عمر علي البدوي يكتب:
في الذكرى الثانية لمقاطعة قطر
مع حلول الذكرى الثانية لمقاطعة قطر، فتحت الدوحة شاشاتها وساعاتها لمحاولة لفت انتباه المجتمع الإقليمي والدولي وتعزيز روايتها، والبحث عن منقذ يحرك مياه الأزمة المهملة وحل المشكلة التي علقت بها منذ قرر الرباعي العربي أن يعاقب النظام هناك، ويمنعه من الإسراف في سلوكه المؤذي ويجبره على دفع فاتورة أخطائه الفادحة التي ارتكبها في حق المنطقة، والكفّ عن سيرة طويلة من التأليب والتحريض وتأجيج المحيط العربي والإسلامي ضدّ عواصم الاعتدال والاستقرار.
بعد انقضاء عامين على قرار المقاطعة، لا يبدو أن الدوحة ماضية إلا في المزيد من الهروب إلى الأمام. تمعن في المكابرة رغم ما تتكبده من خسارات في المكانة والاقتصاد والقلق الذي يفتك بها وهي تتقلب بين النقيض ونقيضه لتنجو من الشبكات المعقدة التي أبرمتها طيلة سنوات التسامح والعفو وغضّ الطرف من الجيران، وعندما حانت ساعة المواجهة العارية من كل المجاملات، أسقط في يد الدوحة وتجرعت من كأس المرارات التي كثيرا ما أهرقتها في خرائط البلدان العربية التي فتحت رياح الربيع العربي بواباتها العتيقة.
تتعامى قطر قصدا أو نتيجة قصور في الفهم وتواضع في الاستيعاب، وتعتقد أن ما أقدمت عليه العواصم العربية الأربع عند مقاطعتها هو نتيجة “الغيرة” من ثروتها وتنامي سمعتها ونفوذها.
وهذا تفسير سطحي لا يقل عنه الترويج لكذبة نوايا الغزو التي تتستّر بها قطر للتغطية على حقيقة الدوافع والأخطاء التي جرّتها إلى هذه النتيجة الصادمة.
لا نجاة للدوحة ممّا أوقعت نفسها به، إلا سبيل الحكمة التي ضيعته منذ اختارت أن تناصب جيرانها العداء، وتمتطي الجماعات المتشددة التي أغرتها بالانتشار والتأثير، لكنها وقعت في شرّ حبائلها.
ولا نجاة للدوحة إلا بمراجعة سياساتها التي أوردتها الصدام الحتمي مع المنطق والعقل، بدل الإمعان في تبني خطابات التشويه والتأليب التي تفاقم الفجوة وتشذّ بقطر عن سفينة الخليج بلا رجعة.
لم يبقَ لدى قطر بعد أن عزف الجمهور العربي عن متابعة محطاتها الإعلامية -رغم ما نالته من الدعم المفتوح والتمويل الضخم- وقد غرقت في ازدواجيتها، إلا أن تبتكر سياسة الانسحاب؛ إذ أصبح من عادة الوفود القطرية التي تشارك في اللقاءات والاجتماعات العربية والدولية الانسحاب، لتسجيل موقف ما وإثارة الانتباه وإحداث جلبة قد تجتذب عناية من يتحفز لحل معضلتها.
فعلت ذلك في قمة تونس العربية، وذهبت مع الريح، وكررتها خلال قمم مكة التي حضرتها بإشارة أميركية وحثتها على رفع مستوى التمثيل فيها، وذهبت هي الأخرى مع الريح، لتعود وتلملم بعض جلبتها المهدرة عبر بيان ينقض ما غزلته مع محيطها العربي والإسلامي.
ينسجم هذا مع سياساتها المألوفة في التناقض، إذ ترتع الدوحة في بحر من التناقضات، فهي التي تظللها قاعدة أميركية ثم تمدّ يدها مع إيران، وتؤلب ضد الحل السلمي في فلسطين وهي التي كانت أول من هرول إلى تل أبيب، وتشجب التدخل في شؤون السودان فيما تمدّ ميليشيات طرابلس الليبية بالمال والسلاح ونحيب الشاشات، وتولول على اختلاف العرب وتشظي لحمتهم وتكون أول من ينقض غزلها وتعتصم بالأتراك لشق الصف العربي الذي يلملم شتاته من جديد.
من جهة أخرى تشكل الخسارات العريضة التي تكبدتها الدوحة منذ واجهت حقيقة ما يعوزها من التأثير والنفوذ والإمكانات، زيادة في كلفة نتائج المقاطعة وآثارها المريرة، وتعوّض هذا بزيادة جرعات المظلومية المدّعاة في خطابها إلى الخارج، والنفخ في الإنجازات العابرة إلى الداخل، وتراهن على اشتباك كبير يفجر المنطقة وتنجو فيه من فعلتها، رغم أن خطاب الرباعي العربي لم يتبدل ولم يتزحزح؛ وضوحا ودقة ومباشرة، وكان آخر تعبيراته في تعليق وزير الخارجية السعودي، إبراهيم العساف، على هامش قمم مكة، حينما أشار إلى ترحيب بالحوار مع قطر ولكن بشرط أن تعود هذه الأخيرة إلى “طريق الصواب”.
فهل من رجل رشيد؟