قصة قصيرة..

"عبور المستحيل".. حكاية من واقع الحياة (1)

صورة خلفية لفتاة في المملكة العربية السعودية - أرشيفية ومستعارة

د. علوي عمر بن فريد
كاتب وباحث تاريخي جنوبي يكتب لدى صحيفة اليوم الثامن

 ولدت "مها " في مدينة شرق السعودية في بيئة أكثر انفتاحاً , وعاشت طفولة سعيدة و كانت أمها أقرب الناس إليها و مستودع أسرارها و منحت " مها " مساحة من الحرية ولكنها ابتعدت تدريجياً عندما كبرت , أما علاقتها مع أبيها فهو حنون غير متسلط رغم تحصيله العلمي البسيط إلا أنه في نظرها أكثر انفتاحاً من شباب اليوم , يحترم آراء أبنائه ولا يجبرهم على اتخاذ قرارات معينة ولكنه يتدخل عندما يجدها خاطئة ففي هذه الحالة هو من يقرر مصلحة أسرته ..
نشأت " مها " بين عدد من الإخوة .. فالكبار لا تتفق في آرائها معهم و تجد الصغار أكثر قرباً منها ..
عندما انتقلت الأسرة من شرق المملكة إلى جنوبها اختلف الوضع الاجتماعي بشكل كبير على " مها " و كان وضعها النفسي غير مهيأ للانتقال خاصة و هي في الثانوية العامة ..
استعادت شريط ذكرياتها أيام دراستها و تشجيع مديرة المدرسة و الوكيلة و الجوائز التي حصدتها و التكريم الذي طالما حظيت به من مدرساتها حتى غبطتها زميلاتها على ذلك ..
كانت " مها " متفوقة في دراستها و تحرز المراكز الأولى خلال سنوات دراستها و كانت نفسها مفعمة بروح الأمل و الحماس , ولكنها صدمت عندما شاهدت بعض السلوكيات في مجتمعها الأصلي الذي عادت إليه .. عمها يصفع ابنته لمجرد أن سألت : من الطارق .. ؟ قبل أن تفتح الباب .. !!
ابن عمها يمنع أخته الصغيرة من لبس البنطلون الذي أهدته لها " مها "
وجدت نفسها في مجتمع يحيط نفسه بسياج حديدي شائك , كانت تتمنى أن يكون أكثر نقاء و خال من التشدد و الشك , و الظلم و الافتراء و مراعاة الله حتى يحرر الناس أنفسهم من هذه الأغلال ..
" مها " تخفي عن أغلب أسرتها أنها تعمل حتى لا تلصق بها التهم ..
و " مها " ليست ضد وصاية الرجل لأن في ذلك خير حسب الشريعة , لكنها لا ترغب في أن تفرض كما يريدها الرجل , و ترى أن بنات جيلها يحتجن لكثير من الوقت لتجاوز مرحلة الوصاية ..
تذكرت " مها " ما قاله أخيها عندما تقدم لها عريس , و عندما سألت أخيها عنه , و عن شكله و بعض التفاصيل قال لها بلهجة حانقة و اقتضاب : رجال ..!!
لم يكن الانتقال سهلاً على " مها " حيث شكل لها هاجساً يومياً .. اختلف عليها كل شيء هنا ..البيئة الصغيرة المنغلقة .. المجتمع الصارم .. الذي يعتبر المرأة بكاملها " عورة " صوتاً و صورة ومع ذلك أكملت الثانوية العامة بنجاح و حصلت على معدل عال يؤهلها لدخول كلية الطب إلا أن ظروف الأسرة لم تساعدها على الالتحاق بالجامعة وتحقيق طموحها الذي حلمت به طوال سنين ..
كانت " مها " تتمنى أن تصبح طبيبة تلبس البالطو الأبيض و تحيط رقبتها بالسماعة الطبية ..حلمت أن تتجول في ردهات المستشفيات تعاين المرضى و تداوي الجرحى ولكن هيهات ..
و أمام ضغط الحياة و الأسرة تخلت " مها " عن أحلامها , و دخلت كلية التربية و تخصصت في مجال آخر و اكتشفت منذ الوهلة الأولى أنها تكره هذا التخصص وهذه المادة .. لم تجد نفسها فيها و رغم ذلك كله استطاعت أن تتجاوز كل العقبات و نجحت بتفوق .. و حصلت على الشهادة ولكن طموح " مها " لم ينته عند هذا الحد ..
كانت تطمح في الحصول على وظيفة سواء في القطاع العام أو الخاص لم لا ؟
فبالإضافة إلى شهادتها لديها شهادة أخرى في الحاسب الآلي .. ولكن آمالها تحطمت على صخرة الواقع .
مكثت " مها " في البيت سنتين تنتظر العمل دون جدوى .. و كان تفكير الأهل في جانب آخر هو الزواج .. ولكن " مها " كانت تعمل على تحقيق ذاتها كفتاة عصرية متعلمة, تريد أن تعمل .. وبعد طول انتظار جاءتها الفرصة فالتحقت بالعمل .. ولكن أي عمل؟!!
إنه بعيد عن تخصصها و مجال دراستها .. وكان لابد أن تعمل في السكرتاريا ..
" مها " شابة خلوقة مؤدبة .. ناضجة تجبر من يراها أو يتعامل معها على احترامها ورغم أنها تعمل في أحد المستشفيات الخاصة التي تعج بالرجال و غالبية الموظفين منهم .. وجدت " مها " نفسها انتقلت للجيل الجديد, فاضطرت أن تحصن نفسها ضد هذه التيارات التي تنظر للمرأة عموماً نظرة يشوبها الشك و الريبة في كل تصرفاتها و ترصدها الأعين كل لحظة ..
ولكسر هذه النظرية عززت " مها " ثقتها بنفسها من خلال تثقيف نفسها و تطوير ذاتها من خلال القراءة المستمرة ..
كما أنها فرضت احترامها على الآخرين في العمل .. فكانت بحق : نموذجاً حياً للفتاة المتعلمة الواعية و المثقفة .. دقيقة في عملها رغم الضغط المتواصل ..
طموح لا يلين .. شخصية هادئة متزنة .. و آمال عريضة ..
ولكن عندما تجلس " مها " لوحدها تقول لنفسها : لاشك أن المرأة تحتل دوراً أساسياً في المجتمعات الحديثة , و رقي موقعها هو حجر الزاوية لأي دولة باحثة عن النمو و التطور , ولكن هذا الأمر يثير رهاباً قاتلاً في مجتمعاتنا التي تعتبر أن التطور و النمو يعنيان التغريب , و فقدان الهوية مملوءه بالألغام و متسيجة بترسانات من الممنوعات الثقافية و الدينية ..
تقدم لها ابن عمها و رفضته رغم موافقة والدها .. و كان رفضها له مبطناً حيث أبلغته أختها عن طريق الهاتف .. مما جعله يسعى للانتقام منها في صورة ابنةً عمها التي خطبها و كتب كتابها ثم طلقها فجأة و كأنه يجلدهم جميعاً ويجلد ذاته انتقاماً لما حصل ..!!
ولا شك أن " مها " كفتاة عصرية تؤمن أنه من حقها أن تحب إذا كان ذلك سيؤدي إلى الزواج بشرط أن لا يتجاوز الحب الخطوط الحمراء ولا شك أنها في هذه الحالة ستجد من يساندها من أسرتها خاصة أن بعض الزيجات تفشل إذا لم يؤخذ رأي الأسرة وخاصة الفتاة صاحبة العلاقة .
ولو قدر لمها أن ترسم حياتها من جديد لطلبت الانتقال من هذه المدينة المنغلقة على أهلها و انتقلت إلى مدينة أفضل تحقق فيها ذاتها و تعيد رسم طموحاتها من جديد حيث تحلم بدراسة الماجستير و تطوير الذات و تأسيس عمل خاص بها ..
" مها " ليس لديها تجارب خاصة أو سابقة في المجال العاطفي , ولكنها تؤمن أن الحب الذي يتوج بالزواج هو الأبقى ,ولا شك أن جميع من كان لهم مشاعر نحوها لم تقتنع بأي واحد منهم كي يصبح زوجها ولم تسمح لمشاعرها أن تميل نحو أي واحد فيهم ,و تؤمن بالمثل القائل " ليس كل ما يلمع ذهبا ً "
" مها " لا تشعر بفراغ عاطفي في حياتها ولكنها تشعر أحياناً بمرارة الظلم في هذا المجتمع العربي بشكل عام ,وقد أصيبت بالذهول و الصدمة ذات يوم عندما قرأت عناوين صحيفة عربية شهيرة جاء في صفحتها الرئيسية :
- 232 حالة عنف ضد النساء و الأطفال خلال 8 شهور في بلد عربي واحد .
- ويكليكس إيران قدمت لشيوخ عشائر عراقيين نساء لزواج المتعة بهدف النفوذ .
- جلد 4- ألف امرأة سودانية تبدأ من ارتداء البنطلون حتى غسيل السيارة و الناتج هو مليون و 600 ألف جلدة ألهبت ظهور النساء خلال عام واحد ..
انحدرت دموع ساخنة من عيون " مها " وهي تقرأ تلك الأخبار , و تسأل نفسها : لماذا تعلمنا إذن وما الذي أخذناه من العلم لندافع عن أنفسنا ؟
و تزاحمت الأسئلة في رأس مها حتى دفنت رأسها في صفحات الجريدة وهي تخاطب نفسها وهي تتجه إلى غرفتها وتسأل نفسها : هل تعليم الفتيات في مجتمعنا هو مجرد تحصيل حاصل ؟
أم أنه لتحقيق الذات .. أو بناء الشخصية الاستقلالية مادياً للمرأة ..؟ وسألت نفسها :
لماذا تعلمت إذن , و ما الفائدة من الشهادات التي أحملها ؟
دخلت " مها " مجال العمل و طموحها يسبقها و يحدوها الأمل و يحثها للخروج من الرتابة و الملل إلى عالم جديد , كانت تتوقع أن تجد في عملها أن علاقة الرجال مع بعضهم أفضل من علاقة النساء مع بعضهن , ولكنها اكتشفت أن علاقة الرجال أسوأ من النساء..!!
أما عن علاقتها برؤساء العمل غالباً ما تكون قراراتهم عشوائية و أحياناُ تعسفية و قد عانت من ذلك , وكانت في البداية تثور غضباً لكن مع مرور الوقت أصبحت تتعامل بهدوء دون انفعال حيث هناك البعض من رؤساء الأقسام علاقتها بهم جيدة يسودها الود و الاحترام ..
زملاؤها في العمل يسعون لكسب ودها وثقتها , و غالباً ما يظهر لها البعض مشاعر الأخوة وهو في صميم نفسه يكذب , ومن هؤلاء أحد الأشخاص الذي ظل يلاحقها و يضايقها بحجة العمل ومازال مصراً على سلوكه المشين و تطرده في كل مره , وهو يحاول تشويه سمعتها .
و دون شك فهناك من زملائها قمة في التهذيب و الاحترام ..
المشكلة التي تعاني منها أن زملاء العمل يخلطون بين حياتهم الخاصة و العمل, بحيث يرفعون الكلفة معها هي و زميلاتها , و لغة التخاطب تتم دون رسميات مما يسبب لهن بعض الحرج , و أحياناً يمارسون أساليب مخجلة ً مع الفتيات ..
لقد سعت " مها " للعمل حتى لا تعتمد على رجل يذلها بماله و يتحكم في حياتها رغم أن هناك عشرات الحالات المشابهة وخاصة المدرسات اللاتي يواجهن الابتزاز و سلب حقوقهن أولاً من الأباء حيث يسلب البعض منهم ما يجنين من مال آخر كل شهر..
و ليت الأمر يقتصر على ذلك بل يصبح المال المكتسب من العمل أو الوظيفة سبباً لحرمان العشرات من الفتيات من فرص الزواج تحت عناوين باهتة يرفعها الموروث الاجتماعي ومنها : عدم تكافؤ النسب , تدني مستوى دخل العريس
المستوى الاجتماعي أو القبلي .. الخ .. تلك بعض الأعذار الممجوجة سلفاً لإحكام السيطرة على دخل البنات المغلوبات على أمرهن حتى تشكل جيل كامل من العانسات ..
سمعت " مها " عن مديرة المدرسة و الوكيلة في إحدى المدارس اللاتي تزوجن دون أن يعلمن أنهن على ذمة رجل واحد .. و من هو ؟ بواب المدرسة ..!!
كانت طفولة " مها : جميلة و سعيدة , كانت مسؤولة عن أخوتها الصغار .. توجههم و ترعاهم ومنهم شقيقها الأصغر الذي شجعته على لعب كرة القدم حتى أدمنها مما دفع إلى ربطه بنافذة المنزل ذات يوم لمنعه من الخروج ..
" مها " تحلم بأن تؤسس جمعية للدفاع عن حقوق المرأة التي لا زالت رهينة المجتمعات المتخلفة تتألم وهي تشاهد كل يوم طوابير النساء أمام المحاكم للمطالبة بالطلاق أو الخلع أو النفقة , عشرات الأرامل دون معيل رغم مساهمة الدولة في توفير الضمان الاجتماعي ولكن يظل هاجس " مها " هو تشتت الأسر التي تدفع وحدها ثمن أخطاء الوالدين .
أصبحت قضية " مها " قضية عامة و ليست خاصة , ولكنها لم تيأس ستظل تتابع ما بدأته حتى تنصر قضايا المرأة في حدود الشرع و الدين وليس الخضوع للأعراف و التقاليد البالية ..
وعندما تجلس " مها " منفردة مع نفسها و تسرح بخيالها و تسأل نفسها : هل سيأتي ذلك اليوم الذي تتخلص فيه النساء من قبضة المجتمع الخانقة و تقف على قدم المساواة مع الرجل .؟ !!
وهي مازالت تحلم بشريك العمر ولكنها تقول لنفسها : لن يكون أول طارق يطلب يدي .. هي تريد أن تراه وتختاره من بين عشرات الرجال و ستظل تبحث عنه ..
و حتماً ستجده لأنها قد رسمت صورته في مخيلتها وقد وصفته قائلة :رجل لبق , راق في تعامله مع الآخرين , هادئ الطباع , كريم , رومانسي , قوي الشخصية , يخاف الله , يجيد التعامل مع النساء و يترفع عن القيل والقال , متواضع النفس , طموح عالي الهمة , و" مها " لا تعلم أنها قد سكنت وجدان هذا الرجل منذ أن رآها لأول مره و أنه على بعد خطوات منها وفي نفس المبنى , ولكن خيارهما صعب للغاية حيث أن المجتمع الذي يعيشان فيه تحكمه ضوابط و حوافز عديدة فالعادات و التقاليد و الإرث الاجتماعي ما هو إلا امتداد لسياسة وأد البنات في الجاهلية و الانتقام من المرأة الحلقة الأضعف التي لا يؤخذ رأيها في مثل هذه الأمور المصيرية التي تحدد مسار حياتها ..
فالمرأة هنا صندوق مغلق مطالبه بالبقاء في بيتها ولا تغادره إلا للضرورة .. و في ظل هذا الوضع وقفت المرأة وحيدة مكتوفة الأيدي , معقودة اللسان أمام التسلط الذكوري المتباين وضاعت الحقوق وتحولت إلى سجالات فكرية لا تنتهي وكل يدعي حرصه الشديد على المرأة ..
وفي المقابل هناك أصوات خافتة يبوح بها قلم كاتبه , أو صوت ناشطة , أما البقية راضيات عن الوضع أو محبطات أو سلبيات أو يائسات ..