محمد النصراوي يكتب لـ(اليوم الثامن):
إيران وإسرائيل.. معادلة ردع جديدة أم بوابة تصعيد إقليمي؟
تشهد العلاقة بين إيران وإسرائيل تحولاً دراماتيكياً في قواعد الاشتباك، بعد عقود من المواجهات غير المباشرة التي اتسمت بحرب الظلال عبر الوكلاء أو الضربات السرية. ما حدث مؤخراً، مع قصف إيراني مباشر للعمق الإسرائيلي ورد إسرائيلي استهدف منشآت حساسة في إيران، يشير إلى نقطة انعطاف خطيرة. لم يعد الصراع محصوراً في المناورات الخفية، بل أصبح علنياً وجريئاً، مع تبعات إقليمية ودولية تثير التساؤلات حول طبيعة معادلة الردع الجديدة وإمكانية انزلاق المنطقة نحو حرب شاملة.
خلال الأيام الماضية، نفذت إيران هجوماً غير مسبوق بأكثر من 150 صاروخاً باليستياً وعشرات المسيرات، استهدفت مواقع استراتيجية في العمق الإسرائيلي، بما في ذلك القدس وتل أبيب. هذا الهجوم، الذي أسفر عن قتلى وجرحى وارتباك أمني، يمثل أول رد إيراني مباشر منذ عقود، متجاوزاً بذلك نهجها التقليدي المعتمد على حلفائها في "محور المقاومة". اللافت أن الصواريخ الإيرانية تمكنت من اختراق منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية المتطورة، مما أثار تساؤلات حول جاهزية إسرائيل وفعالية ردعها.
في المقابل، ردت إسرائيل بضربات جوية استهدفت منشآت حساسة في نطنز وأصفهان ومحيط طهران، بما في ذلك مواقع مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني. هذه الضربات، التي وصفت بأنها "استباقية"، تهدف إلى تعطيل القدرات العسكرية والنووية الإيرانية، لكنها كشفت أيضاً عن جرأة إسرائيلية متزايدة في استهداف العمق الإيراني.
ما يميز هذه الجولة ليس فقط حجم الضربات، بل التصريحات العلنية التي أعقبتها. إيران أكدت عزمها على فرض معادلة ردع جديدة، بينما توعدت إسرائيل بردود "مؤلمة"، مما يعكس تصلباً في المواقف قد يصعب احتواؤه.
لطالما اعتمدت إسرائيل على تفوقها العسكري والتكنولوجي لضرب أهداف إيرانية دون مواجهة رد مباشر. لكن الهجوم الإيراني الأخير، الذي أظهر قدرة طهران على إصابة أهداف استراتيجية داخل إسرائيل، هز الثقة بمنظومة الردع الإسرائيلية. اختراق الصواريخ للدفاعات الجوية، إلى جانب التوقيت الحساس الذي يتزامن مع انقسام سياسي داخلي وانشغال الجيش الإسرائيلي في جبهات متعددة (غزة، الضفة، لبنان)، كشف عن ثغرات في الجاهزية الإسرائيلية.
من جانبها، أثبتت إيران أنها قادرة على تغيير قواعد اللعبة. الرد المباشر، بدلاً من الاعتماد على وكلاء مثل حزب الله أو الحوثيين، يعكس استراتيجية جديدة تهدف إلى رفع كلفة أي هجوم إسرائيلي مستقبلي. إيران، بذلك، لم ترسل رسالة ردع فحسب، بل حاولت إعادة ترسيم الخطوط الحمراء، مؤكدة أن استهداف مصالحها أو قياداتها لن يمر دون رد موجع.
ومع ذلك، لا يمكن الجزم بأن إيران نجحت في فرض توازن ردع مستقر. الردع المتبادل يتطلب استقراراً في الحسابات الاستراتيجية، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل التوترات الحالية. إسرائيل، رغم ارتباكها الأولي، لا تزال تمتلك تفوقاً عسكرياً ودعماً دولياً، خاصة من الولايات المتحدة، مما يتيح لها خيارات رد واسعة.
أثارت الضربات المتبادلة ردود أفعال متباينة. إقليمياً، أبدت دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، قلقاً من التصعيد، محذرة من تداعيات حرب إقليمية. الأردن، الذي أسقط مسيرات إيرانية عبرت أجواءه، أكد حياده، بينما أدانت مصر الضربات الإسرائيلية ووصفتها بـ"غير المبررة". هذه المواقف تعكس مخاوف الدول العربية من انزلاق الصراع إلى مواجهة شاملة تهدد استقرار المنطقة.
دولياً، دعمت الولايات المتحدة إسرائيل بشكل واضح، حيث أكد الرئيس دونالد ترامب أن بلاده "مستعدة للدفاع عن إسرائيل"، مع الإشارة إلى ضرورة منع إيران من امتلاك سلاح نووي. في المقابل، حثت دول مثل روسيا وألمانيا على ضبط النفس، محذرة من عواقب التصعيد. هذا التباين في المواقف يعكس تعقيد المشهد الدولي، حيث تسعى القوى الكبرى إلى تحقيق توازن بين دعم حلفائها وتجنب حرب إقليمية.
رغم نجاح إيران في رفع سقف المعادلة، فإن الردع المتبادل يحمل مخاطر جمة. إذا لم يتم ضبط التصعيد، قد تتحول الضربات المحدودة إلى مواجهة مفتوحة. إسرائيل، التي تواجه عزلة دولية وانقساماً داخلياً، قد تلجأ إلى ضربات أكثر عنفاً لاستعادة هيبتها. في المقابل، قد تدفع إيران، التي تسعى لتعزيز صورتها كقوة إقليمية، نحو تصعيد إضافي إذا استمرت الضربات الإسرائيلية.
المنطقة، بتعقيداتها السياسية والاقتصادية، لا تتحمل حرباً شاملة. دول مثل العراق ولبنان، المتأثرة بشكل مباشر بأي تصعيد، قد تجد نفسها ساحة للصراع. كما أن تداعيات الحرب قد تمتد إلى أسواق الطاقة العالمية، خاصة إذا استهدفت إيران أو إسرائيل البنية التحتية النفطية.
ما حدث بين إيران وإسرائيل ليس نهاية مرحلة، بل بداية لتوازن ردع جديد، لكنه توازن هش وقلق. إيران أثبتت قدرتها على الرد المباشر، لكنها تواجه تحديات داخلية ودولية قد تحد من فعالية استراتيجيتها. إسرائيل، رغم تفوقها العسكري، تجد نفسها مضطرة لإعادة حساباتها في ظل ضعف داخلي وعزلة متزايدة.
السؤال المركزي يبقى: هل ستؤدي هذه الضربات إلى ترسيخ معادلة ردع متبادل، أم ستفتح أبواب حرب إقليمية؟ الإجابة تعتمد على قدرة الطرفين على ضبط النفس، وعلى دور القوى الدولية في احتواء التصعيد. في النهاية، تبقى المنطقة على مفترق طرق، حيث يحدد كل قرار مصير الاستقرار الإقليمي لسنوات قادمة.