عمر علي البدوي يكتب:
التسامح ليس وجبة جاهزة
يحدث في العالم العربي الكثير من المناسبات التي تعزز من صور التسامح، وترفع عن كاهل هذه القطعة الجغرافية المثقلة بالمشكلات، أعباء المراحل التاريخية التي يتزايد ركامها، وتنزف على أطرافها ومن أعماقها عرى السلام وفرص الوئام.
سمّت دولة الإمارات عامها هذا بشعار التسامح، وبلورت مجموعة من المبادرات المهمة لإغناء هذا المفهوم في العالم العربي. واستقبلت بابا الفاتيكان الذي التقى شيخ الأزهر وأبرما وثيقة للأخوة الإنسانية يراد لها أن تكون مفتتحا لعهد جديد أكثر فألا وأملا، برجاء أن ينعكس هذا على الواقع.
تفعل السعودية اليوم الكثير في هذا الإطار، تنقب في مكنوزها عن نسخة أكثر انفتاحا واعتدالا تدعم هذا النمط في مؤسساتها المحلية والعالمية، بتسميتها الشيخ محمد العيسى، على رأس مؤسسة رابطة العالم الإسلامي، وهو من وجوه الاعتدال الأصيلة في المنطقة، ليساعد في شحذ جهود التسامح العربية والإسلامية.
في مصر قلب العروبة، ينتظر مؤسسة الأزهر دور مهم في هذه المرحلة، وشيخه أحمد الطيب لا تعوزه الملكة ولا العدّة لهذه المهمة.
يساعد هذا بلا شك في انتشال المنطقة من سلسلة الانهيار الملازم لها منذ عقود، جروح التاريخ التي بقيت مهملة واستفزتها الأحداث اليوم، وندوب الماضي التي تبدو ظاهرة وتشوه الحاضر. تحتاج إلى جهد من هذا النوع، إلى تسامح يحرّك رواكد الواقع وتمرير شروط الخروج منه وتوفير الوصفة الملائمة للحل.
هناك رأي يقول إن عملية تطوير الواقع تؤدي آليا إلى تطوير الخطاب والفكر الحاكم في المنطقة، وإن الجهود لا بد أن تترك أثرا ولو بعد حين، وإن الواقع سيستوعب ويهضم حالة التطوير هذه. لكن، هل يمسّ هذا عمق ما تنطوي عليه أحشاء المنطقة وتضاعيفها الفكرية من مكنونات التشدد والعنف ورفض الآخر وإقصائه وربما إلغائه؟ هل يتعدى هذا الاحتفاءُ المفهومَ ويتجاوزه إلى بواطن الوعي وكوامن النفس ودفائن العقل، بحيث تختلط روح التسامح بشغاف القلب وأنسجة العقل وأوعية الروح، ويتبنى الإنسان العربي فعل التسامح كجزء أصيل من سلوكه؟
ثم، كم يتحمل هذا الآخر من مسؤولية تجاه ما يضطرم في جسد هذه الأمة المنهكة من مناسبات الحزن والألم؟ ما حجم استعداده للعب دور أقل انتهازية وأكثر جدية في وقف إرهاق المنطقة بمشروعات الاستنزاف ومتوالية الورطات السياسية؟
بطبيعة الحال، لن تتوقف الأطماع الامبريالية، القوى العظمى تبحث عن مصالحها وتدافع وتقاتل من أجلها، وأنت بدورك لا تستطيع لوم أحد لأنه يهتم بشؤون بلده، يستثمرون في نقاط ضعف العرب ويتقاطرون لاستنزافه. ينصبون خيام النصائح غير المجانية لإدارة شؤونه. يحدث ذلك أحيانا على حساب الدول العربية بعضها في مواجهة بعض.
يعدّ الدين أهم مكونات الفرد العربي، هوية ووجدانا وسلوكا، ولا يمكن تفويت محوريته في عملية ترميم الواقع، وتظهير سؤال “كم حظ ما يتسع له واقع التدين من قيمة التسامح؟” .
هناك مناعة أيديولوجية ترفض أن يمسّ ما تراصف من التفسيرات الضيقة التي ولدت في سياق ظروف ما، بوصفها تعبيرا أصيلا عن مكنون الدين. وبذلك تخشى على ذهاب ريح الدين بالتعاطي معها، رغم أنه بالتمحيص سيبدو الفرق شاسعا بينهما.
ترفِد عاصمة خليجية شذّت عن الطوق، سردية مشوشة، تهاجم معنى نبيلا مثل التسامح فقط لأنه لا يصبّ في مصلحة الجماعة. تنتقص من فعالية هذه الجهود في إطار خصومتها مع الرباعي العربي الرافض للإرهاب ومؤداه من خطابات التشدد.
التسامح له شروط موضوعية، على رأسها أن يعيش المواطن مطمئنا آمنا على نفسه وقوته وعياله، منسجما مع واقعه، مستعدا للدفاع عنه، غير مستشعر لخطر أن يفلت بين يديه ذاك لمجرد أنه لا يروق لأحد ما.
أفضل طريقة للعيش بتسامح أن يرمم الواقع الهشّ، بحيث لا يصدر فعل التسامح شكلا خاليا أجوف من حقيقة قائمة، لا يصلح أن يبتسم إنسان خرِب من الداخل، ولا يشرق قلب منطفئ، ولا يشعّ وجه سرق المصباح من وجنته.
تحتاج هذه الأمة إلى رحلة طويلة وعسيرة للخروج من سيناء التشدد والفوضى، يبدأ بتحصيل الرشد من قبضة التيه، بإصلاح الواقع، وتوفير ملاءات الحياة الكريمة المستقرة، أن يسقط من قاموس الفرد العربي كلمات من قبيل الاستسلام والتخلف والتوقف عن الحياة، وتحلّ بديلاً عنها الكرامة والعدالة والثقة -الناضبة الآن- والأمل والنهضة.
المعركة طويلة، والعواصم العربية، والخليجية تحديدا تقوم بدورها مشكورة، إذ أشعلت شمعة وتوقفت عن لعن الظلام، فعلت ذلك وسط صحراء من الانهزام العربي وبؤس الواقع. تقدمت في حين تراجع الآخرون، أو توقفوا لدفع أثمان التردد وفواتير المكابرة عن تحقيق أدنى ما تتطلبه مسؤولياتهم تجاه شعوبهم وتراب أوطانهم.
آن لذلك أن يتحول، وأن تهضم هذه المنطقة قليلة الحظ، شروط نهضة جديدة، ولغة عمل مختلفة ومفاصلة لما مضى وانطوى، وتستقبل وجه الأيام المقبلة بكثير من التحفز لمواجهة التحديات ومنازلة المشاق والصعوبات ومكابدة شروط مستقبل مختلف وناهض.
لا يوجد تسامح من غير كُلفة، لأنه يأتي في شكل ما كمنطقة وسطى يضطر طرفاها إلى التفاهم عليها، وتوطين واقعهما على أساسها، تعني أحيانا أن تتنازل عن بعض الحظوظ من أجل تخليق حالة تواصل وتعامل آمن ومنتج ومربح للطرفين.
يزيد تعقيد ذلك في الظروف غير الطبيعية، وقد رزئت منطقتنا بأكثرها شررا وضررا، التسامح يصبح عمليا أكثر وألحّ، ذلك لأنه يكون بمثابة نافذة للخروج من مضيق تاريخي صعب. ولكنه أصعب، ذلك لأن التسامح تفسده الأجواء المشحونة وتثقبه الفضاءات الموتورة، ويفقد فعالياته إذا سحقته المعارك الحادة، يتبدد معناه ويرقّ محتواه، ويتهتك فيما تتناوله الأطراف المتصارعة من زواياها المتقابلة، تحاول كل جهة أن تبذله بناء على تفسيرها وتجتذبه إلى زاويتها، وبذلك يفقد المفهوم وهجه، ويخسر دوره.
لا يعني هذا أن يرتفع المعنى فوق الواقع، ويصبح طرحا مثاليا منزوعا من الوجاهة، ولكن أن تنعم العملية بحالة من الهدوء والموضوعية والاستقرار، أن تجري هندستها في الواقع على هدى حاجات المجتمع ومتطلباته.
تبيئة التسامح عملية تتطلب نفسا طويلا، واشتغالا إصلاحيا قد يستفز الكثير من الجبهات المحلية الخامدة تحت مكاسبها الصغيرة، لكنه ضرورة، بمعنى أنه لا يسعنا الانتظار أو التأجيل والتردد.