الزناد الأوروبي يهدّد النظام الإيراني..
إيران بين صراعات الداخل وضغوط الخارج.. اقتصادٌ يترنّح ووكلاء تحت النار
تواجه شبكة الوكلاء الإيرانيين ضغوطًا متزامنة: في العراق، جدل محتدم حول دمج الحشد الشعبي وتقليص نفوذ الفصائل الموالية لإيران؛ في اليمن، تتعرض مواقع الحوثيين لضربات أميركية وبريطانية متكررة، إضافة إلى استهداف إسرائيلي نوعي؛ أما في لبنان، فيتواصل التجفيف المالي والسياسي لحزب الله وسط تراجع موارد الدعم

شبكة الوكلاء في العراق واليمن ولبنان أمام أصعب اختبار منذ عقد - أرشيف

ملخص: يجد النظام الإيراني نفسه في لحظة فارقة بين تهديد أوروبي مباشر بتفعيل آلية الزناد وإعادة العقوبات الأممية، وبين انهيار داخلي اقتصادي واجتماعي يهدد بتقويض قدرته على الصمود. خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، تحرّكت العواصم الأوروبية (باريس، لندن، برلين) بخطوات متسارعة نحو إعادة الملف إلى مجلس الأمن، مستندة إلى استمرار طهران في التخصيب بمستويات عالية وتعطيل عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. في المقابل، تراهن إيران على التصعيد السياسي والدبلوماسي، ملوّحة بخيارات قصوى تصل إلى مراجعة التزاماتها في معاهدة حظر الانتشار النووي.
داخليًا، يعيش الاقتصاد الإيراني وضعًا خانقًا: تضخم يقترب من 40%، انهيار الريال إلى مستويات قياسية، وتآكل القدرة الشرائية للمجتمع، ما يزيد احتمالات تفجر احتجاجات جديدة. سياسيًا، جاء تعيين علي لاريجاني أمينًا لمجلس الأمن القومي ليعكس عقلية “إدارة الأزمات” لا حلّها، حيث باشر جولة إقليمية إلى بغداد وبيروت لتثبيت نفوذ طهران وضمان قنوات التفاف اقتصادي.
إقليميًا، تواجه شبكة الوكلاء الإيرانيين ضغوطًا متزامنة: في العراق، جدل محتدم حول دمج الحشد الشعبي وتقليص نفوذ الفصائل الموالية لإيران؛ في اليمن، تتعرض مواقع الحوثيين لضربات أميركية وبريطانية متكررة، إضافة إلى استهداف إسرائيلي نوعي؛ أما في لبنان، فيتواصل التجفيف المالي والسياسي لحزب الله وسط تراجع موارد الدعم.
السيناريوهات المطروحة حتى أكتوبر 2025 تتراوح بين: تسوية فنية مؤقتة تجمّد الأزمة، أو تفعيل آلية الزناد بما يعيد العقوبات الأممية كاملة، أو تصعيد متبادل ينقل المنطقة إلى طور حرب رمادية أوسع، يقف النظام الإيراني على حافة الهاوية، حيث تتقاطع الأزمات الداخلية مع الضغوط الدولية والإقليمية، ويصبح أي خطأ في الحسابات سببًا في انهيار بنية الردع والشرعية معًا.
تمهيد: يواجه النظام الإيراني اليوم أزمة متعددة الجبهات تُهدد بقاءه. فمع تلويح الدول الأوروبية بتفعيل آلية الزناد وإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران، يجد النظام نفسه تحت ضغط خارجي غير مسبوق يتزامن مع توترات داخلية وانقسامات حادة. هذا التقدير التحليلي يستعرض السياق الدولي وراء تهديد ودوافع الأوروبيين، ويرصد الانقسامات داخل النظام بين دعاة التفاوض وأنصار التصعيد، كما يفكك العلاقة بين القمع الداخلي واحتمالات الانتفاضة الشعبية في ظل الاختناق الاقتصادي. ويتناول التقدير رهان طهران على وكلائها الإقليميين (حزب الله، الحشد الشعبي، الحوثيون) كخط دفاع خارجي، وتحلل مدى ضعف هذه الأدوات تحت وطأة الضغوط الدولية والمحلية. ويُسلِّط الضوء على زيارة علي لاريجاني إلى العراق كمحاولة لضمان استمرارية النفوذ الإيراني ومسالك الالتفاف على العقوبات. كما يُناقش مستقبل حزب الله على ضوء الدعوات لنزع سلاحه وتراجع شعبيته وشُح التمويل، ويستعرض وضع الحوثيين كوكيل منخفض الكلفة عالي الجدوى لإيران، وإمكانات تقويض دورهم بدعم الحكومة الشرعية في اليمن. وفي الخاتمة الاستراتيجية، نطرح السؤال المصيري: هل يقترب النظام الإيراني من نقطة اللاعودة؟ وما الخيارات الواقعية المتاحة أمام القوى الدولية والإقليمية وكذلك أمام شعوب المنطقة للتعامل مع هذا المنعطف الخطر؟
أولًا: السياق الدولي وتهديد آلية الزناد
تزايدت الضغوط الدولية على إيران مع تلويح الدول الأوروبية بتفعيل آلية “” المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 2231، والتي تتيح إعادة فرض جميع العقوبات الأممية التي رُفعت عقب الاتفاق النووي. حذّرت دول أوروبا الثلاث (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) من أنها مستعدة لتفعيل هذه الآلية بحلول أوائل خريف 2025 ما لم يحصل تقدم ملموس في ملف إيران النووي. وجاء هذا التصعيد بعد إخفاق جهود إعادة إحياء الاتفاق النووي واستمرار إيران في تخصيب اليورانيوم بمستويات تتجاوز حدود الاتفاق وعرقلة رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فالأوروبيون، بدافع القلق من تسارع برنامج إيران النووي واقترابه من عتبة تصنيع سلاح نووي، يسعون للضغط على طهران كي تعود للالتزام بقيود الاتفاق وتسمح بعودة المفتشين الدوليين. كما أن قيام إيران بتطوير قدراتها الباليستية وتزويد روسيا بطائرات مسيَّرة في حرب أوكرانيا زاد من غضب العواصم الأوروبية، التي ترى في ذلك انتهاكًا لقرارات أممية ومصدر تهديد لأمنها الإقليمي.
إن إعادة تفعيل العقوبات الأممية تعني عودة حظر الأسلحة وتقييد برنامج الصواريخ الباليستية ومنع التبادل النفطي والمصرفي دوليًا مع طهران. وقد حدد الأوروبيون موعد أكتوبر 2025 كموعد أقصى، إذ تنقضي فيه صلاحية آلية الزناد بعد عشر سنوات من تبني الاتفاق النووي. وبمجرد التفعيل، سيُعاد فرض جميع العقوبات الأممية التي كانت قائمة قبل 2015 بشكل تلقائي. هذه الخطوة ستُفاقم عزلة إيران الاقتصادية؛ فاقتصادها الهش حاليًا – الذي يعاني أصلًا من عقوبات أمريكية وضغوط مالية – سيواجه قيودًا أشد صرامة على صادرات النفط والتعاملات البنكية. وقد تحذر تقديرات مستقلة من أن إعادة العقوبات الأممية قد تخفض صادرات النفط الإيرانية بشكل كبير وتضرب عوائدها المالية في وقت يشهد فيه سوق الطاقة العالمي تقلبات حادة-.
بيد أن فعالية هذا الضغط الأممي تظل مرهونة بموقف القوى الكبرى غير الغربية. فمن الناحية الفنية، لا تملك روسيا والصين حق النقض على تفعيل الزناد إذا مضت به أوروبا، لكن موسكو وبكين قد لا تلتزمان تمامًا بالعقوبات المعاد فرضها. إذ تمتلك كلٌ منهما خيارات لمواصلة التعامل مع إيران عبر قنوات بديلة، مما قد يخفف من العزلة المنشودة غربيًا. على سبيل المثال، قد تستمر الصين في شراء النفط الإيراني بخصومات عالية، وقد توفر روسيا غطاءً تقنيًا أو ماليًا لطهران، معتبرتَين العقوبات الغربية غير شرعية في المقام الأول. هذه الإمكانية تضع حدًا لمدى تأثير التحرك الأوروبي، وتجعل نجاح حملة “الضغوط القصوى” الأممية مرهونًا بتكاتف دولي أوسع.
الدافع الأوروبي لتفعيل الزناد لا يقتصر على المسألة النووية بحد ذاتها، بل ينبع أيضًا من خشية زعزعة الاستقرار الإقليمي. فالتصعيد الإيراني – نوويًا وإقليميًا – أثار مخاوف من سباق تسلح في الشرق الأوسط، وربما اندلاع مواجهات عسكرية مباشرة. الأوروبيون، الذين عارضوا انسحاب واشنطن الأحادي من الاتفاق النووي عام 2018، يجدون أنفسهم الآن مضطرين للتلويح بالعصا الغليظة ذاتها نتيجة استمرار خروق طهران. كما حصلوا على دعم ضمني من الولايات المتحدة التي لم تعد طرفًا في الاتفاق لكنها أيّدت الموقف الأوروبي وشددت الضغوط الدبلوماسية والعسكرية على إيران. وتتطلع العواصم الغربية عبر هذا التهديد الجدي إلى دفع إيران لتقديم تنازلات قبل فوات الأوان – مثل القبول بعودة المفتشين ووقف التخصيب العالي – مقابل تجنب العودة إلى العقوبات الأممية. أي أن الهدف الأوروبي تكتيكي بقدر ما هو عقابي: استخدام التهديد بآلية الزناد كوسيلة ضغط لانتزاع تفاهم جديد، وليس مجرد معاقبة إيران دون طائل.
على صعيد آخر، يدرك الأوروبيون خطورة أن يُفسَّر تفعيل العقوبات بأنه إشارة ضوء أخضر لتصعيد عسكري من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة ضد إيران. فإسرائيل لم تُخفِ يومًا معارضتها للاتفاق النووي ورغبتها بمنع إيران من امتلاك قدرة عسكرية نووية. وقد تعتبر تل أبيب إعادة فرض العقوبات الدولية دليلًا على فشل المسار الدبلوماسي، مما قد يدفعها لخيارات عسكرية أكثر جرأة. ولعل الأوروبيين يوازنون بين هذا السيناريو الخطير وبين خيار ترك إيران تواصل أنشطتها بلا كوابح؛ فكلاهما يحمل مخاطر جمة. لذا فهم يُظهرون وحدة صف وصرامة الآن على أمل تجنب الأسوأ لاحقًا: إما اتفاق مُحسَّن يبدد شبح الحرب أو مواجهة حتمية وقد بلغت الضغوط مداها. وفي كل الأحوال، نحن أمام مرحلة مفصلية في الدبلوماسية الدولية تجاه إيران، عنوانها أنه لم يعد مقبولًا الوضع الراهن من الانتهاكات الإيرانية، وأن صبر الأوروبيين نفد ولم يتبق لديهم سوى ورقة “الزناد” الأخيرة.
ثانيًا: الانقسامات الداخلية بين التفاوض والتصعيد
يتزامن الضغط الخارجي مع حالة غليان داخل أروقة الحكم في طهران، حيث برز انقسام واضح بين جناح براغماتي يميل إلى التهدئة والتفاوض، وآخر عقائدي متشدد يدفع نحو التصعيد والمواجهة. هذا الانقسام تجلى في الأشهر الأخيرة بصورة غير معهودة رغم دعوات المرشد الأعلى علي خامنئي المتكررة للوحدة الداخلية. فمع تزايد الأخطار المحدقة بالنظام، بدأ بعض رموز الحكم يرون أن السبيل الأوحد لتجنب انهيار شامل هو العودة إلى طاولة المفاوضات مع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة. وفي هذا السياق نقلت وكالة "رويترز" عن ثلاثة مصادر إيرانية مطلعة أن القيادة السياسية في طهران باتت تعتبر التفاوض مع واشنطن حول النووي الخيار الوحيد لمنع تصعيد الصراع وتجنب خطر وجودي على النظام. حتى خامنئي نفسه – الذي عُرف بتصلبه – يُقال إنه بات ميالًا لهذا المنحى بعدما رأى "كلفة المواجهة العسكرية" خلال جولة التصعيد الأخيرة. ويؤكد دبلوماسي غربي أن حكام إيران "لم يكونوا يومًا بهذا الضعف"، مشيرًا إلى استياء داخلي متصاعد من الحرب والعزلة وسوء الإدارة ونقص الماء والكهرباء وسط انقطاعات يومية للتيار الكهربائي وأزمة مياه خانقة أثّرت على حياة الناس وأعمالهم. في ظل هذه الظروف، ارتفعت أصوات براغماتية داخل النظام تنادي بضرورة البحث عن مخارج عبر الدبلوماسية، حتى لو تطلب الأمر تقديم تنازلات موجعة.
على الجهة الأخرى، يقف معسكر الصقور الأيديولوجيين الذي يرى في أي تراجع أمام الضغوط الغربية تهديدًا لهيبة النظام و"خط الثورة". هذا المعسكر يتمثل بشكل رئيسي في قيادات الحرس الثوري والتيار المحيط بخامنئي ذاته (المتشددون التقليديون). وقد بلغت حدة الخلاف بينهم وبين الداعين للتفاوض حد المواجهة العلنية عبر الإعلام. فقبل أسابيع قليلة، أجرت قناة فوكس نيوز الأمريكية مقابلة مع عباس عراقجي – الذي تبوأ منصب وزير الخارجية مؤخرًا – عبّر فيها عن استعداد إيران للتفاوض واعترافه بحجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية جرّاء ضربات أمريكية.
ثار ذلك حنق صحيفة "كيهان" المحسوبة على مكتب المرشد، فشنت هجومًا لاذعًا على عراقجي في افتتاحية بعنوان "خطأ ترامب الكبير بعد توسله لوقف إطلاق النار". اتهمت كيهان الوزير بالضعف وتقديم "تنازل دبلوماسي" غير مبرر يناقض رواية النظام الرسمية، ورأت في تصريحاته "استجداءً لوقف إطلاق النار" يسيء لموقف إيران المتحدي. وذهب كاتب الافتتاحية إلى أن عراقجي، بهذا النهج المرن، إنما شجّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على التمادي في تهديداته. ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ اتهمته كيهان أيضًا بـ"شرعنة دعاية العدو" من خلال إقراره ببعض الوقائع الحساسة أمام وسيلة إعلام غربية، وبأنه اختار المنبر الخطأ في ظرف حرب إعلامية ونفسية، مما عرّض رسالة إيران للتحريف والاستغلال من قبل المعارضين.
هذا السجال العلني كشف عمق الهوة داخل بنية الحكم في إيران: فمن جهة هناك تيار واقعي - يضم دبلوماسيين سابقين وبعض التكنوقراط وحتى جزء من حكومة إبراهيم رئيسي خلف الكواليس - بدأ يدرك خطورة العزلة الخانقة اقتصاديًا وعسكريًا، ويرى ضرورة تجرع كأس التفاوض المر لشراء الوقت وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ومن جهة مقابلة، هناك تيار عقائدي متشدد يعتبر أي لين بمثابة خيانة لـ"نهج المقاومة" الذي أرساه الخميني. هذا التيار الأخير يحظى بدعم المنابر المتشددة كـ"كيهان" وجناح واسع في الحرس الثوري، ويستند إلى خطاب مفاده أن الصمود والثبات كفيلان بانتزاع تنازلات من الغرب بدل تقديمها. ولعل خامنئي نفسه يقع في قلب هذه المعادلة: فبينما تروي التسريبات تغيّر نظرته نسبيًا بفعل الضغوط، لا يزال علنًا يؤكد على شعارات الصمود ويرفض "التفاوض تحت سيف العقوبات" لما في ذلك من إذلال سياسي.
ومما زاد المشهد تعقيدًا أن إيران شهدت تغييرًا في رئاسة الجمهورية (في سياق تصوري لسنة 2025) بوصول وجه إصلاحي/معتدل إلى الحكم – كما أوردت بعض التحليلات – يمثله مسعود بزشكيان مثلًا. هذا الرئيس (الافتراضي) وعد برفع العقوبات عبر الدبلوماسية، لكنه اصطدم برفض خامنئي المطلق للتفاوض مع الأمريكيين، ما عمّق غياب الوحدة الاستراتيجية داخل قمة النظام. وبغض النظر عن دقة هذا السيناريو، فإن النتيجة واحدة: صانعو القرار في طهران منقسمون على أنفسهم. فريق يرى مصلحة النظام في التهدئة المرنة ولو اضطر للتخلي عن بعض أوراق القوة (كالبرنامج النووي المتقدم) مقابل تخفيف الخناق، وفريق آخر يعتبر أي تراجع انتحارًا بطيئًا للنظام ويفضّل الهروب إلى الأمام بتصعيد إقليمي وربما نووي أيضًا.
يؤثر هذا الانقسام على صناعة القرار الإيراني، حيث تظهر مواقف متضاربة بين مسؤول وآخر. فمثلًا، قد يُدلي وزير بخطاب تصالحي سرعان ما ينسفه قائد بالحرس الثوري بخطاب ناري مناقض. وقد تابع المراقبون خلال الفترة الماضية تصريحات متباينة: بين من يلمح لإمكانية حلول وسط (كإبداء الاستعداد لخطوات فنية مع الوكالة الذرية)، ومن يتوعّد بخطوات انتقامية كطرد المفتشين أو حتى الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي. هكذا مشهد يعكس اهتزاز البوصلة داخل النظام، مما يزيد من ارتباكه في مواجهة الضغط الخارجي. فالانقسامات الداخلية تضعف الموقف الإيراني التفاوضي من جهة، لأنها تظهر غياب الإجماع، ولكنها من جهة أخرى تنذر بأن صراع الأجنحة قد يشتد مع تأزم الأوضاع بحيث قد نشهد إقالات أو تغييرات قسرية في المواقع (كما حصل بإزاحة مسؤولين تبنوا مواقف مرنة أكثر من اللازم).
باختصار، يجد النظام الإيراني نفسه اليوم مشطورًا بين نهجين: نهج براغماتي إنقاذي يدعو لكسر الجمود مع الغرب تجنبًا للانهيار الاقتصادي والعسكري، ونهج أيديولوجي متشدد يؤمن بأن التشدد هو سبيل النجاة الوحيد وأن أي تنازل سيكون مقدمة للسقوط. هذا الصدع الداخلي مرشح للتفاقم كلما اقترب سيف والعقوبات الأممية من رقبة طهران، وقد يؤدي في لحظة ما إلى إعادة تشكيل معادلة السلطة داخل إيران وفقًا لموازين القوى بين الجناحين.
ثالثًا: القمع الداخلي واحتمالات الانتفاضات الشعبية في ظل الأزمة الاقتصادية
على وقع التهديدات الخارجية والتجاذبات داخل النظام، يعيش المجتمع الإيراني أزمة معيشية خانقة تزداد سوءًا يومًا بعد يوم. فقد بلغت الضائقة الاقتصادية مستوى غير مسبوق مع ارتفاع معدلات التضخم وانهيار العملة وتفشي البطالة والفقر. وتشير التقارير إلى أن معدل التضخم السنوي تجاوز 37% في ربيع 2025، ولامس سعر الصرف حاجز المليون ريال مقابل الدولار الواحد للمرة الأولى في التاريخ. هذا التدهور الحاد، الناتج عن سنوات من العقوبات وسوء الإدارة، أنهك القدرة الشرائية للإيرانيين وأدى لنقص حاد في السلع الأساسية وارتفاع جنوني في الأسعار. يضاف إلى ذلك أزمات بنيوية كندرة المياه وانقطاع الكهرباء بشكل يومي في مدن كبرى، مما جعل الحياة اليومية للمواطن الإيراني كفاحًا مستمرًا مع الأساسيات. وفي ظل هذه الظروف، يتزايد السخط الشعبي وتتعالى الأصوات الناقمة على النظام الذي يُحمِّله كثيرون مسؤولية العزلة الدولية والوضع الاقتصادي المزري.
لم يكن مفاجئًا إذًا أن نشهد خلال السنوات القليلة الماضية موجات متعاقبة من الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية هزّت أركان النظام. البداية كانت مع احتجاجات يناير 2018 ثم احتجاجات الوقود العارمة في نوفمبر 2019، وصولًا إلى الانتفاضة الكبرى التي اندلعت في خريف 2022 عقب مقتل الشابة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى شرطة الأخلاق. تميزت تلك الانتفاضة بتجاوزها الشعارات المطلبية إلى شعارات مناهضة لأساس الحكم (“الموت للدكتاتور” و“يسقط مبدأ ولاية الفقيه”)، وشاركت فيها شرائح واسعة من مختلف الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية. ردّ النظام كان عنيفًا كعادته؛ حيث واجه المحتجين بآلة قمع دامية أوقعت أكثر من 400 قتيل في أواخر 2022 ومطلع 2023 بحسب منظمات حقوقية، فضلًا عن آلاف المعتقلين. هذا القمع الوحشي نجح مؤقتًا في إخماد جذوة الاحتجاجات العلنية، لكنه لم يعالج أسبابها العميقة. فالأسباب – من ظلم اجتماعي وبطالة وفساد وقمع للحريات – ازدادت حدّة منذ ذلك الحين، وفاقمتها الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
وإحدى مفارقات المشهد الإيراني الحالي أن كل خطوة يتخذها النظام لسدّ ثغرة تفتح عليه ثغرات أخرى. فمثلاً، اعتمدت السلطات سياسة القبضة الحديدية حفاظًا على بقائها، لكنها بذلك راكمت الغضب المكتوم تحت السطح. فالإيرانيون الذين خرجوا مرارًا للشوارع باتوا أكثر يأسًا من إمكانية الإصلاح التدريجي، وبات شعارهم “الإصلاحيون والأصوليون كلاهما سواء… اللعبة انتهت!” في تعبير صريح عن رفض كل أجنحة النظام. كذلك، سعى النظام لتخفيف أثر العقوبات عبر توسيع دعم أذرعه الإقليمية أملاً في مكاسب جيوسياسية تعوّض ضائقته، لكنه بذلك أثار نقمة داخلية أكبر إذ يرى المواطن البسيط أن ثروات بلاده تُنفق على مغامرات خارجية فيما هو يعاني الخصاصة. وقد انفجرت موجة غضب شعبي عندما تكشّفت أخبار استمرار طهران في تمويل حليفها حزب الله بمئات ملايين الدولارات سنويًا رغم ضائقة البلاد. ووصل الأمر بمعلقين داخل إيران إلى القول إن النظام يضحي برغيف الشعب في سبيل مشاريعه الأيديولوجية الخارجية. هذه المشاعر تتراكم بمرو الوقت وتشكل وقودًا جاهزًا للاشتعال مجددًا عند أي شرارة.
الآن، ومع احتمال إعادة العقوبات الأممية، هناك خشية من تفاقم المعاناة الاقتصادية إلى مستويات أشد. فعودة حظر صادرات النفط والمزيد من العزلة المالية سيعنيان تقلص قدرة الحكومة على توفير السلع الأساسية والطاقة بأسعار مدعومة، وربما تلجأ السلطات لرفع أسعار الوقود مجددًا لسد العجز. وهو الأمر الذي سبق وأن فجر احتجاجات عنيفة عام 2019. بكلمات أخرى، قد تجد الحكومة الإيرانية نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات لا شعبية اقتصاديًا تحت طائلة العقوبات، ما قد يعيد إشعال الشارع الساخط. وحتى لو حاولت احتواء النقمة عبر مزيد من القمع الأمني – وهو المسار المرجح – فإن لذلك حدود أيضًا. إذ تشير تقارير إلى بوادر إنهاك داخل أجهزة القمع نفسها؛ فالتعبئة المستمرة للشرطة والباسيج والحرس لقمع الاحتجاجات أثرت على معنوياتهم، مع تزايد عزلة إيران وتراجع مواردها. وبعض التحليلات تتحدث عن تصاعد التململ حتى داخل النخبة الحاكمة على خلفية قضايا مثل قانون الحجاب الإجباري الصارم الذي يختلف حوله “المتشددون” و“الأكثر تشددًا”. هذه الشروخ، وإن كانت محدودة بعد، تُنذر بأنه في حال انفجرت موجة احتجاجية عارمة جديدة، قد لا يكون رد فعل المنظومة الأمنية موحدًا وصلبًا كما كان في السابق.
ولعل العامل الأكبر الذي يحدد احتمالات عودة الانتفاضة هو مدى اليأس أو الأمل لدى الجمهور. فحتى الآن، ورغم القمع، تستمر جيوب احتجاجية متفرقة: إضرابات عمالية هنا، تجمعات تقاعديين غاضبين هناك، احتجاج نسائي ضد قيود اللباس… كلها مؤشرات بأن جذوة المعارضة المجتمعية لم تنطفئ. وإذا ما أضيف صدمة اقتصادية جديدة تحت وطأة عقوبات أشمل، فقد تتقاطع هذه التحركات المتفرقة في حراك شعبي واسع يصعب على النظام احتواؤه. ويعي النظام هذا الخطر جيدًا؛ لذا نراه يكثّف إجراءات المراقبة والسيطرة الداخلية كلما اشتدت الضغوط الخارجية، معتقدًا أن تشديد القبضة الأمنية سيمنع الانفجار. لكن التاريخ القريب علمنا أن دوامة القمع – الانفجار مرشحة للاستمرار: قمع مؤقت يعقبه انفجار أعنف إذا لم تتوفر حلول سياسية جذرية. وفي حالة إيران، يكاد الخيار السياسي الداخلي مسدودًا بسبب إقصاء كل أصوات الإصلاح الحقيقي، ما يترك الشارع في مواجهة مباشرة مع الدولة بدون وسيط. من هنا، فإن احتمال انتفاضة شعبية كبرى يظل قائمًا وربما يتعزز كلما ازداد الخناق الاقتصادي بفعل عودة العقوبات الأممية. وتبقى المعادلة الأخطر: إلى أي مدى سيذهب النظام في قمع أي انتفاضة جديدة؟ وهل يظل متماسكًا أم نشهد تصدعات في صفوفه إذا انفلت الزمام؟ الإجابة على ذلك قد تحدد فعليًا مستقبل إيران السياسي في المدى القريب.
رابعًا: الرهان على الوكلاء الإقليميين وضعفهم تحت الضغط الدولي والمحلي
اعتمدت استراتيجية الأمن القومي الإيراني لعقود على ما يسمى "العمق الاستراتيجي" أو "الدفاع المتقدم" عبر شبكة من الوكلاء والحلفاء الإقليميين، لاسيما في الدول العربية المجاورة. هذه الشبكة المعروفة بـ"محور المقاومة" تضم ميليشيات وتنظيمات مسلحة مرتبطة عضويًا بإيران مثل حزب الله في لبنان، وفصائل الحشد الشعبي في العراق، وجماعة الحوثيين في اليمن، بالإضافة إلى وجود مؤثر لإيران في سوريا عبر بقاء نظام بشار الأسد حليفًا لها. شكّلت هذه الأدوات خط الدفاع الأول عن مصالح طهران خارج حدودها، حيث استطاعت عبرها مقارعة خصومها الإقليميين (كإسرائيل والسعودية) بالوكالة وإبقاء أراضيها بمنأى عن المواجهة المباشرة. بيد أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن هذا الرهان الاستراتيجي بات يواجه تحديات غير مسبوقة، ما قد يجعل أهم أوراق قوة النظام الإيراني عرضة للتآكل.
في لبنان، كان حزب الله طوال العقود الماضية الجوهرة الأبرز في تاج النفوذ الإيراني. فهو تنظيم يمتلك قدرات عسكرية وسياسية تفوق حجمه المحلي، واستطاع فرض نفسه كقوة إقليمية تحسب لها إسرائيل والغرب ألف حساب. لكن واقع حزب الله اليوم ليس كالأمس. فلبنان يرزح تحت أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، وحزب الله في نظر قطاع واسع من اللبنانيين أحد المسؤولين الرئيسيين عن هذه الكارثة بسبب تبعيته لإيران وتورطه في حروب سوريا واليمن، ما جرّ على لبنان عقوبات وعزلة عربية وغربية. لقد تراجعت شعبية الحزب حتى ضمن بيئته التقليدية؛ فمثلاً شهدت الانتخابات النيابية 2022 انخفاضًا في نسب التصويت بمعاقل الحزب ما فُسّر أنه مؤشر تعب وإحباط، وإن كان ما يزال يحظى بدعم أغلبية كبيرة من الطائفة الشيعية بفضل شبكة مصالح ورمزية المقاومة ضد إسرائيل. في المقابل، تنشط أصوات لبنانية وازنة تطالب صراحةً بنزع سلاح حزب الله ووضع حد لـ"دويلته" داخل الدولة. وقد ازدادت جرأة هذه الأصوات مؤخراً مستفيدة من تغيرات إقليمية (كالانفراج السعودي الإيراني) ومن شعور عام بضعف موقع الحزب. حتى الحكومة اللبنانية نفسها بحثت لأول مرة بشكل جدي خيار معالجة مسألة سلاح حزب الله بتأييد دولي. وصدر عن مرجعيات مسيحية وسنية تصريحات تتهم استمرار سلاح الحزب بأنه خرب الاقتصاد وعزل لبنان عقودًا وأعاده قرنًا إلى الوراء. وذهب قادة مثل سمير جعجع (رئيس حزب القوات اللبنانية) إلى مطالبة الحكومة بدعوة جامعة الدول العربية والأمم المتحدة للتدخل لكبح "تهديد الجمهورية الإسلامية للبنان. هذا الضغط السياسي الداخلي غير المسبوق على الحزب يضعه في موقف دفاعي ويُظهر تآكلًا في هيبته المحلية.
علاوة على ذلك، تعرّض حزب الله في العام المنصرم لضربات موجعة عسكريًا. فخلال الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة (أكتوبر 2023)، انخرط الحزب في مناوشات محدودة مع إسرائيل في الجنوب اللبناني، تجنبًا لحرب شاملة، لكنه لم يسلم من الاستهداف الإسرائيلي المركز. وتفيد تقارير بأن عدداً من قادة الحزب الميدانيين لقوا مصرعهم في ضربات جوية إسرائيلية بل تحدثت بعض المصادر عن مقتل الأمين العام حسن نصر الله نفسه في إحدى الضربات - وإن لم يؤكد ذلك رسميًا - مما اضطر الحزب لتعيين خليفة له (نائبه الشيخ نعيم قاسم). إن صحت هذه المعلومات، فهي تعني هزة كبرى للحزب بفقدانه زعيمه التاريخي ورمز "انتصاراته"، وتضيف إلى ضعفه السياسي ضعفًا معنويًا وتنظيميًا. حتى بدون افتراض رحيل نصر الله، يكفي القول إن الآلة العسكرية الإسرائيلية باتت تعتبر حزب الله هدفًا مباشرًا في أي مواجهة قادمة، خاصة بعد انكشاف ترسانته الصاروخية الدقيقة ووجود مصانع أسلحة إيرانية سرًا على الأراضي اللبنانية. أي مواجهة مقبلة قد تؤدي إلى تدمير بنية الحزب التحتية في الجنوب والبقاع بشكل غير مسبوق، ولن تقف روسيا أو غيرها لحمايته إذا تراجعت قدرة إيران على الدعم.
ثم هناك العامل المالي: حزب الله يعاني ضائقة مالية بسبب شح الدعم الإيراني جراء العقوبات. فمن المعروف أن طهران كانت تمول الحزب سنويًا بحوالي 700 مليون إلى 1 مليار دولار وفق تقديرات أمريكية، لكن هذه الأرقام تراجعت في السنوات الأخيرة تحت الضغط الاقتصادي على إيران. وقد اعترف مسؤولو حزب الله ضمنًا بالتقشف، إذ أُلغيت بعض الامتيازات وتم الاستغناء عن كوادر وإغلاق قنوات إعلامية للحزب بسبب نقص التمويل. ورغم محاولة الحزب تعويض ذلك عبر أنشطة تجارية محلية وشبكات تهريب، إلا أن استمرار الأزمة في إيران سيعني حتمًا تضاؤل الموارد المتاحة له.
وقد يؤدي والعقوبات الدولية الشاملة إلى قطع شرايين تمويل أخرى (كالمصارف والشركات المتهمة بغسل الأموال لصالحه) عبر إجراءات أكثر تشددًا. وهذا يضع الحزب أمام تحدٍ وجودي: فمشروع “المقاومة” مكلف جدًا، وإذا جفّت المنابع المالية، سيصبح من الصعب الإبقاء على ترسانته ورواتب مقاتليه وشبكة خدماته الاجتماعية التي تكسبه ولاء الكثيرين.
كل هذه العوامل أدت إلى أن مكانة حزب الله المستقبلية باتت موضع تساؤل جدي. هل يبقى قوة مسلحة مهيمنة إلى ما لا نهاية؟ أم أننا أمام سيناريو تراجع تدريجي لدوره تحت الضغوط؟ من جهة، يعلن الحزب ورعاته الإيرانيون بوضوح رفضهم القاطع لأي مساس بسلاحه، معتبرين إياه خطًا أحمر يتعلق بهوية المقاومة وميزان الردع مع إسرائيل. وقد حذر نعيم قاسم الأمين العام الجديد صراحةً من أن محاولة نزع سلاح الحزب ستشعل حربًا أهلية في لبنان، مهددًا بأنه "لن يبقى شيء من لبنان" إذا أقدموا على تلك الخطوة.
هذا التصريح يعكس استعداد الحزب للقتال داخليًا للحفاظ على سلاحه، مما يعني أن أي جهود لنزعه بالقوة قد تفجر الساحة اللبنانية الهشة. من جهة أخرى، يدرك عقلاء لبنان أن بقاء الوضع القائم (دولة داخل دولة) لم يعد ممكنًا إذا أريد إنقاذ البلد اقتصاديًا وسياسيًا. لذا يبدو أننا سنشهد استمرارًا لحالة شد الحبل بين الفريقين.
في العراق، تمثل قوات الحشد الشعبي ركيزة النفوذ الإيراني. فهذه المظلة الواسعة من الميليشيات الشيعية، التي تأسست لقتال "داعش" عام 2014، صارت بعد هزيمة التنظيم لاعبًا عسكريًا وسياسيًا لا غنى عنه في العراق، وكثير من فصائلها تدين بالولاء العقائدي والسياسي لإيران (مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وغيرها). طهران تنظر إلى الحشد على أنه ضمانة لبقاء العراق ضمن فلكها ومنع انجراره بالكامل للمحور الأمريكي. خلال السنوات الماضية، ضغطت واشنطن وحلفاؤها على الحكومات العراقية المتعاقبة لدمج الحشد في القوات النظامية أو تحجيم نفوذه، ونجحت إلى حد ما في فصل الهيكل الإداري للحشد عن القيادة الإيرانية المباشرة. لكن عمليًا، ما زالت الفصائل الأقوى فيه تعمل بتوجيه الحرس الثوري وتتبنى أجندة إيران الإقليمية (وشواهد ذلك قصفها المتكرر للقواعد التي تستضيف قوات أمريكية في العراق وسوريا). اليوم، ومع تقلص خطر داعش، تواجه شرعية الحشد الشعبي تساؤلات داخلية: كثير من العراقيين، خاصة في الوسط السني والكردي، يرون في بعض فصائل الحشد قوة خارجة عن الدولة تفرض أجندة إيران وتعرقل بسط سيادة المؤسسات.
حتى في الشارع الشيعي ذاته، ظهرت أصوات ناقدة لسلوكيات فصائل متهمة بالفساد أو انتهاكات حقوقية، وبرزت مظاهرات (خاصة انتفاضة تشرين 2019) نددت بنفوذ إيران وأذرعها العسكرية في العراق.
إيران استشعرت هذه المخاطر، فقامت مؤخرًا بخطوة استباقية عبر دفع حلفائها في بغداد لتمرير قانون يمنح الحشد وضعًا قانونيًا أقوى. وخلال زيارة علي لاريجاني لبغداد في أغسطس 2025، أفادت مصادر أنه ضغط على قادة الإطار التنسيقي الشيعي لضمان إقرار قانون يثبت مكانة الحشد كجزء رسمي من القوات المسلحة العراقية. هذا التحرك يهدف إلى تحصين الحشد ضد أي محاولة مستقبلية لحله أو دمجه قسريًا، حيث سيصبح عندئذٍ محميًا بشرعية البرلمان العراقي. كما يأتي الرد الإيراني المباشر على جهود أمريكية لحل بعض الفصائل، إذ تعتبر طهران بقاء الحشد قويًا خطًا أحمر لأمنها الإقليمي. ومع ذلك، فالمناخ في العراق ليس أحاديًا: فهناك أيضًا ضغط أمريكي وتهديد بعقوبات إن مضت بغداد في تكريس وضع الميليشيات.
وقد لمح مسؤولون عراقيون إلى خشيتهم من خسارة دعم واشنطن المالي والعسكري إذا لم يتم كبح نفوذ جماعات موالية لإيران. يُذكر أن حكومة محمد شياع السوداني وجدت نفسها في موقف حرج بهذا الصدد: فمن جهة يدعمها حلفاء إيران في الإطار التنسيقي ويطالبونها بالولاء لطهران، ومن جهة أخرى تسعى للحفاظ على علاقات متوازنة مع الخليج والغرب وعدم تحويل العراق لساحة مواجهة. ومن هنا يمكن تفسير توقيع بغداد اتفاقًا أمنيًا مع طهران في مارس 2023 يتعهد بضبط الحدود ومنع تسلل المعارضين الأكراد الإيرانيين؛ إذ أرادت حكومة بغداد مهادنة إيران أمنيًا لتخفيف ضغوطها، لكنها بالمقابل حظيت برضا غربي مشروط على أساس أن العراق يحاول ضبط الفصائل المسلحة أيضًا.
في المجمل، يعاني النفوذ الإيراني في العراق ولبنان من رياح معاكسة. في كلا البلدين، هناك نزعة متصاعدة لتغليب منطق الدولة على سطوة الميليشيات، يدفع بها جزء من الرأي العام ومن القوى السياسية المناوئة لإيران. وفي كلاهما أيضًا يظهر جيل شبابي ناقم على دور طهران في بلده ومتحمس لاستعادة القرار الوطني المستقل (رأينا ذلك في شعارات انتفاضة العراق 2019 ضد إيران، وفي هتافات احتجاجات اللبنانيين ضد المنظومة الحاكمة التي يعتبرون حزب الله ركيزتها).
وبالتوازي مع هذا الرفض المحلي، يأتي ضغط دولي/إقليمي لكبح جماح وكلاء إيران: فواشنطن تفرض عقوبات على شخصيات وكيانات مرتبطة بالحشد وحزب الله، ودول الخليج تشترط إضعاف نفوذ الحزب في أي مساعدات للبنان. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى أن الهوامش المتاحة أمام أذرع إيران تضيق شيئًا فشيئًا. وحتى نظام الأسد في سوريا – الذي طالما شكل حلقة وصل للإيرانيين إلى لبنان – يواجه ضعوطًا جديدة؛ فإسرائيل كثفت ضرباتها لقواعد الحرس الثوري هناك، ودول عربية أعادت التطبيع مع دمشق بشرط كبح النفوذ الإيراني، ما يعني أن مساحة المناورة تقل لطهران.
ومن منظور استراتيجي أشمل، يمكن القول إن “محور المقاومة” الذي بنته إيران بجهد عقود يتعرض للتفكيك التدريجي. فقد انهار جزء كبير من مرتكزاته بسوريا خلال الحرب الأهلية، قبل أن تنقذ روسيا النظام هناك عام 2015. وفي لبنان، بات سلاح الحزب تحت المجهر محليًا ودوليًا. وفي العراق، يتعرض المشروع الإيراني لممانعة متزايدة من شعب يرفض أن يكون بلده تابعًا. أما اليمن – وسنتطرق له تفصيلاً – فلم يعد ساحة مريحة لإيران بعد تغير المعادلات الإقليمية هناك. إحدى الدراسات وصفت الوضع بأن العمق الاستراتيجي الإيراني صار مهددًا بالتآكل بفعل هذه العوامل. ومع أن إيران لم تفقد بالكامل أوراقها حتى الآن، إلا أن هوامش النفوذ التي تمتعت بها منذ 2010 إلى 2020 آخذة في الانحسار. وهذا التطور يُفقد النظام الإيراني أحد أهم مصادر شرعيته الداخلية أيضًا؛ فطالما تباهى النظام بأنه “يمسك بخيوط المنطقة” وأن سقوطه سيؤدي لانهيار حلفائه. الآن نرى أن حلفاءه أنفسهم يهترئون تحت الضغط، بل بعضهم سبق النظام في الأفول (لو افترضنا سيناريو سقوط الأسد كما تلمح بعض التحليلات). باختصار، رهان إيران على وكلائها كدرع خارجي يواجه أزمة حقيقية: فالدروع مهترئة والسهام الدولية والإقليمية تخترقها بسهولة متزايدة.
خامسًا: زيارة لاريجاني إلى العراق – تأمين النفوذ ومسارات الالتفاف على العقوبات
وسط هذه التحولات، أوفد المرشد الإيراني أحد ثقاته ومهندسي سياساته الإقليمية، علي لاريجاني، في جولة إقليمية شملت بغداد وبيروت في أغسطس 2025. لاريجاني، الرئيس الأسبق للبرلمان والذي عُيّن حديثًا أمينًا للمجلس الأعلى للأمن القومي، حمل معه أجندة طارئة تهدف إلى ترميم شبكات نفوذ طهران في جوارها، وضمان استمرار قنواتها الحيوية لمواجهة العزلة الدولية المتوقعة. اختار النظام العراقي ليكون محطة أولى باعتباره الرئة الاقتصادية والسياسية الأهم لإيران في المنطقة، وذلك لعدة أسباب:
1. تكريس الاتفاقات الأمنية وضبط الحدود: خلال الزيارة، أشاد لاريجاني بـالاتفاق الأمني الجديد بين طهران وبغداد الذي وُقّع مؤخرًا، معتبرًا إياه أساسًا “لاستقرار مستدام في غرب آسيا”. وينص الاتفاق على ضبط الحدود المشتركة خاصة لمنع تسلل الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة المتمركزة في كردستان العراق. هذا البند يكتسب أهمية بالغة لطهران التي هددت سابقًا بعمليات عسكرية داخل العراق ضد معاقل تلك الجماعات إن لم يتحرك العراقيون. بتأكيد لاريجاني على الاتفاق، يضمن أن بغداد ملتزمة بمنع أي نشاط معادٍ ينطلق من أراضيها نحو إيران. بالمقابل، قد يكون هناك تفاهم ضمني بأن تتجنب طهران زعزعة استقرار العراق أمنيًا. وهكذا تُحكم إيران قبضتها على أحد منافذ التهديد لأمنها القومي عبر الدبلوماسية بدلًا من المواجهة المباشرة.
2. تحصين الحشد الشعبي سياسيًا: ذكرت مصادر عراقية أن أحد أهداف لاريجاني الأساسية كان حشد الدعم لإقرار قانون يمنح الحشد الشعبي وضعًا قانونيًا راسخًا. فالحكومة العراقية كانت تناقش مشروع قانون يضفي شرعية على وجود الحشد ككيان مستقل (بميزانية وصلاحيات خاصة) ضمن المنظومة الأمنية. هذا الأمر تراه طهران حيويًا لترسيخ نفوذها العسكري في العراق. وبالفعل التقى لاريجاني بقيادات الإطار التنسيقي (الكتلة الشيعية الأكبر) وحثهم على تمرير القانون سريعًا. فهو يدرك أن أي تراجع أمريكي في العراق مستقبلاً أو أي تغير سياسي قد يهدد وجود الميليشيات إذا ظلت بوضعها الحالي شبه الرسمي. لذا فإن تقنين وضع الحشد بقانون برلماني سيصعّب جدًا أي محاولة مستقبلية لحله أو دمجه بالكامل في الجيش تحت إمرة ضباط غير موالين لإيران. وقد اعتبر الإعلام المحسوب على طهران في العراق زيارة لاريجاني بمثابة ”نداء استغاثة من حزب الله العراقي (الحشد) للاستقواء بإيران” – في إشارة إلى أن الفصائل شعرت بضغط وربما خشية من رضوخ حكومة بغداد للضغوط الأمريكية لتقليص دور الحشد، فسارعت لطلب دعم لاريجاني.
3. الحفاظ على العراق كمتنفس اقتصادي: إلى جانب الجانب الأمني، شدد لاريجاني على تعزيز التعاون الاقتصادي والاجتماعي بين البلدين. وهذا بليغ الدلالة؛ فالعراق يعد اليوم ثاني أكبر شريك تجاري لإيران بعد الصين، وحجم التبادل يصل لعشرات المليارات سنويًا (معظمها صادرات إيرانية من الكهرباء والغاز والسلع). كما أن العراق ظل منفذًا مهمًا لإيران للالتفاف على العقوبات الأمريكية عبر التعامل نقدًا وبالعملة المحلية أو اليورو في تجارة الطاقة. وقد سمحت واشنطن للعراق باستيراد الغاز والكهرباء من إيران ضمن إعفاءات خاصة، مما يدر على طهران عملة صعبة تحتاجها بشدة. من هنا فإن الحفاظ على علاقات اقتصادية وثيقة مع بغداد يمثل طوق نجاة لطهران إذا ما عادت العقوبات الأممية وازدادت عزلتها مالية.
فوجود شريك جار يتعامل تجاريًا معها يساعدها في توفير بعض الاحتياجات وتصدير بعض الفائض، سواء بشكل قانوني (بإذن أمريكي كما في قطاع الطاقة) أو عبر التهريب والطرق الملتوية (مثل شبكة تهريب الدولار عبر مصارف عراقية والتي حاولت السلطات العراقية كبحها مؤخراً تحت ضغط أمريكي). خلال زيارة لاريجاني، من المحتمل أنه بحث مع المسؤولين العراقيين سبل التعاون للالتفاف على أية عقوبات قادمة، عبر آليات مثل توسيع التجارة بالعملات المحلية أو تأسيس شركات واجهة وتسهيلات مصرفية بعيدًا عن الرقابة الدولية. وقد تحدثت تقارير في السابق عن استخدام إيران مصارف عراقية لتحويل أموال والتملص من قيود التحويلات بالدولار، مما دفع واشنطن لمطالبة بغداد بالتشدد ومؤخرًا فرض البنك المركزي العراقي قيودًا على بضعة مصارف ثبت تورطها بتهريب العملة إلى إيران. هذا التجاذب الأمريكي الإيراني على الساحة المالية العراقية يجعل دور بغداد حرجًا في المرحلة المقبلة: فإما أن ترضخ بالكامل للرقابة الأمريكية فتخسر إيران منفذها المالي، أو توازن بين الطرفين بتحييد بعض القنوات لإيران وتقديم تنازلات شكلية لواشنطن.
4. رسالة سياسية: العراق باقٍ في الحضن الإيراني: لم تغفل طهران أيضًا البعد الرمزي لزيارة لاريجاني لبغداد بعد أيام فقط من تعيينه. فاختيار العراق كأول وجهة يُظهر أن إيران تعتبر الساحة العراقية امتدادًا لأمنها القومي. وقد صرح لاريجاني من هناك بأن "أمن إيران من أمن دول الجوار، والعكس صحيح"، في تلميح إلى عمق الارتباط. وحرص على لقاء معظم القيادات العراقية، من رئيس الوزراء إلى زعماء الكتل، ناقلاً لهم رسالة مفادها أن إيران، رغم ضعفها الراهن، ما تزال اللاعب الإقليمي الذي لا يمكن تجاهله في العراق. وربما أرفق الرسالة بترغيب وترهيب: ترغيب عبر الوعود باستثمارات وتعاون اقتصادي (ذكر بعض المسؤولين رغبته في تمويل مشاريع عراقية وتنمية المنافذ الحدودية)، وترهيب مبطن بالإشارة إلى أن انهيار الأمن في إيران سينعكس على كل جوارها. كما أشاد بالمشتركات الثقافية والدينية (مثل مشاركة الملايين الإيرانيين في زيارة الأربعين بكربلاء) لتأكيد متانة أواصر الشعبين، وبالتالي تبرير مفهوم "المصير المشترك" الذي تروج له إيران. هذه اللغة تحاول جعل النفوذ الإيراني في العراق يبدو طبيعيًا بل ومرغوبًا، خلافًا لما تصفه به أطراف عراقية بأنه تدخل وهيمنة.
في المحصلة، زيارة لاريجاني للعراق كانت خطوة دفاعية هجومية في آن: دفاعية من حيث إنها جاءت لمنع اهتزاز النفوذ الإيراني في بغداد وسط الحديث عن تقارب عراقي خليجي وتنامي الدور الأمريكي، وهجومية بمعنى تعزيز مواقع إيران الأمامية اقتصاديًا وأمنيًا تحسبًا للأسوأ. لكن تلك الزيارة أيضًا كشفت جوانب ضعف إيران: فالإعلام العراقي والعربي تناولها بنبرة أن إيران تستنجد بحلفائها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وقد واجه لاريجاني استقبالًا فاترًا في بعض الأوساط العراقية؛ إذ تعمّدت أطراف سياسية توجيه رسائل علنية خلال وجوده، مثل تصريح وزير الزراعة اللبناني (الذي زامن الزيارة لكنه يتعلق بلبنان) بأنه قد يتم طرد السفير الإيراني إذا استمر التدخل، أو بيان بعض الأحزاب العراقية بضرورة احترام سيادة البلاد وعدم تحويلها لساحة صراع بالوكالة. هذه المؤشرات تدل على أن قبول الدور الإيراني لم يعد مسلمًا به حتى بين بعض المكونات الشيعية العراقية إذا تعارض مع مصلحة وطنهم. وبالتالي، رغم نجاح لاريجاني في تأمين مكاسب تكتيكية (كإعادة لحمة البيت الشيعي حول قانون الحشد)، إلا أن نفوذ طهران في العراق بات بحاجة لإدارة حذرة أكثر من أي وقت مضى. ويبقى العراق بالنسبة لإيران شريان حياة لن تتخلى عنه طواعيةً؛ فهو الجار ذو الروابط العميقة، والذي يمكن عبره مد الأوكسجين لاقتصادها حين يشتد الخناق، ويمكن عبره أيضًا مواصلة مواجهتها غير المباشرة مع أمريكا على أرض غير أرضها. ولذا سنرى إيران تبذل الغالي والنفيس للإبقاء على بغداد شريكًا مضمونًا، مستفيدة من تواجد حلفائها في مفاصل الدولة العراقية، وفي الوقت نفسه قد تقدم بعض التنازلات التكتيكية (كالاتفاق الأمني حول الأكراد) لاسترضاء الحكومة العراقية وضمان تعاونها.
سادسًا: مستقبل حزب الله بين مطالب نزع السلاح وتراجع شعبيته وأزمة التمويل
يُعد حزب الله اللبناني أحد أهم ركائز النفوذ الإيراني الخارجي وأطولها عمرًا، إلا أن مستقبله بات موضع نقاش محلي ودولي على نحو لم يشهده من قبل. فالحزب الذي تأسس مطلع الثمانينات بدعم الحرس الثوري الإيراني، تطور من مجرد ميليشيا تحارب الاحتلال الإسرائيلي إلى قوة عسكرية وسياسية مهيمنة في لبنان، مستخدمًا سلاح “المقاومة” كذريعة للاحتفاظ بترسانة ضخمة خارج إطار الدولة. لعقود، كان طرح مسألة نزع سلاح حزب الله يعتبر من المحرمات في السياسة اللبنانية، نظرًا لحساسية التوازنات الطائفية ولارتباط الأمر بالصراع مع إسرائيل. إلا أن المشهد تغير جذريًا بعد انهيار الاقتصاد اللبناني منذ 2019، حيث وجّه جزء كبير من اللبنانيين أصابع الاتهام إلى الطبقة الحاكمة ومن ضمنها حزب الله. بالنسبة لهؤلاء، حزب الله مسؤول عن العزلة العربية والدولية للبنان كونه جرّ البلاد إلى محور إيران وورطها في حروب سوريا وغيرها، مما أدى لعقوبات أمريكية (مثل قانون قيصر) وعزوف استثماري خليجي عن لبنان. ومع تفاقم المعاناة المعيشية، ارتفع صوت الشارع في أكتوبر 2019 بشعار "كلن يعني كلن" في رفض شامل للزعماء التقليديين دون استثناء، بما فيهم حسن نصر الله أمين عام حزب الله، في مشهد غير مسبوق.
على هذه الخلفية، عادت إلى الواجهة القرارات الدولية غير المطبّقة وخاصة القرار 1559 (الصادر عام 2004) الذي يدعو صراحةً لنزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وبسط سيطرة الدولة على كامل أراضيها. وقد تبنّت القوى السيادية اللبنانية (خصوصًا الأحزاب المسيحية الرئيسية وتيار المستقبل سابقًا) هذا المطلب كأولوية وطنية في خطابها. وشهدنا في العامين الماضيين مطالبات علنية من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل، وغيرهما، بضرورة وضع حد لسلاح حزب الله لأنه بات يُستخدم برأيهم لإخضاع الحياة السياسية لإمرة إيران ولتعطيل الإصلاحات، فضلاً عن اتهامه بالتورط في الفساد عبر حلفائه وبتخويف المعارضين بقوته المسلحة. ووصل الأمر في منتصف 2025 إلى أن وافقت الحكومة اللبنانية – بدعم غربي أميركي – على خطة مبدئية لنزع سلاح الميليشيات ضمن برنامج إصلاحي، مما أحدث عاصفة سياسية. اعتبر حزب الله ذلك إعلان حرب واستنفر حلفاءه لتعطيل أي مسار من هذا النوع. صحيح أن تنفيذ مثل تلك الخطة لا يزال بعيدًا ويصطدم بواقع التوازنات، إلا أن رمزية الطرح بحد ذاتها مؤشر إلى تبدل المزاج العام محليًا ودوليًا حيال قضية سلاح الحزب.
خارج لبنان، يواجه حزب الله أيضًا تراجعًا في الهالة التي أحاطت به كقوة "لا تُقهَر". فلقد أنهكت حرب سوريا (2012-2018) مقاتليه وأظهرت أنه قابل للاستنزاف، حيث خسر المئات من عناصر النخبة هناك في معارك المدن السورية. ثم جاءت حرب غزة 2023 حيث وجد الحزب نفسه في وضع حرج: تضغط عليه قواعده الشعبية "للنجدة" والمشاركة ضد إسرائيل تضامنًا مع الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته يردعه واقع أنه إذا فتح حربًا شاملة من لبنان فقد يدمر بلده تدميرًا كاملاً هذه المرة. اختار الحزب حينها تكتيك المناوشات المحدودة على الحدود لتبقى ضمن "ضوابط الاشتباك"، فتفادى الحرب الكبرى لكنه تعرض لبعض الضربات وخسر عناصر.
هذا الأداء أثار انتقادات ضمنية حتى من معسكر الممانعة بأن الحزب "لم يفعل كفاية" لنصرة غزة، ما وضعه في موقع دفاع عن النفس إعلاميًا لتبرير عدم توسيع المواجهة. وبالمقابل، عزز ذلك موقف خصومه في لبنان الذين قالوا إن سلاح الحزب في النهاية مرتهن لحسابات إيران وليس فعلاً لخدمة القضية الفلسطينية كما يدّعي – وإلا لكان استغل الفرصة وفتح جبهة شاملة عندما اندلعت حرب غزة.
ماليًا، كما أسلفنا، حزب الله تحت ضغط غير مسبوق. فمنذ 2019 والاقتصاد اللبناني يتهاوى، فلم يعد بإمكان الحزب الاعتماد على اقتصاد محلي متين لمساعدته (سابقًا كان يستفيد من مصارف لبنانية لتدوير أمواله ومن شبكات أعمال في الخليج توفر تبرعات، وكل هذا تأثر بالعقوبات وبانهيار البنوك). وبالتزامن، تعاني إيران من أزمتها الاقتصادية مما انعكس على مخصصات الحزب. في ديسمبر 2024، كشف نعيم قاسم (نائب نصر الله) أن إيران قدمت مساعدات عاجلة بقيمة 77 مليون دولار لتعويض متضرري الحرب الإسرائيلية في لبنان، معتبرًا ذلك من سخاء خامنئي رغم ظروف إيران الصعبة. ونقلت وسائل إعلام إيرانية رسمية أن معظم هذه الأموال تأتي مباشرة من طهران.
لكن هذا المبلغ على ضخامته ليس سوى نقطة في بحر احتياجات لبنان، كما أنه جزء يسير مما اعتاد الحزب تلقيه سنويًا. وإذا صحت تقديرات استمرار الدعم عند حدود 700 مليون دولار سنويًا، فهذا يعني استنزافًا كبيرًا للخزينة الإيرانية في وقت هي أحوج ما تكون لأي دولار. وتذكر تقارير أن هذا السخاء الخارجي يثير استياء الإيرانيين بالداخل الذين يرون النظام “يُطعم غير أهله” بينما هم يئنون من الفقر.
من جهة الحزب، هو يدرك تقلص الدعم الإيراني المحتمل، لذا سعى لتنويع مصادر التمويل: زيادة الاعتماد على اقتصاد الموازي (تهريب الوقود من إيران وسوريا وبيعه، تجارة المخدرات العابرة للحدود، شبكات أعمال في إفريقيا وأمريكا الجنوبية… إلخ).
غير أن كل هذه المصادر أيضًا باتت تحت المجهر؛ فالخزانة الأمريكية تلاحق طرق تمويل الحزب بشكل صارم، وقد فرضت عقوبات على رجال أعمال وشركات متهمة بغسل أموال لصالحه. كذلك، انكشاف الحزب محليًا جعل الكثير من البيئات غير الشيعية تلفظ التعامل معه اقتصاديًا (مثلاً المصارف اللبنانية باتت شديدة الحذر في أي تعامل يتعلق به خوفًا من العقوبات).
في ظل هذه المعطيات، كيف يبدو مستقبل حزب الله؟
من السيناريوهات الممكنة تكيّف الحزب داخليًا مع المتغيرات للحفاظ على وجوده. قد يضطر لمجاراة بعض الضغوط عبر خفض انخراطه العلني في السياسة (مثلاً لم يدفع بمرشح من قبله لرئاسة الجمهورية اللبنانية الحالية، وأعطى انطباعًا بأنه يقبل بأي مرشح توافقي تجنبًا لظهوره معطلًا للدولة). ربما يقبل على مضض بنوع من التنظيم لسلاحه في إطار الدولة لكن دون التخلي عنه (مثل إعادة إحياء فكرة استراتيجية دفاعية يكون فيها قرار الحرب والسلم بيد الحكومة لكن يبقى سلاح المقاومة ضمنيًا بأيدي الحزب – وهو طرح ردده نصر الله مرارًا كمناورة). كذلك يمكن أن يعيد التموضع إقليميًا: فإذا ضعفت إيران جدًا ولم تعد قادرة على دعمه كما السابق، ربما ينكفئ الحزب أكثر إلى الداخل اللبناني ويخفف تدخله الخارجي (كما حدث فعليًا بتقليص وجوده العسكري بسوريا بعد 2018).
في المقابل، هناك سيناريو تصادم، إذا ما قرر الحزب أن نزع سلاحه يعني نهايته فسيمنعه بكل قوته. وقد رأينا تلويحًا بذلك عبر تهديدات قادته بحرب أهلية إن فُرض الأمرniacouncil.org. يبقى أن قدرة الحزب على كسب أي مواجهة داخلية ليست مضمونة كالسنوات الماضية، فميزان القوى الشعبي والسياسي تغير. لن يقف خصومه مكتوفي الأيدي هذه المرة، خاصة إذا شعروا بدعم عربي ودولي صريح. أي صدام داخلي مسلح سيكون كارثيًا على لبنان وسيضع الشيعة في مواجهة بقية المكونات، وهذا كابوس قد يردع الحزب من الإقدام عليه إلا في حالة شعوره بالخطر الوجودي المباشر.
الخيار الأفضل للبنان، الذي تدعمه أغلب القوى الوطنية، هو حل سلمي تدريجي لمسألة السلاح عبر الحوار الداخلي وبرعاية وضمانات دولية وعربية. يمكن تصور صفقة شاملة تتضمن دمج سلاح الحزب ضمن الجيش مقابل ضمان أمن الجنوب ودور للحزب كمكون سياسي، إلى جانب مساعدات اقتصادية ضخمة للبنان تنتشل اقتصاده كحافز. ولكن، هل تسمح إيران بذلك؟ حتى الآن، النظرة الإيرانية لحزب الله أنه كنز استراتيجي لا يُقدّر بثمن – هو خط دفاع متقدم ضد إسرائيل وأداة نفوذ بطول شرق المتوسط. لذا ستفعل طهران كل ما بوسعها للحفاظ على قوة الحزب. وإذا سقط النظام الإيراني أو ضعف جدًا، عندها قد يتغير حساب الحزب نفسه؛ فبدون الدعم الإيراني قد يفضل عدم خوض مغامرات ويقبل بتسويات داخلية تضمن بقاءه (كحزب سياسي فقط) بدل الانتحار في مواجهة خاسرة.
في المحصلة، مستقبل حزب الله معلق على تطورات عدة: مسار الضغط الدولي (سيطال الحزب حتمًا بمزيد من العقوبات والعزلة)، اتجاهات السياسة اللبنانية الداخلية (هل يتشكل تحالف واسع يفرض حلولًا ما؟)، والأهم مصير إيران. لأنه إن حصل تغيير جذري في إيران – كاتفاق دولي جديد يخفف الضغوط عنها – فقد يعود التمويل والزخم للحزب ويتنفس الصعداء. أما إذا انزلقت إيران إلى أزمة أعمق أو حتى انهيار داخلي، فسيكون الحزب كفرع شجرة فقد جذوره الغذائية، وسيواجه واقعًا جديدًا ربما يفرض عليه التحول لكي يبقى. وحتى تتبلور تلك السيناريوهات، سيستمر حزب الله بالتأكيد في التشبث بسلاحه وتحدي خصومه، مع محاولة احتواء النقمة الداخلية اللبنانية قدر الإمكان عبر خطاب مزدوج: تارةً يتحدّى ويتوعد إسرائيل والخونة، وتارةً يدعو للحوار الداخلي ويزعم الحرص على الدولة. لكنه بلا شك لم يعد في موقع القوة المطلقة التي كان فيها قبل سنوات، وأضحى دفاعه عن احتفاظه بسلاحه أصعب تبريرًا أمام الرأي العام المحلي الذي يرى بلدًا ينهار فيما قوته المسلحة لم تحمِه من الجوع والانهيار المالي.
سابعًا: الحوثيون – وكيل إيران “منخفض الكلفة عالي المردود” وإمكانية تقويضه بدعم الشرعية اليمنية
في أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية، برز الحوثيون (جماعة “أنصار الله”) كواحد من أحدث وكلاء إيران الإقليميين، وأيضًا من أكثرهم إثارة للجدل. فعلى خلاف حزب الله الذي استغرق بناؤه عقودًا، لم يبدأ الدعم الإيراني الجاد للحوثيين إلا في السنوات التي تلت سيطرتهم على صنعاء 2014. ومع ذلك، تمكن الإيرانيون بسرعة نسبيًا من تحويل تلك الجماعة المتمردة إلى شوكة في خاصرة السعودية وورقة ضغط فعالة في يد طهران. ويجمع المحللون أن الدعم الإيراني للحوثيين شكّل استثمارًا زهيد التكلفة قياسًا بالعائد الاستراتيجي الذي حققه. فبمبالغ محدودة نسبيًا (أسلحة نوعية وتدريب عبر خبراء من الحرس الثوري وحزب الله)، استطاع الحوثيون تطوير ترسانة صاروخية وبالستية وطائرات مسيَّرة تمكنوا بها من قصف عمق الأراضي السعودية والإماراتية وتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر. لقد أرهقت الحرب في اليمن الرياض عسكريًا وماليًا طوال سنوات، بينما كان كلفة إيران فيها ضئيلًا قياسًا – خاصة وأن الحوثيين يؤمنون أنفسهم موارد من سيطرتهم على مؤسسات الدولة اليمنية في الشمال (جبايات الضرائب وبيع النفط بالسوق السوداء وغيرها). من هذا المنطلق وُصف الحوثيون بأنهم "أعلى مردود وأقل كلفة" بين أدوات إيران.
إلا أن هذه “الاستراتيجية الرابحة” بدأت تواجه متغيرات تحد من فعاليتها. فالمشهد اليمني منذ 2022 ليس كما قبل. بفضل الوساطة العمانية والتفاهم الإيراني السعودي في 2023، تم التوصل إلى هدنة طويلة نسبياً بين الحوثيين والتحالف الذي تقوده السعودية، ما أوقف نزيف الحرب المفتوحة. ورغم أن الحل السياسي الشامل لم يتحقق بعد، إلا أن ساحة الحرب بردت وخفّت حدة النزاع. هذا التطور في جزء منه يعود إلى رغبة الرياض في الخروج من مستنقع اليمن لتركيز جهودها في التنمية الداخلية ومشاريع رؤية 2030، وكذلك إلى سعي إيران لتخفيف جبهة الضغط عليها في ظل أزمتها الاقتصادية عبر تحسين العلاقات مع الخليج (اتفاق بكين بين طهران والرياض). غير أن اندلاع حرب غزة (أكتوبر 2023) أضاف عنصرًا جديدًا: إذ أطلقت فصائل الحوثيين صواريخ بالستية ومسيَّرات بعيدة المدى باتجاه إسرائيل وسفن في البحر الأحمر إظهارًا للتضامن مع الفلسطينيين. اعتُبر ذلك توسيعًا للصراع الإقليمي أزعج الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين، لأن الحوثيين ليسوا طرفًا تقليديًا في الصراع العربي الإسرائيلي. واعتبرت واشنطن تلك الهجمات تهديدًا للملاحة الدولية والاستقرار، فقامت في ديسمبر 2023 – بالتنسيق مع بريطانيا وفرنسا – بتوجيه ضربات عسكرية مباشرة ضد مواقع حوثية (منصات إطلاق وصواريخ) في صنعاء والحديدة.
كانت تلك المرة الأولى التي تستهدف فيها قوى غربية الحوثيين عسكريًا. وأرادت واشنطن عبرها إيصال رسالة واضحة: أن هامش التسيب الممنوح للحوثيين قد انتهى إذا هددوا المصالح الدولية. وفعلاً أعاقت هذه الضربات القدرات البحرية الحوثية مؤقتًا، وباتوا يتوخون الحذر في إطلاق الصواريخ البعيدة المدى لتفادي ردود أفعال غربية أقسى.
هذا التطور أضاف ضغطًا جديدًا على إيران من خلال الحوثيين. فصحيح أن دعمها لهم يظل قائمًا، لكنها تدرك الآن أن استخدامهم الزائد قد يستجلب مواجهة أمريكية مباشرة معها – أمر تسعى لتجنبه. وقد صرحت الإدارة الأمريكية أنها لن تتهاون مع أي اعتداءات حوثية على سفن أو على حلفائها، ولوّحت ضمنيًا بأن الاستهداف قد يطاول داعمي الحوثيين (أي إيران) إن استمر التصعيد. بذلك أصبحت ”ورقة الحوثي” سلاحًا ذو حدين: إن استخدمتها إيران للضغط على خصومها بقوة، قد يؤدي لانقلاب السحر على الساحر واستجلاب قوات دولية ضد نفوذها في اليمن وربما ضدها ذاتها. لذا لوحظ أنه بعد تلك الضربات عاد الهدوء النسبي للجبهة اليمنية، وأعادت الأطراف تفعيل قنوات الحوار.
في خضم ذلك، استغلت الحكومة اليمنية الشرعية الفرصة لإعادة تنظيم صفوفها. فبعد سنوات من الخلافات داخل معسكر الشرعية (بين الحكومة المعترف بها والمجلس الانتقالي الجنوبي وغيرهما)، ظهر ما يسمى مجلس القيادة الرئاسي في 2022 كإطار جمع معظم القوى المناهضة للحوثيين تحت مظلة واحدة. هذا التطور لاقى تشجيعًا سعوديًا وإماراتيًا، حيث رأت فيه الرياض فرصة لتوحيد جبهة حلفائها اليمنيين استعدادًا لأي طارئ إذا انهارت الهدنة. وبحلول 2025، بدا أن التحالف (رغم انشغاله بهدنة) يُحضّر لخيار الحسم العسكري إن دعت الحاجة. فقد كشفت تقارير صحفية عن تحضير الشرعية اليمنية لأكبر هجوم بري على الإطلاق ضد الحوثيين بدعم سعودي-أمريكي.
وذكرت صحيفة جنوب الصين الصباحية في إبريل 2025 أن الحكومة اليمنية تحشد ما يصل إلى 80 ألف جندي بدعم استخباراتي وناري أمريكي لاستعادة ميناء الحديدة الاستراتيجي على البحر الأحمر. الحديدة هي شريان حيوي يسيطر عليه الحوثيون ويتلقون عبره الأسلحة (وفق اتهامات) والإمدادات، لذا فإن سقوطها سيشكل ضربة قاصمة للحوثيين. كما نقلت الصحيفة عن خبراء أن الحوثيين باتوا يُنظر إليهم كأكبر فصيل في محور إيران الإقليمي بعد إضعاف حزب الله وحماس مؤخرًا، وبالتالي فإن تحجيمهم سيُكمل دائرة إضعاف أذرع طهران.
هذا التخطيط العسكري الجاد يدل على تحول في الاستراتيجية الإقليمية تجاه الحوثيين: فبدل الاكتفاء باحتوائهم، قد تكون هناك نية لتقويضهم عسكريًا إذا لم ينخرطوا في تسوية سياسية حقيقية. السعودية نفسها توازن الأمور: فهي لا تريد تكرار مستنقع الحرب الطويلة، لكنها أيضًا لا تستطيع القبول بحوثي مسلح تابع لإيران على حدودها للأبد. لذا فالمرجح أنها تعطي فرصة للحل السلمي عبر المفاوضات – وقد جرت لقاءات مباشرة مع الحوثيين في مسقط وصنعاء – فإن تعنتوا، سيكون الخيار التالي دعم حاسم للشرعية لتحجيم قوتهم إلى الحد الذي يفرضهم على طاولة تفاوض بشروط أضعف.
من جهة إيران، الحوثيون ورقة مفيدة لكنها ليست بمنزلة حزب الله بالنسبة لها. أي أنها ربما لن تتدخل عسكريًا مباشرًا لإنقاذهم إن تعرضوا لضغط دولي كبير. وقد رأينا طهران تتماهى مع المساعي السلمية باليمن حين حسّنت علاقاتها مع الرياض، بل أرسلت سفيرًا لها إلى صنعاء فيما اعتبر رسالة بأنها موجودة في المشهد إن لزم تسوية. لكن في الوقت عينه، لا ترغب إيران بخسارة نفوذها كليًا هناك. لذا قد تشجع الحوثيين على تقديم بعض التنازلات التكتيكية (كفتح الطرق وتبادل الأسرى) لكسب ود الوسطاء، لكنها ستحرص أن يحتفظوا بقدرتهم العسكرية. وكلما اشتدت الضغوط على طهران إقليميًا، قد تغريها فكرة استخدام الحوثيين مجددًا كأداة تشتيت. فمثلاً، إذا ضربت إسرائيل إيران أو حزب الله، قد تعطي طهران توجيهات للحوثيين باستهداف ملاحة إسرائيل أو مصالح أمريكية في البحر الأحمر كنوع من الرد غير المباشر. حدث هذا فعلاً خلال حرب غزة، وربما يتكرر في أزمات مستقبلية.
إن تحييد دور الحوثيين يتطلب مقاربة شاملة: دعم عسكري مدروس للحكومة اليمنية لتحسين موقفها الميداني، بالتوازي مع جهد دبلوماسي لإقناع المجتمع الدولي بخطر استمرار كيان حوثي مسلح مرتبط بإيران على أمن المنطقة (خاصة باب المندب والتجارة العالمية). وقد بدأت واشنطن بالفعل تشرح ذلك بوضوح – فهجمات الحوثيين على السفن أثبتت أنهم ليسوا مجرد مشكلة داخلية يمنية بل تهديد دولي. وهذا يفتح الباب لتوافق أوسع على إنهاء الحرب بشكل لا يسمح للحوثيين بالاحتفاظ بسلاح ثقيل. ربما نرى قرارات أممية جديدة أو عقوبات على قيادات حوثية متورطة بعرقلة الحل. وكذلك يتوقع تكثيف الدعم الاقتصادي للمناطق المحررة في اليمن لإظهار نموذج إيجابي مقابل مناطق الحوثيين التي تعيش في بؤس، وذلك لكسب الرأي العام اليمني.
على المدى القريب، الهدنة القائمة هشة وقد تنهار إذا راوغ الحوثيون في إبرام سلام دائم. وإذا أعيد فرض عقوبات أممية على إيران، فقد يتصلب الحوثيون بأوامر إيرانية كورقة ضغط (مثلاً رفض تمديد الهدنة أو تصعيد محدود). بالمقابل، إن سارت الأمور نحو انفراج مع إيران نوويًا، ربما تشجع طهران الحوثيين على التسوية كمؤشر حسن نية تجاه جيرانها. كل الخيارات محتملة. لكن مما لا شك فيه، أنه بعد ثمان سنوات من الحرب، بات الحوثيون أقوى مما كانوا عسكريًا لكن في نفس الوقت محاصرون سياسيًا أكثر. قوتهم العسكرية جذبت عليهم عداوة دولية، وحكمهم لمناطق واسعة كشفهم كنظام قمعي فاسد مما سوّء صورتهم محليًا. لذا هم ليسوا في موقع يسمح لهم بالاطمئنان للمستقبل. وإذا نجحت الجهود الداعمة للشرعية اليمنية – سياسيًا وعسكريًا – يمكن جدًا تقويض الدور الحوثي وإعادته إلى حجمه كجماعة يمنية لها مطالب يمكن دمجها، بدل بقائها وكيلًا لدولة أجنبية. وهذا بدوره سيكون ضربة موجعة لإيران التي راهنت أن اليمن خاصرتها الرخوة الجنوبية لجارتها السعودية.
ختامًا، يمكن القول إن الحوثيين كانوا أداة فعالة لإيران في زمن الوفرة، لكن في زمن الشدة الحالية قد تجد طهران نفسها مضطرة للمساومة عليهم إذا كان الثمن الحفاظ على مصالح أهم. وفي جميع الأحوال، تعزيز الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا يبقى المفتاح لتحجيم أي نفوذ إيراني هناك، لأن غياب الدولة هو ما أفسح المجال لتمدده منذ البداية.
هل يقترب النظام الإيراني من نقطة اللاعودة، وما الخيارات أمام القوى المختلفة؟
بعد استعراض المشهد بأبعاده الدولية والداخلية والإقليمية، يبدو واضحًا أننا أمام منعطف مصيري بالنسبة للنظام الإيراني. فمجموعة الأزمات المتزامنة التي تحيط به اليوم لم يسبق أن اجتمعت بهذا الشكل منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. هناك ضغط خارجي ساحق يتمثل في احتمال عودة عقوبات مجلس الأمن بكل ثقلها، مع استعداد غربي للتصعيد العسكري إن لزم الأمر لمنع إيران من حيازة سلاح نووي. وهناك اهتزاز داخلي عنيف يتجلى في اقتصاد ينهار واحتقان شعبي ينذر بالانفجار، وانقسامات حتى داخل النخبة الحاكمة حول كيفية الخروج من المأزق. وعلى الأطراف، حلفاء يتساقطون أو يضعفون الواحد تلو الآخر، ما يجرّد طهران من عمقها الاستراتيجي تدريجيًا.
كل هذه التطورات دفعت بعض الخبراء إلى القول بأن النظام الإيراني يقترب من "نقطة اللاعودة" التي يصبح عندها الانهيار الشامل مسألة وقت لا أكثر. فشرعية الحكم الديني تآكلت إلى حد غير مسبوق، حتى ضمن قواعده التقليدية (كثير من رجال الدين والتجار فقدوا الثقة بقيادته). والفجوة بين الدولة والمجتمع اتسعت على نحو خطير، حيث باتت الأغلبية الساحقة من الإيرانيين تطمح لتغيير جذري بعد أن جربت وعود الإصلاح مرارًا وفشلت. اقتصاديًا، النظام في مأزق مسدود: العقوبات أغرقت البلاد في ركود وتضخم، والفساد والمحسوبية نخر مؤسساتها، ولم يعد لدى الحكومة حلول إلا مزيد من التقشف بما يحمل من مخاطر أمنية. أمنيًا، آلة القمع مرهقة من فرط ما استخدمت، وبدأت تظهر عليها عوارض التفكك (شوهدت حالات رفض أوامر محدودة وتململ في صفوف البسيج مؤخرًا، وإن ظلت الصورة العامة متماسكة). وخارجيًا، ضُربت هيبة إيران الإقليمية: فبعد ما كانت تفاخر بأنها تتحكم بأربع عواصم عربية، تجد نفسها الآن محاصرة بالعزلة والعداء الشعبي في تلك البلدان (انتفاضات العراق ولبنان 2019 رفعت شعارات ضد خامنئي وقاسم سليماني). كل هذه عوامل تسرّع استنزاف قدرة النظام على الاستمرار.
لكن مقابل هذا السيناريو التشاؤمي بالنسبة للنظام (والتفاؤلي لخصومه)، علينا التحلي ببعض الحذر. فالنظام الإيراني أظهر تاريخيًا براعة في البقاء رغم أزمات خانقة مرّ بها (حرب الثمان سنوات مع العراق في الثمانينات، عقوبات الشاملية في 2012، اضطرابات 2009…). سر بقائه يكمن في قدرته على التكيف وامتصاص الصدمات بتكلفة عالية على المجتمع. مثلاً، عندما اشتدت العقوبات الأمريكية بعد 2018، اعتمد على اقتصاد ظل واسع (تهريب النفط، تجارة عملة، علاقات خفية مع الصين وغيرها) وصمد وإن بشق الأنفس. وعندما تصاعدت الاحتجاجات، لم يتردد في سحقها دمويًا مهما كانت الإدانات الدولية.
كما أنه يستعين بـدعاية أيديولوجية تصور أي حراك شعبي أو عقوبات خارجية على أنه مؤامرة صهيو-أمريكية، لشد عصب مؤيديه وإضفاء طابع وطني على بقائه. حتى الآن، لا تزال قواته المسلحة وأجهزته الأمنية موالية للقيادة العليا، وهذا عنصر حاسم. لذا قد يتمكن النظام من المراوغة وتمديد عمره بعض الوقت عبر مزيج من القمع في الداخل ولعب ورقة الوقت في الخارج.
أمام هذا الوضع شديد التعقيد، ما خيارات اللاعبين الرئيسيين؟
1. القوى الدولية (خاصة الغربية):
أمامها مقاربة ذات مسارين: دبلوماسية مشروطة وتصعيد محسوب. فمن جهة، عليها إبقاء نافذة الحل الدبلوماسي مفتوحة مع طهران إلى آخر لحظة قبل تفعيل . وهذا ما فعلته أوروبا فعليًا إذ منحت إيران مهلة للتراجع.
وعقدت اجتماعًا في إسطنبول يوليو 2025 أبدت فيه استعدادًا لتعليق التفعيل إن عادت إيران للالتزام جزئيًا. المطلوب دوليًا هو الحيلولة دون انهيار كامل للاتفاق النووي لأن ذلك يعني انطلاق سباق إيران نحو القنبلة وما يستتبعه من احتمال حرب إقليمية. بالتوازي، على القوى الكبرى إعداد العدة لسيناريو فشل الدبلوماسية، وذلك عبر تنسيق خطوات التصعيد: إعادة العقوبات الأممية، وتجهيز تحالف ردع عسكري إن أقدمت إيران على استفزازات خطيرة (كضرب الملاحة في الخليج أو تسريع التخصيب فوق 90%). التحدي هنا هو ضبط التصعيد لمنع انفلاته. فمثلاً، وضع حدود واضحة لإيران أن أي تجاوز (مثلاً طرد مفتشي الوكالة الذرية أو هجوم على قوات أمريكية) سيقابل برد صارم، وفي الوقت نفسه طمأنة إيران أن الضغوط هدفها الإعادة إلى الاتفاق وليس تغيير النظام بالقوة.
هذه المعادلة الصعبة تتطلب تنسيقًا وثيقًا بين واشنطن وبروكسل، وكذلك مع تل أبيب التي قد تتدخل منفردة إن رأت تراخيًا. في السياق، ينبغي إشراك روسيا والصين قدر الإمكان في الضغط على إيران دون استفزازهما. ربما عبر طمأنتهما أن عودة إيران للاتفاق ستعني استمرار تعاونها التجاري معهما بلا عوائقrasanah-iiis.org، أما خروجها عن الضوابط فسيهدد استقرار المنطقة بما يضر مصالحهما أيضًا. باختصار، على القوى الدولية اتباع سياسة “العصا الغليظة والجزرة المحدودة”: عصا مسلطة، مع جزرة تجميدها إن أذعنت إيران مؤقتًا (كعودة المفتشين)، وإبقاء الباب مواربًا لاتفاق نووي جديد أشمل في المستقبل (قد يشمل أيضًا صواريخ إيران الإقليمية). كذلك على هذه القوى أن تخطط لما بعد التفعيل: كيف ستُنفّذ العقوبات فعليًا، وكيف ستتعامل مع احتمال تجاهل روسيا والصين لها ربما الحل يكمن في تشكيل إجماع عالمي قدر المستطاع يضغط على بكين وموسكو عبر مدخل أنه منع انتشار نووي وليس اصطفافًا سياسياً.
2. القوى الإقليمية (خاصة الخليج وإسرائيل)
إسرائيل تبدو الأكثر اندفاعًا نحو الخيار العسكري، إذ تعتبر نووي إيران تهديدًا وجوديًا. لكنها أيضًا تعي أن ضرب إيران مباشرة قد يشعل حربًا إقليمية (مع حزب الله وغيره). لذا استفادت من فترة ما بعد 2018 لشن حرب ظل: اغتيالات علماء، هجمات سيبرانية، ضربات دقيقة على مواقع إيرانية في سوريا والعراق.
وقد كثفت ذلك إبان حرب غزة 2023، فقصفت مثلاً مواقع صواريخ إيرانية في سوريا واليمن. إسرائيل قد تستغل كغطاء دبلوماسي للمزيد من تلك العمليات، وربما لتوجيه ضربة محدودة للمنشآت النووية الإيرانية إذا رصدت اقتراب طهران من “عتبة السلاح”.
ومع عودة نتنياهو للسلطة وتصاعد التهديدات العلنية، يبقى هذا الخيار قائمًا بقوة. على إسرائيل في المقابل التنبه أن أي ضربة كبيرة ستستدعي ردًا إيرانيًا عبر عدة جبهات (صواريخ من لبنان وسوريا، هجمات من الحوثيين، وربما ضربات بحرية) قد تتطور لحرب شاملة – وهو سيناريو كارثي. لذا من مصلحة تل أبيب أيضًا استنفاد الخيارات الدبلوماسية أولاً مع دعم الضغط الاقتصادي، وتحضير خطط عسكرية محكمة تكون ملاذًا أخيرًا لا أول حل.
بالنسبة لدول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات، فهي تنظر إلى إيران باعتبارها الجار الخطير الذي لا يمكن تغييره جغرافيًا. لذا انتهجت مؤخرًا مقاربة مزدوجة: يد في المصالحة (التفاهم مع إيران، إعادة العلاقات وفتح السفارات منتصف 2023) ويد على الزناد (تعزيز الدفاعات الجوية، اتفاقات تسليح متطورة، وتنسيق أمني مع أمريكا وإسرائيل من وراء الكواليس). تدرك هذه الدول أنه لا مصلحة لها في انهيار إيران بشكل فوضوي، لأن ذلك قد يعني تدفق لاجئين واضطراب إقليمي كبير وربما صعود قوى متطرفة من رحم الفوضى. لكنها أيضًا لا تريد إيران نووية أو مهيمنة. من هنا، الخيار الأمثل خليجيًا هو دعم أي مسار يكبح طموحات إيران العدائية دون إسقاطها. قد يتمثل ذلك في تأييد عربي لتحرك الأوروبي لإظهار جبهة موحدة تدفع طهران للرضوخ، مع مواصلة القنوات الخلفية معها لطمأنتها أن أمن نظامها لن يُمس إذا غيّرت سلوكها (رسالة طمأنة ربما نقلتها عُمان أو قطر). ومن الخيارات المتاحة أيضًا زيادة متانة التحالف الإقليمي الموازي لإيران: أي تقوية مجلس التعاون الخليجي عسكريًا، والاستمرار في مدّ اليد للعراق ولبنان وسوريا لمحاولة فكها تدريجيًا عن إيران عبر الدبلوماسية والمساعدات، كي تُعزل طهران إقليميًا أكثر. هذا يحدث نسبيًا كما رأينا: عراق يتقارب مع جواره العربي، سوريا عادت للجامعة العربية بشرط تقليص تبعيتها لإيران، لبنان يتلقى دعمًا إنسانيا مشروطًا بإصلاحات ومساءلة حزب الله. هذه سياسة النفس الطويل التي تتبعها الرياض وأبوظبي حاليًا.
3. شعوب المنطقة وبالأخص الشعب الإيراني
في نهاية المطاف، مصير النظام الإيراني قد يقرره شعبه قبل أي طرف آخر. لقد أثبتت التجارب التاريخية أن الضغط الخارجي وحده قلما يطيح بنظام ما لم تتكامل معه ظروف داخلية مواتية. والداخل الإيراني يبدو أقرب ما يكون لتلك الظروف: سخط عام، اقتصاد متداعٍ، أجيال شابة متعلمة متعطشة للانفتاح، وأقلية حاكمة معزولة فكريًا وعقائديًا عن أغلبية الشعب. الشعوب الأخرى في الإقليم – كالعراقية واللبنانية واليمنية – لها أيضًا مصلحة بأن يُلجَم المشروع الإيراني التوسعي، لأنها دفعت ثمنه من أرواحها واستقرار بلدانها. هذه الشعوب بدأت فعلًا تواجه الهيمنة الإيرانية بالاحتجاج والرفض العلني (مثال: هتافات “إيران برا برا” في بغداد 2019، ورفع المتظاهرين العراقيين لصورة خامنئي وعليها X). كما أن الشارع العربي عمومًا بات أكثر وعيًا بدور النظام الإيراني السلبي في تغذية النزاعات الطائفية وتخريب دول المنطقة لصالح تمدده.
في هذا السياق، أمام المجتمع المدني الإقليمي والدولي دور مهم يتمثل في دعم تطلعات الشعوب المتضررة. مثلاً:
دعم الشعب الإيراني في سعيه للتحرر عبر إيصال صوته وكسر حجب الإنترنت التي يفرضها النظام، وعبر فرض عقوبات على منتهكي حقوق الإنسان (وهذا حاصل بالفعل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على كيانات القمع الإيراني).
دعم الشعب اللبناني لاستعادة سيادته عبر استمرار الضغط لنزع سلاح الميليشيات ومنع الطبقة الفاسدة من الاستمرار في نهب البلد – فنجاح لبنان اقتصادياً سيسحب البساط من تبريرات حزب الله بأنه ضرورة لحماية طائفته.
دعم العراقيين في ترسيخ دولتهم الديمقراطية الناشئة ومنع عودة الاستبداد بأي لون – فوجود عراق مستقر مزدهر هو أفضل عازل أمام تغلغل نفوذ إيران.
مساعدة اليمنيين لإحلال السلام وإعادة بناء دولتهم، لأن بقاء اليمن مقسمًا فقيرًا سيجعل منه ساحة مفتوحة لصراعات الوكالة إلى ما لا نهاية.
إذا تكامل الضغط الخارجي الواعي مع الحراك الداخلي الواعد، يمكن حينها الحديث عن أن النظام الإيراني بات فعلاً في لحظة سقوط حر. لكن إلى أن يحدث ذلك، يظل النظام لاعبًا عنيدًا سيحاول تفادي المصير المحتوم. ربما يلجأ لبعض الخطوات التكتيكية لتخفيف الضغط: مثل الإفراج عن معتقلين غربيين لمساومة أوروبا، أو تقديم تنازل نووي محدود (كوقف التخصيب 60%) مقابل تجميد . وربما أيضًا تصعيد عبر أحد وكلائه للقول “أنا قوي ولدي أوراق” ثم الدخول في مساومة. كل هذه حيل معروفة في كتاب اللعبة الإيراني. على المجتمع الدولي أن لا ينخدع بها أو يسمح بشراء الوقت إلا بقدر ما يخدم هدفًا أكبر (كمنع حرب مباشرة).
وفي حال فشلت كل الجهود، ووجد العالم نفسه أمام إيران ماضية قدمًا نحو العتبة النووية، فسيكون الاضطرار إلى خيارات قسرية أشد أمرًا واقعًا. قد تشمل هذه الخيارات عمليات عسكرية مركزة لضرب المنشآت النووية، وربما خطوات لشل الاقتصاد الإيراني بالكامل (كحصار بحري يمنع صادرات النفط تمامًا). بيد أن هذه الإجراءات القصوى تحمل مخاطر جسيمة كما أسلفنا، وأي قرار بها ينبغي أن يزن كلفتها مقابل كلفة ترك إيران تصبح تهديدًا وجوديًا للمنطقة.
أما النظام الإيراني ذاته، فخياراه الأساسيان واضحان: إما التكيف أو المواجهة حتى النهاية. التكيف يعني أنه قد يقدم تنازلات جوهرية تفرمل اندفاعه النووي وتجمّد أنشطته المزعزعة للاستقرار، فيرضي بذلك المجتمع الدولي ويكسب تخفيفًا للعقوبات، على أمل أن يسمح له ذلك بإعادة ترتيب بيته الداخلي وتجديد شرعيته بعض الشيء. لكن التكيف إلى حد التخلي عن طموحاته الكبرى يشبه تناقضًا ذاتيًا للنظام الذي بنى أيديولوجيته على معاداة الغرب وتصدير الثورة. لذا يخشى قادته أن التنازل الكبير = بداية النهاية، خاصة وأنهم رأوا مصير الاتحاد السوفيتي عندما انفتح وأصلح. من هنا يميلون للخيار الثاني: المواجهة حتى النفس الأخير. أي الصمود في وجه العقوبات مهما بلغ الألم، والاستمرار في المشروع النووي (ربما سرًا لو أُحيط دوليًا) للوصول للقنبلة كضمان بقاء، وقمع أي تحرك داخلي بلا رحمة، واستخدام آخر ما تبقى لديهم من أوراق في العراق ولبنان واليمن لإبقاء خصومهم مشغولين. هذا الطريق دموي ومكلف، لكنه قد يؤجل سقوطهم بعض الوقت. بيد أن النهاية في هذه الحالة – إن عاجلاً أو آجلاً – ستكون على الأرجح انفجارًا داخليًا أو ضربة خارجية مدمرة تُسقط النظام بشكل فوضوي، وهو سيناريو كارثي لإيران والمنطقة معًا.
لذا يبقى أفضل السيناريوهات هو انتقال متفاوض عليه يجنّب الجميع الأسوأ: بمعنى أن يدرك صانعو القرار في طهران أن استمرارهم بالشكل الحالي مستحيل، فيقبلوا بتسوية شاملة مع شعبهم أولاً ومع العالم ثانيًا. تسوية تعني تفكيكًا منظمًا لآلية القمع بالداخل وفتح المجال لعملية سياسية حقيقية، والتخلي عن أوهام السيطرة بالخارج مقابل ضمان أمن إيران وتطبيع علاقاتهاapa-ice.org. هل هذا ممكن مع وجود خامنئي والحرس الثوري في الحكم؟ التجارب السابقة تجعلنا متشائمين، إذ غالبًا لا يقبل نظام شمولي بالتخلي عن السلطة طوعًا إلا تحت ضغط قاهر. وربما يكون هذا الضغط القاهر آتٍ لا محالة – خليط من شعب غاضب وعزلة قاتلة.
في الختام، إيران اليوم على المحك. قد لا يكون النظام قد وصل بعد لنقطة اللاعودة الحتمية، لكنه بات يراها تقترب أمامه. كل السياسات الداخلية والقمع والترهيب لم تعد تولّد ولاءً كافيًا، وكل المناورات الخارجية لم تعد تحقق مكاسب مجانية. المعادلة الدولية تغيّرت: “لا اتفاق = لا إعفاء، بل عقوبات أممية شاملة”. والمعادلة الداخلية أيضًا تغيرت: “لا إصلاح = لا استقرار، بل احتجاجات وإضرابات متتالية”. نحن أمام أشهر وربما بضعة سنوات حاسمة سترسم مستقبل إيران لعقود مقبلة. وعلى جميع الأطراف المعنية – إيرانيًا وإقليميًا ودوليًا – التعامل بواقعية وحذر في آن. الواقعية تقتضي الإقرار بأن نهج طهران الحالي غير قابل للاستمرار وأن تغييرًا ما لا مفر منه؛ والحذر يقتضي العمل على أن يكون هذا التغيير نحو الأفضل بأقل كلفة ممكنة، وليس انفجارًا مدمرًا يجر المنطقة بأسرها إلى أتون الفوضى. إن الشعوب الإيرانية والعربية على حد سواء تستحق مستقبلًا أفضل من حروب الوكالة والسباق النووي والقمع والفساد، ولعل في هذه الأزمة الكبرى التي يمر بها النظام الإيراني بارقة أمل بفتح صفحة جديدة – إن أحسن العالم والإيرانيون أنفسهم التصرف. وفي الانتظار، يبقى علينا ترقب خطوات أوروبا في تفعيل الزناد، ورد فعل إيران عليها، وعيوننا على شوارع طهران… فربما تأتي الشرارة الحاسمة من هناك.