الورقة الإنسانية في معركة سياسية..
اعتقالات الحوثيين لموظفي الأمم المتحدة.. تكتيك أمني أم ورقة تفاوض؟
هذا التحرك يكشف محاولات الحوثيين استثمار الحدث لتشديد قبضتها الداخلية، واستخدام المعتقلين كورقة ضغط على المجتمع الدولي، في خطوة تعكس تداخل البعد الدعائي مع الحسابات الأمنية والسياسية.

حملة اعتقالات جديدة تعكس أزمة ثقة بين الحوثيين والأمم المتحدة

شهدت العاصمة اليمنية صنعاء مؤخرًا تصعيدًا خطيرًا تمثّل في اعتقال جماعة الحوثيين لعدد من موظفي الأمم المتحدة، وتوجيه اتهامات لهم بـ"التجسس لصالح إسرائيل والولايات المتحدة". جاء ذلك عقب غارة جوية إسرائيلية غير مسبوقة استهدفت صنعاء أواخر أغسطس 2025، وأدّت إلى مقتل رئيس حكومة الحوثيين أحمد غالب ناصر الرهوي وتسعة من وزرائه. أثارت هذه التطورات موجة من الإدانات الدولية والمخاوف حول مستقبل العمل الإنساني في اليمن، في ظل اتهامات يرى كثيرون أنها تفتقر للأدلة وتندرج في سياق سعي الحوثيين لتعزيز قبضتهم الداخلية.
تفاصيل الاعتقالات والاتهامات
أكد هانس غروندبرغ المبعوث الأممي إلى اليمن أن الحوثيين داهموا مقار تابعة للأمم المتحدة في صنعاء والحديدة يوم الأحد واعتقلوا ما لا يقل عن 11 موظفًا أمميًا. وبحسب مسؤول في حكومة صنعاء التابعة للحوثيين (رفض كشف اسمه)، فإن الموقوفين متهمون بالتجسس لصالح "العدوان الأميركي والإسرائيلي"، ومن “تُثبت التهمة بحقه سيُحال إلى المحاكمة”. شملت الاعتقالات موظفين في برنامج الأغذية العالمي وفي منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، علمًا أن مسلحي الحوثي قاموا باقتحام مقار هذه المنظمات واحتجاز العاملين فيها بعد استجوازهم ميدانيًا كذلك أفادت مصادر أمنية يمنية أن الحوثيين أوقفوا أيضًا في اليوم السابق عشرات الأشخاص الآخرين للاشتباه في “تعاونهم مع إسرائيل”. هذه الخطوة وسّعت دائرة الاعتقالات لتشمل عاملين في منظمات إغاثية ومدنيين في مناطق سيطرة الجماعة، وسط مناخ من الشكوك والتخوين.
سياق الضربة الإسرائيلية وتصعيد الحوثيين
لم تأتِ هذه الأحداث بمعزل عن تطورات إقليمية؛ فالغارة الإسرائيلية على صنعاء التي قُتل فيها الرهوي وعدد من قيادات الحوثيين حصلت على ما يبدو ردًا على تكثيف الحوثيين لهجماتهم ضد إسرائيل. فمنذ اندلاع الحرب في غزة في 7 أكتوبر 2023، بدأ الحوثيون إطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة باتجاه إسرائيل “بشكل متكرر” دعمًا للفلسطينيين، كما نفّذوا هجمات استهدفت سفنًا تجارية في البحر الأحمر في إطار ما يعتبرونه معركة مفتوحة مع إسرائيل وحلفائها. وقد دفع ذلك إسرائيل – بمشاركة ضمنية من الولايات المتحدة – إلى تنفيذ ضربات انتقامية على مواقع للمتمردين الحوثيين داخل اليمن. وفي أعقاب مقتل رئيس حكومتهم في الضربة الإسرائيلية، توعّد الحوثيون بالرد “عبر تكثيف هجماتهم” على إسرائيل، ما ينذر بمزيد من التصعيد الإقليمي. هذا السياق يفسّر توقيت حملة الاعتقالات الأخيرة، حيث جاءت بعد يومين من جنازة رسمية للرهوي بصنعاء وتحميل الجماعة مسؤولية الاختراق الأمني لعناصر قد تكون زوّدت “العدو” بمعلومات.
ردود فعل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي
أثارت هذه الاتهامات رفضًا قاطعًا من الأمم المتحدة ومنظمات دولية عديدة. فقد ندّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والمبعوث غروندبرغ بحملة الاعتقالات التعسفية، معتبرين أنها انتهاك خطير لالتزامات الحوثيين تجاه حماية موظفي المنظمة. وطالبت الأمم المتحدة بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الموظفين المحتجزين. كما كشفت أن هذه الموجة الجديدة تضاف إلى 23 موظفًا أمميًا كانوا رهن الاحتجاز لدى الحوثيين منذ فترات سابقة (بعضهم منذ 2021)، وقد توفي أحدهم أثناء الاحتجاز في وقت سابق من هذا العام. منظمة الأمم المتحدة نفسها كانت قد رفضت بشدة في يونيو 2024 الاتهامات الحوثية بشأن “شبكة تجسس أميركية-إسرائيلية” تعمل تحت غطاء إنساني، معتبرةً تلك المزاعم عارية عن الصحة. إلى جانب ذلك، أدانت منظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية هذه الإجراءات. ووصفت العفو الدولية حملة الاعتقالات بأنها “موجة مرعبة تستهدف العاملين في المجالين الإنساني والحقوقي” ضمن حملة قمع أوسع. وأشارت المنظمتان إلى أن المحتجزين تم إخفاؤهم قسريًا دون توجيه تهم رسمية، ومُنعوا من التواصل مع محامين أو عائلاتهم، مما يجعل احتجازهم تعسفيًا وغير قانوني. من جهتها، وصفت الولايات المتحدة على لسان متحدثيها الرسميين تلك الاتهامات الحوثية بأنها “مزيفة” و“خادعة”، مؤكدة أن موظفي الأمم المتحدة المعتقلين كانوا يعملون من أجل مصلحة اليمن ومستقبله. وقد شدد بيان مشترك صدر عن عدة دول غربية على أن استمرار هذا النهج من قبل الحوثيين “يقوّض العمل الإغاثي الدولي في اليمن” ويستدعي موقفًا حازمًا للضغط من أجل إطلاق سراح جميع المحتجزين.
الدوافع ودلالات الاتهامات
يرى محللون ومراقبون أن لجوء الحوثيين إلى تهمة “التجسس لصالح إسرائيل وأميركا” يحمل دوافع سياسية وأمنية داخلية لدى الجماعة. فبعض التحليلات تشير إلى أن هذه الاتهامات تفتقر إلى المصداقية وتأتي لتغطية على إخفاقات أمنية وضربات موجعة تعرضت لها الجماعة في الفترة الأخيرة – وعلى رأسها مقتل قيادات بارزة في الغارة الإسرائيلية. بعبارة أخرى، يحاول الحوثيون تحويل الأنظار عن اختراق أمني كبير (استهداف اجتماع حكومي رفيع) عبر شيطنة جهات خارجية والزعم بوجود مؤامرة تجسسية. كذلك تعكس هذه الحملة توجه الحوثيين نحو تشديد قبضتهم الأمنية في مناطق سيطرتهم، إذ استغلوا التهمة الفضفاضة بـ“التجسس” لشن حملة اعتقالات وقمع واسعة طالت موظفين أمميين وعمال إغاثة وحتى مدنيين، وذلك بغرض ترهيب المجتمع المحلي وإسكات أي أصوات معارضة تحت ذريعة حماية “الأمن القومي”. ومن الدلالات أيضًا سعي الحوثيين إلى استخدام المحتجزين كورقة مساومة سياسية؛ فللجماعة تاريخ في توظيف المعتقلين كورقة ضغط على الحكومات والمنظمات الدولية لتحقيق مكاسب أو انتزاع تنازلات. وفي ظل الجمود السياسي في اليمن، قد يراهن الحوثيون على مبادلة موظفي الأمم المتحدة بمكاسب دبلوماسية أو مادية، مستغلين حساسية المجتمع الدولي تجاه سلامة كوادره.
علاوة على ذلك، يبدو أن البعد الدعائي حاضر بقوة في هذه الاتهامات. فالجماعة تسعى لتصوير نفسها أمام أنصارها كـ“مدافع شرس عن القضية الفلسطينية” وخصم لإسرائيل على أرض اليمن، فتصعّد من خطاب العداء لإسرائيل حتى في ملف الموظفين الأمميين بزعم أنهم عملاء لإسرائيل. هذا المنحى الدعائي يخدم الحوثيين في تعبئة حاضنتهم الشعبية وتأطير حملاتهم العسكرية والإعلامية ضمن خطاب “مواجهة الصهيونية والاستكبار العالمي”، على الرغم من عدم تقديمهم أدلة ملموسة تدعم مزاعم التجسس تلك. وفي المقابل، يحذّر مراقبون من أن استمرار هذه الادعاءات يضاعف عزلة الحوثيين دوليًا ويعرض مصالح اليمنيين لمزيد من الخطر، نظرًا لأن المنظمات الأممية قد تضطر إلى تقليص أنشطتها أو إجلاء موظفيها من مناطق الحوثيين حرصًا على سلامتهم.
خاتمة
في المحصلة، تعكس أزمة اعتقال موظفي الأمم المتحدة وما رافقها من اتهامات بالتجسس تصعيدًا خطيرًا من قبل الحوثيين على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي، تستخدم الجماعة شماعة “التجسس” لتبرير حملة قمع وتصفية حسابات تعزز بها سيطرتها الأمنية في صنعاء ومناطق أخرى. وعلى الصعيد الخارجي، وجّهت هذه الإجراءات ضربة للعلاقات مع المجتمع الدولي، إذ باتت الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة مستهدفة ومهددة في أماكن عملها. وبينما تواصل الأطراف الدولية والإقليمية الدعوة إلى التهدئة واستئناف مسار السلام في اليمن، يأتي هذا التصرف الحوثي ليزيد المشهد تعقيدًا وليضع عقبات جديدة أمام العمل الإنساني والدبلوماسي. التقارير الدولية المجمع عليها تفيد بأن لا أساس رصين لادعاءات التجسس الحوثية، ما يضع الجماعة في موقف المتهم باستغلال الظروف الإقليمية لتصفية حسابات محلية. وفي ظل تفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن، سيكون ثمن هذه الخطوات التصعيدية باهظًا على المدنيين الذين يعتمدون على المساعدات، مما يفرض على الحوثيين إعادة النظر في نهجهم إذا كانوا حقًا معنيين بمصلحة اليمن واليمنيين، وفق ما صرّحت به الأطراف الدولية المعنية.