الغرب يلوّح بعقوبات إضافية..

معضلة الأراضي المحتلة: الفجوة الكبرى بين شروط موسكو ومطالب كييف

بوتين يحذر من أن أي قوات غربية في أوكرانيا ستكون أهدافًا للجيش الروسي، ردًا على خطط أوروبية لتقديم ضمانات أمنية لكييف بعد الحرب.

الدبلوماسية المعلّقة: اتصالات أميركية–روسية مرتقبة بحثًا عن تسوية

محرر الشؤون الإقليمية
محرر الشؤون الاقليمية والملف الإيراني

تصاعدت حدة السجال بين موسكو والغرب بشأن أوكرانيا بعد أن حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن أي انتشار لقوات غربية في أوكرانيا سيُعتبر هدفًا "مشروعًا" لقواته. جاءت تصريحات بوتين في أعقاب اجتماع أوروبي رفيع المستوى شهد إعلان 26 دولة عن استعدادها لتقديم ضمانات أمنية لكييف تشمل نشر قوات دولية على أراضيها بعد توقّف الحرب. في هذا التقرير التحليلي نستعرض دلالات هذه المواقف المتقابلة وما تعكسه من توجهات وطموحات لدى كل طرف.

الموقف الروسي: خطوط حمراء وتحذيرات صارمة

 

يعكس هذا التحذير موقف موسكو المتشدد إزاء أي وجود عسكري غربي مباشر في أوكرانيا، إذ تعتبره تدخلًا مرفوضًا وربما ذريعة لتوسيع دائرة الصراع. ويرى بوتين أن أي قوة حفظ سلام غربية ستعرقل جهود التسوية بدلاً من أن تعززها، خصوصًا أنه يدّعي التزام روسيا بأي اتفاق سلام يتم التوصل إليه والتقيّد الكامل بضماناته الأمنية. من هذا المنطلق، تقول موسكو إنه لا حاجة فعليًا لأي قوات أجنبية إذا جرى الاتفاق على سلام دائم – فوجودها برأي الكرملين سيكون بلا معنى سوى استفزاز الجانب الروسي.

وشدّد الكرملين على هذه الرسالة عبر تصريحات دميتري بيسكوف المتحدث باسم بوتين، الذي قال إن فكرة نشر قوات غربية لتأمين أوكرانيا "لا يمكن أن تعد ضمانًا أمنيًا" مقبولًا بالنسبة لروسيا. وأوضح بيسكوف أن التصورات الغربية لضمانات كييف الأمنية يمكن تحقيقها دون وجود عسكري أجنبي، بل من خلال العودة إلى تفاهمات إطار إسطنبول 2022. هذا الإطار، الذي جرى التفاوض حوله في خضم محادثات سلام متعثرة العام الماضي، نصّ على تخلي أوكرانيا عن مساعي الانضمام إلى حلف الناتو واعتمادها وضع الحياد (دولة غير نووية وغير منحازة)، مقابل حصولها على ضمانات أمنية من قوى كبرى بينها الولايات المتحدة وروسيا.

ورغم أن تلك التفاهمات لم ترَ النور بسبب استمرار القتال وتصاعد الشكوك المتبادلة، لا يزال الجانب الروسي يشير إليها كأساس جاهز لأي ترتيبات أمنية مستقبلية. في المقابل، تبدي كييف وحلفاؤها الغربيون شكوكًا عميقة في الوعود الروسية؛ إذ يعتبرون إشراك موسكو في ضمان أمن أوكرانيا أشبه بـ"ترك الثعلب لحراسة قنّ الدجاج"، في إشارة إلى انعدام الثقة بنيّة روسيا احترام سيادة جارتها إذا غاب الرقيب الدولي.

بل إن روسيا تذهب أبعد من ذلك في رفضها، حيث صرّحت المتحدثة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا أن موسكو لن تناقش أي تدخل أجنبي في أوكرانيا "أياً كان شكله"، معتبرةً أن الضمانات الأمنية التي تطالب بها كييف ليست سوى "ضمانات خطر" تهدد أوروبا ذاتها. بهذا الخطاب التصعيدي، تحاول موسكو تأطير التحركات الغربية على أنها عامل زعزعة للاستقرار الإقليمي وليست سعيًا لحل النزاع.

التحرك الغربي: تحالف الراغبين وضمانات ما بعد الحرب

 

شكّل اجتماع تحالف الراغبين في قصر الإليزيه محطة محورية بلورت الرؤية الغربية لما بعد الحرب. فقد اتفقت الدول الـ26 المشاركة على الخطوط العريضة لضمانات أمنية غير مسبوقة لكييف، تشمل نشر قوة دولية متعددة الجنسيات على الأراضي الأوكرانية فور توقف القتال. هذه القوة ستكون بمثابة قوات "طمأنة" أو حفظ سلام هدفها الأساسي ردع أي محاولة روسية لخرق الاتفاق مستقبلاً، وليس الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة. إذ أكد ماكرون أن مهمة هذه القوة ليست "خوض حرب" ضد روسيا بل الحيلولة دون وقوع عدوان جديد وضمان احترام وقف إطلاق النار أو معاهدة السلام.

التفاصيل العملية لهذه القوة لا تزال قيد البحث، بما في ذلك حجمها وانتشارها ومساهمات كل دولة. من المعلوم أن دولًا أوروبية كبرى (مثل ألمانيا وإيطاليا) متحفظة على إرسال قوات قتالية إلى أوكرانيا، لذا يُرجّح أن تختلف مساهمات الدول – برًا أو جوًا أو بحرًا – وفق قدرات كل منها ورغبتها. ومع ذلك، يُنظر إلى المشاركة الشاملة لـ26 دولة على أنها رسالة تضامن والتزام طويل الأمد بأمن أوكرانيا، بمعنى أن أي خرق روسي مستقبلي سيواجه بجبهة دولية موحّدة.

خرج الاجتماع أيضًا برسالة سياسية واضحة مفادها أن الدعم الغربي لأوكرانيا ثابت ولن يسمح لموسكو بفرض إرادتها بالقوة. مكتب رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر – الذي شارك في استضافة قمة باريس – صرّح بأن لدى التحالف "تعهدًا لا يمكن كسره تجاه أوكرانيا" مدعومًا من الرئيس الأميركي ترمب، وأن على الدول الآن "الذهاب إلى ما هو أبعد" في الضغط على بوتين لوضع حدٍّ للحرب. تعكس هذه التصريحات إدراك الأوروبيين أنه كلما طال أمد الصراع ازدادت حاجة أوكرانيا لضمانات قوية، وكذلك رغبتهم في الاستفادة من انخراط واشنطن تحت إدارة ترمب لاستمالتها نحو موقف أكثر تشددًا ضد موسكو ودفعها إلى طاولة التفاوض بشروط صارمة.

العقوبات والضغوط الدولية المتصاعدة

على صعيد موازٍ للتحركات الميدانية، يلوّح الغرب بالعصا الاقتصادية لتليين الموقف الروسي. فقد أعلن ماكرون صراحةً أن أوروبا – وبالتنسيق مع الولايات المتحدة – ستفرض عقوبات إضافية على موسكو إذا استمرت في رفض التفاوض الجاد. ويحظى هذا التوجه بدعم بريطاني، حيث أكد ستارمر ضرورة "زيادة الضغوط" على بوتين في هذه المرحلة الحرجة. وتأتي هذه التهديدات في وقت يجري فيه بحث توسيع نطاق العقوبات ليشمل قطاعات الطاقة بشكل أشد، بما في ذلك التنسيق لفرض عقوبات أولية مباشرة على الاقتصاد الروسي وأخرى ثانوية تستهدف الدول التي تساعد موسكو في الالتفاف على الإجراءات القائمة.

لكن تجدر الإشارة إلى بعض التباينات بين ضفتي الأطلسي؛ فبينما يدفع الأوروبيون منذ شهور نحو خطوات أميركية أكثر صرامة (وقد أكّد ماكرون أن الأيام المقبلة ستشهد وضع اللمسات الأخيرة على المساهمة الأميركية في ضمانات أوكرانيا الأمنية)، تبنّت إدارة ترمب نهجًا متأنّيًا حتى الآن في تصعيد العقوبات. وربما يعود ذلك لاعتبارات سياسية واقتصادية داخلية، إلا أن الضغط الأوروبي المتنامي واستياء ترمب المعلن من بوتين – حيث وصفه بأنه "مُخيّب جدًا للآمال" مع استمرار الحرب– قد يدفع واشنطن لتشديد موقفها تدريجيًا. وقد كشفت تقارير أن ترمب حثّ القادة الأوروبيين الذين تحدث معهم مؤخرًا على التوقف عن شراء النفط الروسي، في إشارة إلى رغبة واشنطن في تجفيف مصادر تمويل موسكو إذا استمرت في تعنّتها.

آفاق التسوية والسلام

حتى اللحظة، لا يظهر في الأفق حلّ سريع للصراع الأوكراني. بوتين نفسه يؤكد أنه إذا فشلت المساعي الدبلوماسية فإن روسيا مستعدة لمواصلة الحرب "حتى تحقيق أهدافها" عبر القوة. في المقابل، يرفض الأوكرانيون تقديم أي تنازلات إقليمية أو سيادية ويعوّلون على دعم الغرب في تحسين موقفهم التفاوضي ميدانيًا. ويشير مراقبون إلى أن موسكو تطالب بضمانات تتعلق بوضع أوكرانيا العسكري وحيادها المستقبلي، وترفض تمامًا وجود قوات للناتو على الأراضي الأوكرانية، بينما ترفض كييف من جانبها التخلي عن أي جزء من أراضيها مقابل السلام.

ميدانيًا، لا تزال روسيا تحتل أجزاء واسعة من أوكرانيا تُقدّر بحوالي خمس مساحة البلاد، تشمل مناطق دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون إلى جانب شبه جزيرة القرم. وقد أعلنت موسكو أنها تعتبر هذه الأراضي جزءًا من روسيا الاتحادية ولن تقبل التفاوض على سيادتها عليها إطلاقًا. في المقابل، يؤكد الأوكرانيون أن أي اتفاق سلام مستقبلي يجب أن يضمن تحرير كامل الأراضي الأوكرانية المعترف بها دوليًا. هذه الفجوة في المواقف حول ملف الأراضي تضيف عقبة كبرى أمام جهود الوساطة.

رغم ذلك، تتحرك عجلة الدبلوماسية في محاولة لرأب الصدع. كشف ماكرون عن التوافق على استئناف الاتصالات بين الأميركيين والروس قريبًا، تمهيدًا لعقد لقاءات قمة على مستويات عليا لإعطاء دفعة لعملية السلام. وأشار إلى ضرورة أن تصبح الاجتماعات التي تم التعهد بها واقعًا – بما فيها قمة ثنائية محتملة بين ترمب وبوتين – تتبعها قمم ثلاثية ورباعية لتكريس اتفاقات أكثر صلابة. مثل هذه اللقاءات، إن كُتب لها الانعقاد، قد تفتح نافذة لتسوية تفاوضية؛ لكن نجاحها مرهون بجسر الهوة الكبيرة بين شروط موسكو ومطالب كييف الأمنية والسياسية.

في المحصلة، يعكس هذا المشهد عمق الأزمة الأوكرانية واستعصاء حلها السريع. روسيا ترسم خطوطًا حمراء جديدة عبر تحذيرات بوتين، والغرب يردّ بتعزيز التزامه بأمن أوكرانيا عبر خطط الضمانات غير المسبوقة. بين التخويف بالتصعيد من جهة والتطمين بالردع من جهة مقابلة، ستبقى أوكرانيا ساحة اختبار لإرادة الطرفين. وحدها تنازلات مؤلمة أو ضغوط استثنائية قد تكسر الجمود القائم وتفتح الطريق أمام سلام مستدام، ما لم فإن النزاع سيظل مفتوحًا على كل الاحتمالات في مستقبل المنظور.