مطابع ألمانية تثير الجدل في اليمن..
مكافحة الإرهاب تعلن ضبط مطابع في ميناء عدن.. بين الرواية الأمنية والحقيقة الفنية
"أعلنت قوات مكافحة الإرهاب في عدن ضبط شحنة مطابع قادمة من ألمانيا قيل إنها مخصصة لطباعة العملة للحوثيين، لكن خبراء أكدوا أنها مطابع تجارية من نوع "هايدلبرغ". ورغم أنها لا تنتج عملة رسمية، إلا أن محاولة تهريبها تثير مخاوف من استخدامها في التزوير أو الدعاية، في مشهد يعكس التداخل بين الأمن والاقتصاد في اليمن"

مطابع "هايدلبرغ" في قبضة مكافحة الإرهاب بعدن بين اتهام بالتزوير وتشكيك فني – إعلام قوات مكافحة الإرهاب اليمنية

أعلنت قوات مكافحة الإرهاب اليمنية في مدينة عدن (العاصمة) –الخميس- عن ضبط شحنة من آلات الطباعة في ميناء الحاويات، قالت إنها كانت مخصصة لطباعة العملة وفي طريقها إلى جماعة الحوثيين الموالية لإيران.
وقد اعتُبرت العملية إنجازًا أمنيًا يعكس يقظة الأجهزة المختصة في مواجهة محاولات الجماعة استخدام الاقتصاد كجبهة حرب موازية، إلا أن الجدل سرعان ما تفجر بعدما ظهرت صور للمعدات المضبوطة تحمل بوضوح شعار شركة "هايدلبرغ" الألمانية، وهي شركة معروفة عالميًا بإنتاج مطابع الأوفست التجارية، الأمر الذي فتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول طبيعة الشحنة وحدود الخطر الذي تمثله.
البيان الرسمي الصادر عن جهاز مكافحة الإرهاب –حصلت اليوم الثامن على نسخة منه - أوضح أن عملية الضبط تمت بعد رصد استخباراتي دقيق وتنسيق مع مصلحة الجمارك، حيث جرى تتبع الشحنة منذ لحظة وصولها، ليتم إيقافها والتحفظ عليها تحت إشراف رئيس الجهاز اللواء الركن شلال علي شايع.
وبحسب مصادر أمنية، فقد بادر الجهاز عقب التأكد من طبيعة المضبوطات إلى إبلاغ محافظ البنك المركزي أحمد غالب المعبقي، الذي وجّه بلاغًا رسميًا إلى النائب العام القاضي قاهر مصطفى لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، بما في ذلك انتداب خبراء لفحص الأجهزة والتثبت من طبيعة استخدامها.
واعتبر المصدر أن هذه الخطوات تعكس إدراك السلطات لحساسية القضية، باعتبارها لا تتعلق بمعدات طباعية فحسب، بل بمصير الاقتصاد الوطني الذي يواجه أصلًا تحديات متفاقمة.
حساسية هذا الملف لا تنفصل عن السوابق التي سجلتها جماعة الحوثيين في السنوات الماضية، حين لجأت إلى طباعة أوراق نقدية خارج الإطار الرسمي للبنك المركزي اليمني. تلك المحاولات ساهمت في خلق أزمة نقدية خانقة في مناطق سيطرتها، حيث ضُخت كميات من العملة غير القانونية في الأسواق، ما أدى إلى انهيار القدرة الشرائية وتصاعد معدلات التضخم وانعدام الثقة بالريال اليمني. لذلك، فإن مجرد الحديث عن تهريب معدات يُحتمل استخدامها في الطباعة النقدية يعيد إلى الأذهان تلك التجارب المريرة، ويمنح أي تحرك أمني طابعًا استراتيجيًا.
غير أن المقاربة الفنية تطرح قراءة مغايرة، فمصادر إعلامية وخبراء في قطاع الطباعة، بمؤسسة الـ14 من أكتوبر للطباعة والنشر الحكومية، تحدثوا إلى "اليوم الثامن"، أكدوا أن الآلات التي جرى ضبطها ليست مطابع عملة نقدية، بل مطابع تجارية من نوع "هايدلبرغ" الألمانية.
هذه الماكينات، على الرغم من جودتها العالية وانتشارها الواسع، تُستخدم حصريًا في إنتاج الكتب والمجلات والملصقات والمواد الدعائية والتغليف، ولا تمتلك أي من الخصائص التقنية اللازمة لإنتاج أوراق نقدية بمواصفات أمنية معتمدة. فالطباعة النقدية تحتاج إلى منظومات معقدة من التقنيات، تبدأ بالحفر الغائر "Intaglio" الذي يمنح الأوراق النقدية ذلك الملمس البارز الذي لا يمكن تقليده عبر الأوفست، وتمر باستخدام أحبار خاصة متغيرة اللون ورموز تظهر تحت الأشعة فوق البنفسجية، إضافة إلى العلامات المائية والخيوط الأمنية المدمجة في الورق منذ مرحلة تصنيعه. وهذه جميعها قدرات لا تتوفر إلا في مطابع متخصصة تصنعها شركات قليلة في العالم مثل "دي لا رو" البريطانية و"KBA-NotaSys" السويسرية، وتخضع لرقابة دولية صارمة.
هذا التناقض بين الرواية الأمنية والتحليل الفني لا يعني أن القضية بسيطة أو عابرة، فحتى لو كانت المعدات تجارية بحتة، فإن حديث جهاز مكافحة الإرهاب عن مسار تهريب نحو مناطق الحوثيين يمر عن طريق ميناء عدن، يثير الريبة بشأن الغرض من استقدامها، خصوصًا أن الجماعة اعتادت على استخدام أي مورد مادي أو تقني في معركتها المستمرة مع الحكومة الشرعية.
من منظور اقتصادي، فإن مجرد إدخال مطابع من هذا النوع يمكن أن يُستغل في عمليات تزوير بدائية تطال العملة المحلية أو في إنتاج أوراق شبيهة بالنقد لتداولها بشكل غير قانوني، وهو ما يكفي لإحداث إرباك في السوق المالية وزعزعة ثقة المواطنين بالعملة. و
إذا لم تُستخدم في التزوير، فقد تُوظف في طباعة وثائق رسمية بديلة أو مواد دعائية ضخمة تعزز آلة الحرب النفسية التي يعتمد عليها الحوثيون في مناطق سيطرتهم.
من هنا تتضح خطورة هذه القضية التي تقع عند تقاطع الأمن والاقتصاد. فمن الناحية الأمنية، لا يمكن التقليل من شأن محاولة إدخال معدات يمكن أن تُستغل في ضرب استقرار المنظومة النقدية، حتى لو لم تكن مخصصة أصلاً لطباعة البنكنوت. ومن الناحية الاقتصادية، فإن أي نشاط غير قانوني في سوق الطباعة النقدية أو حتى محاولات التلاعب في الأوراق المالية من شأنها أن تزيد من هشاشة الاقتصاد اليمني الذي يعاني من تضخم متصاعد وتراجع ثقة الناس بالريال. ومن الناحية السياسية، فإن تضخيم أو تهوين القضية قد يُستخدم بدوره كأداة في الصراع الدعائي بين الأطراف المتحاربة، وهو ما يعكس طبيعة الحرب التي تجاوزت ميدان المعارك العسكرية إلى مجالات الإعلام والاقتصاد والنقد.
الحقيقة أن التزوير النقدي لطالما استُخدم كسلاح في الحروب. ففي الحرب العالمية الثانية حاول النازيون إغراق بريطانيا بأوراق نقدية مزيفة لإضعاف اقتصادها. واليوم، يخشى اليمنيون من تكرار سيناريو مشابه بطرق أبسط لكنه لا يقل خطورة، حيث قد يسعى الحوثيون إلى إغراق السوق بعملة غير قانونية تطيح بما تبقى من استقرار اقتصادي في مناطق الشرعية، أو إلى فرض عملة بديلة في مناطق سيطرتهم لتعزيز استقلالهم المالي عن مؤسسات الدولة. وهذا بحد ذاته يعكس كيف يمكن لآلة طباعة أن تتحول إلى أداة حرب لا تقل أثرًا عن المدفع والصاروخ.
من زاوية أخرى، فإن هذه القضية تكشف عن معضلة عميقة تتعلق بالثقة. فاليمنيون يعيشون منذ سنوات أزمة ثقة مزدوجة: أزمة ثقة بالعملة المحلية وأزمة ثقة بالمؤسسات النقدية. وإذا ما شاع أن الحوثيين يملكون القدرة على طباعة أوراق نقدية، حتى وإن كانت هذه الأوراق رديئة أو غير قابلة للتداول الواسع، فإن ذلك وحده كفيل بدفع الناس إلى التخلي عن التعامل بالريال والتوجه أكثر إلى الدولار أو الريال السعودي، ما يعمّق أزمة السيولة ويزيد من الانقسام النقدي.
هنا يظهر بوضوح التداخل بين الحقيقة والتهويل. فبينما تصر الأجهزة الأمنية على أن الشحنة تمثل تهديدًا ماليًا خطيرًا، يتمسك الخبراء الفنيون برأيهم أنها مجرد مطابع تجارية. وبين الموقفين، يظل الخطر قائمًا؛ إذ أن النوايا المرتبطة باستخدام هذه المعدات أهم من طبيعتها التقنية. فما يهم ليس ما إذا كانت المطابع قادرة على إنتاج عملة حقيقية، بل ما إذا كان الحوثيون سيوظفونها في التزوير أو التلاعب أو الدعاية، وهي احتمالات كافية لإقناع الأجهزة الأمنية بالتعامل مع القضية كتهديد استراتيجي.
في النهاية، تكشف قضية "مطابع هايدلبرغ" في ميناء عدن عن الوجه الآخر للحرب في اليمن، حيث تتحول الموانئ إلى مسارح مواجهة بين الأجهزة الأمنية والجماعات المسلحة، وحيث يصبح الاقتصاد ساحة صراع لا تقل شراسة عن جبهات القتال. وفي انتظار نتائج التحقيقات الفنية التي وعدت السلطات بإعلانها بعد استكمالها، يبقى السؤال معلقًا: هل نجحت مكافحة الإرهاب في إحباط محاولة خطيرة لضرب الاقتصاد عبر بوابة التزوير النقدي، أم أن ما حدث لا يعدو كونه تضخيمًا أمنيًا لمعدات تجارية عادية؟.