقرة.
الحقيقة أن العالم يجب أن يستمع أكثر لصوت الإمارات، هذا الصوت الذي لا يصرخ، لكنه لا يسكت، لا يهدد، لكنه لا يهادن، لا يُزايد، لكنه يعرف جيدا أين تقف مصالحه، ومن المؤلم أن هذا الصوت يتم تهميشه أحياناً وسط ضجيج البنادق وخطابات الحروب “المقدسة”، رغم أنه الصوت الوحيد المتزن الذي يحذّر من تكرار مآسي الماضي.
المعركة الحالية بين إسرائيل وإيران، التي قد تتوسع إلى لبنان واليمن والعراق، يجب ألا تُترك وحدها في يد اللاعبين المهووسين بالحسم الدموي، على العرب العقلاء، وعلى رأسهم الإمارات، أن يواصلوا لعب دور الموازن والمسؤول، ليس فقط بدافع الخوف من النار، بل من منطلق الوعي بأن المنطقة لن تنجو إذا احترق أحد أطرافها.
طبول الحرب في وعي الخليج السياسي، وفي الإمارات تحديدًا، تبدو كإنذار لا يُغري، بل يُحذّر، فالذاكرة مثقلة بتجارب لم تكن انتصاراتها دون أثمان باهظة
صحيح أن الإمارات ليست قوة عظمى، لكنها دولة تملك رؤية، وصحيح أن دبلوماسيتها لا تصنع المعجزات، لكنها تمنع الكوارث، وفي لحظات الجنون الكبرى لا نحتاج إلى مزيد من الصواريخ، بل إلى مزيد من الشجاعة لنقول لا للحرب، لا لتمديد الألم، لا لإعادة استنساخ الكوابيس التي كنا نظن أننا دفناها منذ الحرب العراقية – الإيرانية.
رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أجرى اتصالات هاتفية مع قادة دول مؤثرة في الاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية، وكان وزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان مختتِمًا جولة للعاصمة الأميركية واشنطن استهدفت تعزيز دعم الحوار السياسي بين الأطراف في قضية الملف النووي الإيراني، الوساطة العُمانية الخليجية هي إحدى أهم الفرص التي يجب تدعيمها، وعيًا بأن أي تصعيد جديد في المنطقة قد يؤدي إلى كارثة إقليمية شاملة، لا تقف تداعياتها عند حدود إيران أو إسرائيل فقط، بل تهدد الاستقرار في الخليج والشرق الأوسط برمته.
وعليه، فإن دبلوماسية الإمارات تنطلق من إدراك عميق بأن تفادي المواجهة الكبرى لا يعني الحياد السلبي، بل يفرض دورًا استباقيًا في إدارة الأزمة وضبط إيقاع التوتر، فالإمارات، التي راكمت خبرة نوعية في العمل الوسيط خلال العقود الخمسة الماضية، تدرك أن نوافذ التفاوض تضيق بسرعة، وأن الفرصة المتبقية لاحتواء الأزمة النووية الإيرانية والردع المتبادل بين طهران وتل أبيب تمرّ حصرًا عبر مسارات دبلوماسية هادئة لا عبر البيانات المتشنجة أو الاصطفافات الحادة.
إن موقف الإمارات اليوم لا يهدف إلى التوازن الرمادي، بل إلى بناء موقف عربي عقلاني، يحصّن المنطقة من الانزلاق إلى جبهات مفتوحة، ويؤسس لتفاهمات مستدامة تتجاوز اللحظة الانفعالية، وتُعيد ضبط ميزان المصالح الإقليمية على أساس الأمن المشترك، واحترام السيادة، ونبذ التدخلات الخارجية.
اليوم، كل خطوة دبلوماسية إماراتية، وكل تواصل هادئ خلف الكواليس، يعتبران محاولة حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن المنطقة لا تحتاج بطولات في الظلام، بل تحتاج شجاعة في النور، وما تفعله الإمارات اليوم هو بالضبط ما يجب أن تفعله أي دولة رشيدة، أن تقف على الحافة، لا لتقفز، بل لتمنع الآخرين من السقوط.