ألغام تفاوضية تهدد بانهيار خطة وقف الحرب..

رد حماس على خطة ترامب: قبول مشروط يترك المفاوضات على حافة الهاوية

وصف ترامب الرد بأنه دليل على الاستعداد لـ"سلام دائم"، فوجئ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بهذا التوجه، ما يعكس حجم التباين بين الأطراف.

رد حماس على خطة ترامب يفتح باب المساومات

محررو الشؤون الاقليمية
فريق تحرير يرصد الاخبار والتطورات في اليمن والاقليم والصراع الإيراني الإسرائيلي

بعد ساعات من إنذار أميركي شديد اللهجة حدد فيه الرئيس دونالد ترامب مساء الأحد كموعد نهائي، تلقى البيت الأبيض يوم الجمعة رد حركة حماس على خطته لإنهاء الحرب في غزة. لم يكن الرد قطعياً بالرفض أو القبول، بل جاء كنسيج معقد من الإيجابيات المشروطة والغموض المقصود، مما فتح الباب أمام تفسيرات متضاربة وترحيب حذر من واشنطن وحلفائها. في الوقت نفسه، لا تزال نقاط خلاف جوهرية تهدد بانهيار المفاوضات الهشة رغم هذا التطور. سارع ترامب إلى الترحيب بالرد الحمساوي ووصفه بأنه دليل على استعداد الحركة لـ“سلام دائم”، بل ودعا إسرائيل إلى “التوقف فوراً عن قصف غزة” لتأمين إخراج الرهائن بسلام. هذه الخطوة الأميركية السريعة فاجأت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كان يعدّ رد حماس رفضاً للمقترح، وتُمثِّل المرة الأولى منذ عودته إلى الرئاسة التي يحاول فيها ترامب الضغط علناً على نتنياهو لوقف القتال. ومع اقتراب الحرب من عامها الثاني مخلفةً أكثر من 66 ألف شهيد فلسطيني، يواجه الجميع ضغوطاً متزايدة لاقتناص فرصة وقف نزيف الدم وإنهاء الدمار.

فلسطينيون نزحوا من شمال غزة بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية يستريحون بعد إجلائهم جنوباً، في القطاع الأوسط من غزة، 3 أكتوبر 2025 – تُبرز مشاهد النزوح الجماعي حجم المأساة الإنسانية في غزة بعد حربٍ قاربت عامين.

ما الذي قبلته حماس؟

بحسب قراءة مقارنة لبيان حماس ونص خطة ترامب ذات الـ20 بنداً، يبدو أن الحركة وافقت على عدد من المطالب الرئيسية التي تشكِّل عمود الصفقة الفقري، وفي مقدمتها:

تبادل الأسرى والرهائن: أعلنت حماس استعدادها لإطلاق سراح “جميع أسرى الاحتلال الأحياء والجثامين وفق صيغة التبادل الواردة في مقترح ترامب، مع التأكيد على ضرورة توفر “الظروف الميدانية” الملائمة لتنفيذ ذلك. وتنص خطة ترامب على أن حماس ستفرج عن 20 رهينة إسرائيلية على قيد الحياة و28 جثة خلال 72 ساعة من التوصل لاتفاق، مقابل إفراج إسرائيل عن 250 أسيراً فلسطينياً محكومين بالمؤبد بالإضافة إلى 1,700 من معتقلي غزة منذ هجوم 7 أكتوبر 2023.

وقف إطلاق النار وانسحاب القوات: وافقت الحركة على إطار عام «يحقق وقف العدوان والانسحاب الكامل من القطاع»، مجدِّدة رفضها لاستمرار أي احتلال إسرائيلي. وهذا يتقاطع مع ما ورد في خطة ترامب حول أن القوات الإسرائيلية ستتراجع إلى الخط المتفق عليه ويتم تعليق الحملة العسكرية خلال تنفيذ عملية إطلاق الرهائن.

المساعدات الإنسانية وعدم التهجير: رحبت حماس ببنود زيادة المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار غزة، وأشادت بتأكيد الخطة على «عدم إجبار أحد على المغادرة» ورفض تهجير الفلسطينيين من القطاع. وقد تضمن مقترح ترامب بالفعل تعهداً بإدخال مساعدات مكثفة إلى غزة ورفضاً صريحاً لأي مخطط لترحيل جماعي لسكانها.

هذه التنازلات المشروطة من جانب حماس شكَّلت بارقة أمل لدى الوسطاء بأن اتفاقاً بات ممكناً لإنهاء حربٍ مدمرة، لكنها لم تأتِ بلا مقابل سياسي وأمني تطالب به الحركة لضمان تحقيق أهدافها.

نقاط الخلاف الجوهرية: أين تكمن التفاصيل الشيطانية؟

رغم هذا القبول الجزئي، تجاوز بيان حماس بحذر أو أعاد صياغة نقاط شائكة أخرى في خطة ترامب، في إشارة إلى أن الطريق نحو اتفاق نهائي ما زال مليئاً بالعقبات والتفاصيل الشيطانية الكامنة فيها:

نزع سلاح المقاومة (الغائب الأكبر): خلا بيان حماس تماماً من أي ذكر لبند نزع سلاح الحركة، رغم كونه من صلب الخطة الأميركية. تنص خطة ترامب على نزع سلاح حماس وعدم سماحها بأي دور مستقبلي في حكم غزة، وهو ما تعتبره إسرائيل مطلباً أساسياً. وبدلاً من الموافقة الصريحة على ذلك، أحالت حماس هذا الملف إلى «موقف وطني جامع» تتم مناقشته ضمن إطار فلسطيني أشمل ستكون هي جزءاً منه – في إعادة إنتاج لصيغة طُرحت سابقاً بمحادثات المصالحة الفلسطينية المتعثرة منذ سنوات.

إدارة غزة: السيادة الفلسطينية أم إشراف دولي؟ بينما تقضي خطة ترامب بتشكيل إدارة انتقالية في غزة من التكنوقراط الفلسطينيين تحت إشراف هيئة دولية مؤقتة برئاسة ترامب نفسه ومشاركة شخصيات مثل توني بلير، فإن حماس وافقت مشروطةً على تسليم إدارة القطاع «لهيئة فلسطينية من المستقلين (تكنوقراط)» تنبثق عن توافق وطني فلسطيني وتحظى بدعم عربي وإسلامي. هذا التباين يعكس خلافاً جوهرياً حول صاحب القرار النهائي في تشكيل هيئة الحكم وطبيعة الجهة المشرفة عليها، إذ ترفض حماس ضمناً هيمنة دولية مباشرة على غزة. وقد صرّح قياديها موسى أبو مرزوق صراحةً: “لن نقبل أبداً بأن يحكم غزة أحدٌ من غير الفلسطينيين” في رفض خاص لتولي بلير أي دور.

القوة الدولية المؤقتة: الصمت المطبق: التزم بيان حماس صمتاً تاماً حيال اقتراح نشر قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار في غزة، وهو ما ورد ضمن خطة ترامب ولم يعلق عليه إطلاقاً. يمكن تفسير هذا السكوت على أنه تحفّظ غير معلن من جانب الحركة، لا سيما في ظل سجلها التاريخي الرافض لأي وجود عسكري أجنبي على أرض غزة.

هذه النقاط الثلاث تعد بمثابة ألغام موقوتة في طريق الاتفاق. فهي تمس جوهر مخاوف كل طرف: أمن إسرائيل ونزع سلاح خصمها، سيادة الفلسطينيين على أرضهم، ورفض حماس للتخلي عن قوتها العسكرية أو قبول قوات أجنبية. أي صيغة نهائية للتهدئة ستحتاج ابتكار حلول وسط خلاقة لتجاوز هذه العقبات، وهو ما يجعل المفاوضات المقبلة في غاية التعقيد والحساسية.

مشاهد اللايقين وما يدور خلف الكواليس

في خضم هذا التطور الضبابي، برزت تقارير من خلف الكواليس تزيد المشهد تعقيداً. فبحسب موقع أكسيوس، أبلغت حماس الوسطاء بأنها لا تعرف مكان جميع جثث الرهائن الإسرائيليين الذين قضوا خلال الحرب، وبالتالي قد تحتاج إلى أكثر من المهلة المحددة بـ72 ساعة في خطة ترامب لتسليم كافة الجثامين. وأكد عضو المكتب السياسي لحماس موسى أبو مرزوق هذه النقطة صراحةً بقوله إن إنجاز تسليم كل الرهائن خلال 72 ساعة أمر "نظري وغير واقعي" وقد يستغرق أشهراً للعثور على جميع الجثث. في المقابل، نقلت شبكة CBS الأميركية عن مسؤول في واشنطن تفاؤلاً حذراً بأن تفاصيل تنفيذ بعض البنود – مثل آلية نزع السلاح – قد يبدأ العمل عليها في الأسبوع التالي، ما يشير إلى استعداد أمريكي لمواكبة العملية سريعاً إذا ما سارت الأمور حسب المخطط.

على الجانب الإسرائيلي، أعلنت رئاسة الحكومة استعدادها للشروع فوراً في تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة بعد رد حماس، بما يشمل إطلاق سراح جميع الرهائن، مع تأكيدها استمرار التنسيق الكامل مع ترامب “من أجل إنهاء الحرب وفق المبادئ التي حددتها إسرائيل”. غير أن هذا التفاؤل الإسرائيلي الرسمي لا يخفي حقيقة وجود ارتباك وانقسام داخلي. فبحسب تقارير إعلامية اعتمدت على مصادر في تل أبيب، فوجئ نتنياهو بموقف ترامب الداعم لرد حماس وكان قد أبلغ مستشاريه أنه يعتبر رد الحركة بمثابة رفض للمبادرة. وقد شدد نتنياهو في مشاوراته المغلقة على ضرورة التنسيق مع واشنطن في صياغة الرد الإسرائيلي حتى لا يترسخ انطباع دولي بأن حماس استجابت بشكل إيجابي لخطة ترامب. ويعكس هذا الموقف تخوف نتنياهو من الظهور بموقف المعرقل للجهود الأمريكية، فيما يرى بعض خصومه ومعارضيه في المؤسسة الأمنية أن فرصة حقيقية لصفقة تلوح في الأفق. وللمفارقة، نقلت مصادر إسرائيلية أن الفريق المكلّف بقضية الرهائن في إسرائيل وصف رد حماس بأنه إيجابي ويفتح مساراً للتوصل لاتفاق، ما يضع نتنياهو بين ضغط hawks في حكومته الرافضين لأي تنازل، وبين أهل الأسرى والرأي العام الإسرائيلي المتعطشين لانتهاء الحرب وعودة ذويهم.

في ظل هذه الأجواء، صدرت أيضاً تحذيرات دولية من الإفراط في التفاؤل. فقد نقلت شبكة NBC News عن دبلوماسي غربي سابق قوله إن “الخطة قد تفشل... حماس لم تقبل العناصر الرئيسية للخطة ولا الجدول الزمني لإطلاق سراح الرهائن... الأمر الآن متروك لحماس: إمّا أن نرى الرهائن يخرجون هذا الأسبوع أو أن الحرب ستُستأنف”. هذا التصريح المتشائم يُبرز هشاشة الموقف: فأي تلكؤ أو خلاف جديد قد يكون كفيلاً بنسف الهدنة وإعادة الأطراف إلى المربع الأول من القتال.

الرهانات الكبرى وأوهام السلام

يأتي هذا التطور في توقيت بالغ الحساسية، قبيل الذكرى الثانية لهجوم 7 أكتوبر 2023 الذي أشعل شرارة الحرب. ومع اقتراب هذا الموعد الرمزي، تتضاعف الرهانات النفسية والسياسية على جميع الأطراف للإظهار لشعوبها أنها حققت إنجازاً ملموساً. ويسعى ترامب – الذي دفع بكل ثقله لإبرام اتفاق يوقف نزيف الدم – إلى تسجيل اختراق تاريخي في الشرق الأوسط يمكن أن يُحسب كإحدى أعظم إنجازات ولايته الثانية. بل إن أي تقدم نحو وقف إطلاق النار في غزة قد يصبح برأي مراقبين الإنجاز الأهم لترامب خلال فترته الرئاسية الحالية، وربما يعبد الطريق أمام منحه جائزة نوبل للسلام التي طالما طمح إليها. وقد لمّح ترامب بنفسه مراراً إلى أنه يستحق نوبل السلام عن جهوده في أوكرانيا وغزة، زاعماً أنه نجح في إنهاء سبعة حروب حول العالم منذ عودته إلى البيت الأبيض – وهو ادعاء يفتقر للدليل وفق الخبراء، إذ لا تزال الحروب مشتعلة في أوكرانيا وغزة رغم وعوده السريعة. ومع ذلك، فإن جرأته في اقتحام ملف غزة ومحاولة إضافة “حرب ثامنة” إلى سجل النزاعات التي يدّعي إطفاءها تعكس رغبته الجامحة في ترك بصمة تاريخية واعتلاء مسرح صناع السلام العالمي.

أما على الجانب الإسرائيلي، فمن المرجح أن يحاول نتنياهو – الذي واجه انتقادات داخلية حادة خلال الحرب – تصوير أي اتفاق يتمخض عن هذه المفاوضات كإنجاز أمني شخصي. سوف يؤكد أنه نجح في تحرير بقية الرهائن الإسرائيليين بفضل صموده في المعركة، متجاهلاً بشكل مؤقت شعار الحرب الأول المعلن وهو القضاء التام على حماس. فقبول نتنياهو المرحلي بوقف القتال دون تحقيق هذا الهدف بالكامل سيكون اعترافاً ضمنياً بصعوبة القضاء عسكرياً على الحركة دون أثمان باهظة. لذا سيحرص على إبراز المكاسب الإنسانية (عودة الأسرى) والتخفيف من الحديث عن بقاء حماس.

في المقابل، ستسعى حماس إلى تسويق قبولها التفاوضي المشروط كـ“انتصار” سياسي حقق عدة أهداف استراتيجية للشعب الفلسطيني. فبالتوصل لهدنة، تكون الحركة قد أوقفت شلال الدماء والمعاناة في غزة وكسبت تعاطفاً شعبياً، وأحبطت – وفق روايتها – مخططات تهجير الأهالي قسراً أو إعادة احتلال القطاع. كما ستزعم أنها انتزعت مكاسب مهمة من خلال الخطة المقترحة، مثل وقف الحديث عن توطين سكان غزة في الخارج وإفشال أي نوايا إسرائيلية لضم أجزاء من الضفة الغربية تحت غطاء الحرب. وبرغم الثمن الباهظ الذي دفعته غزة خلال الحرب، ستركز حماس على أنها لا تزال موجودة على الخريطة السياسية ولم يتم القضاء عليها، وأن قبولها بالحل كان من موقع القوة الحرص على المصلحة الوطنية لا من موقع الضعف.

في المحصلة، تقف هذه اللحظة على حدٍّ دقيق من التوازن. الترحيب الأميركي ببيان حماس قيّد يد إسرائيل عن المماطلة أو الرفض الصريح وأجبر نتنياهو على مجاراة جهود التهدئة، لكنه أيضاً رفع سقف التوقعات إلى الحد الذي سيُحسب فيه أي فشل لاحق على الجميع. في الوقت نفسه، أبقت حماس ردّها غامضاً بما يكفي للاحتفاظ بأوراق قوتها التفاوضية، ما يعني أن نافذة انهيار المحادثات لا تزال مفتوحة إذا تعثرت المشاورات التفصيلية المقبلة. ومن المتوقع أن تشهد الأيام القليلة القادمة حراكاً دبلوماسياً مكثفاً في العواصم الإقليمية – لا سيما القاهرة والدوحة – لمحاولة صوغ ترتيبات مرضية لجميع الأطراف حول النقاط العالقة، وخاصة مسألتي نزع السلاح وهيكلة حكم غزة. المعادلة الصعبة الآن هي: كيف يمكن تحويل غموض البيان إلى اتفاق واضح المعالم؟ وكيف السبيل للجمع بين رغبة واشنطن في إنجاز سريع، وإصرار إسرائيل على أمنها ونزع تهديد حماس كلياً، وتمسّك حماس ببقائها قوة سياسية وعسكرية فاعلة؟ الساعة تدق، ومعها تدخل حرب غزة أخطر مراحلها في سباق حابس للأنفاس بين تثبيت وقف إطلاق النار أو العودة إلى أتون الحرب من جديد.