وجه عدني..

نادرة عبدالقدوس: الصبية التي كبرت في بلاط الصحافة

الأستاذة نادرة عبدالقدوس مع زوجها الأستاذ عبدالعزيز عباس

صفا ناصر

بابتسامة مرحّبة، جاءت تحمل إلينا الشاي في أكواب بلون أزرق، بديعة الزخارف والنقوش، أبديت إعجابي بها، قالت أنها اشترتها من موسكو بعد تخرجها من الجامعة وقبيل عودتها إلى عدن. شربنا الشاي الملبّن في أكواب روسية الصنع، فكرت وأنا أرشف منها، هنا تلتقي عدن وموسكو في كوب شاي.

 

ولدت نادرة عبد القدوس في السابع والعشرين من آب/أغسطس 1955، في حي كريتر بعدن. قدم جدها عبد الخالق عبد الرزاق من البنجاب في الهند، مطلع العام 1908 مع فريق هندسي، عمل مصممًا عمرانيًا، أو (plan master) كما كان يسمى حينها، صمم الكثير من بيوت حي الشيخ عثمان، ومن ضمن تصميماته، مدرسة الطويلة في كريتر، التي صممها على شكل حمامة.

أقام الجد في عدن، تزوج، وأنجب ثمانية من الأولاد، ثم سافر بعائلته إلى الهند في العام 1933، وتوفي هناك بعد سنوات قليلة، فرجعت أرملته إلى عدن مع أولادها، ما عدا والد نادرة الذي فضّل البقاء مع أخوته في مدينة ”اجرا“، وعندما شارف الثلاثين من عمره، قرر العودة إلى عدن، وهناك أراد الزواج. ”حين تزوج والدتي لم يكن أبي يتكلم العربية، ولم تكن هي تعرف شيئًا من الهندية، فكانا في بداية زواجهما يتواصلان بالإشارة“. وفي إحدى الأمسيات، وربما لأغراض تعلم اللغة، كانت الزوجة الحامل بطفلها الأول، تشاهد فيلمًا هنديًا بطلته تدعى نادرة، أعجبها الاسم وقررت إطلاقه على الطفل المنتظر.

لم يكن عائق اللغة مانعًا للانسجام بين والديها، فمرت الحياة في رفق. ”كان أبي يحب أمي ويحترمها. لا أذكر أنهما اختلفا يومًا، بل إنه كان يقبّل يدها كل صباح قبل ذهابه للعمل، كبرت وأنا أحلم بزوج على مثال أبي“..

 
اقرأ المزيد من اليوم الثامن> نبراس المعموري.. وجه نسوي وأدوار كبيرة بمختلف القضايا الإنسانية

الهاربة من الطب إلى الصحافة

أثناء دراستها الابتدائية في مدرسة الطويلة، انخرطت نادرة في جميع النشاطات المدرسية، وكأنها كانت في بحث عن ذاتها وميولها. أكملت بحثها المحموم في الإعدادية في مدرسة شمسان، شاركت في الأنشطة الرياضية، جرّبت الغناء والرقص والتمثيل، ثم وجدت ضآلتها حين تولت مسؤولية إعداد المجلة الحائطية، عرفت حينها أنها تميل للكتابة والأدب، لكن كان لوالدها حلم آخر، ”كان أبي يحلم أن أصبح طبيبة، كبرت وهو يناديني الدكتورة، فكان لا بد أن ألتحق بالقسم العلمي في الثانوية“. لكنها لم تصمد سوى شهر. ”ذهبت إلى مديرة ثانوية الطويلة قدرية الحازمي، طلبت منها نقلي إلى القسم الأدبي، ثم أخبرت أبي بالأمر، حزن كثيرًا، وقرر أن يكمل حلمه مع أختي الصغرى، لكن لم يتسع العمر للفرح، تخرجت أختي طبيبة بعد وفاته بعامين“.

حين كانت في الصف الثاني الثانوي، أخبرتها إحدى قريباتها أن صحيفة 14 اكتوبر بحاجة عاملات في المطبعة، فقررتْ الذهاب. ”كنت أعمل أيام العطلات، وهناك اكتشفت ميلي للعمل الصحفي، فكنت بعد خروجي من المدرسة أتوجه إلى قصر السلطان حيث مقر الصحيفة“. وبوحي من تجربتها الذاتية كتبت أول مقال لها في الصحيفة عن العلاقة الجدلية بين القسمين العلمي والأدبي، فلفتت الأنظار إليها، وشاركت في 1975 في أول دورة تدريبية في الصحافة بإشراف وزارة الإعلام، وفي العام نفسه تخرجت من الثانوية، وفي أثناء الخدمة الوطنية في صحيفة 14 أكتوبر سمعت عن منحة لدراسة الصحافة عبر اتحاد نقابات العمال، فذهبت للتقديم. ”وافقوا بشرط أن أعود بعد التخرج للعمل في صحيفة صوت العمال، تحدثت مع رئيس تحرير 14 أكتوبر حينها، سالم عمر حسين، قال: لن أمنعك، اذهبي وحققي حلمك“.

وفي السابع والعشرين من آب/ أغسطس 1976، احتفلت نادرة بعيدها الحادي والعشرين ثم غادرت إلى المطار، وكان الفراق للمرة الأولى. ”عانقني والدي بقوة، قال: أثق بك، فكوني على قدر الثقة، أما أمي فأوصتني من خلال دموعها، (نادرة قعي أسدة)“.

هناك التحقت نادرة بجامعة موسكو، كلية الصحافة. تفوقت ونالت درجة الامتياز منذ السنة التحضيرية، لكن الأمر لم يكن سهلًا في بدايته. ”في الأشهر الأولى مرضت ورغبت في الرجوع إلى عدن، زوجي عزيز وكان زميلي في البعثة حينها ساعدني كثيرًا، كان ينظّم رحلات للتعرف إلى زملاء عرب، تعرفت إلى فتيات عربيات ما زلن صديقاتي إلى اليوم، بعدها تأقلمت وشغلت الدراسة كل وقتي“.

 
اقرأ المزيد من اليوم الثامن> إيمان الرشيد.. فتاة مكافحة حلمها الحصول على الدكتوراه

قبعة الزفاف

مر العام الأول، وفي العام الذي تلاه، أخبرها صديق أن هناك من يود خطبتها، لكن نادرة الجادة الصارمة لم يكن لديها وقت للحب. ”رفضت الفكرة، قلت له جئنا إلى هنا للدراسة لا للزواج“. كان ذلك في أواخر 1977، سألت عن المعجب السري فكان الجواب أنه عبدالعزيز عباس، زميلها الذي تراه كل يوم. حين أبلغته رفضها، عاهدها على الانتظار إلى أن تغيّر رأيها. ثم سافر بعدها بأيام إلى مدينة كييف لدراسة المسرح، عندها أحست نادرة بالفقد. ”بكيت كثيرًا، كنت أعتمد عليه في كل شيء، كان فيه من صفات أبي“. بعد قرابة العامين كتبت إليه تبلغه موافقتها على عرض الزواج، لكنه لم يكتف بالموافقة الكتابية، فحجز رحلة إلى موسكو استغرقت يومين بالقطار. تروي بسعادة ظاهرة. ”بعد يومين وجدته يطرق الباب، قال أنه سيعود إلى كييف في الليلة ذاتها، لكنه أراد فقط سماع موافقتي“.

في عدن، وفي أواخر 1979 تزوجا، كان زواجًا سريعًا يسير التكاليف. بدت في صورة الزفاف جميلة، بثوب أنيق وقبعة، شرحت الأمر ضاحكة. ”لم يكن شائعًا ارتداء قبعة مع ثوب الزفاف، لكنها أعجبتني فارتديتها“، بعد أسبوع من الزواج عادا إلى موسكو، وأقاما في سكن الداخلية التابع لمعهد المسرح حيث كان يدرس زوجها بعد أن انتقل من كييف. تخرجت نادرة في 1982، ورجعت إلى عدن ريثما ينهي زوجها دراسته. وباشرت العمل في صحيفة صوت العمال فور تخرجها، واستمرت في العمل فيها حتى 1987. ثم اضطرت لترك العمل الصحفي. ”كانت أمي تعنى بأطفالي طوال فترة انشغالي في العمل، ثم انتقلنا إلى بيت مستقل عن أهلي، فكان من الصعب أن أستمر في الصحيفة التي تتطلب العمل لساعات متأخرة في الليل، لهذا انتقلت إلى معهد التدريب الإعلامي، عملت في التدريس، ينتهي عملي عند الظهر وأعود إلى بيتي وأطفالي“.

 
اقرأ المزيد من اليوم الثامن> مريم محمد: حادثة غيرت حياتي ولهذا السبب أخترت الإعلام والصحافة

بقيت نادرة في المعهد إلى 1991 ثم اشتاقت إلى العمل الصحفي، وعادت إلى بيتها القديم، صحيفة  14 اكتوبر، واستمرت فيها إلى أن اندلعت حرب العام 1994. ”حرب ذلك العام كان صدمة هزتني. لم أستطع الذهاب إلى العمل، بقيت شهورا في المنزل بحال نفسية منهارة. ثم حولوني إلى الأرشيف، قضيت فيه عامًا، تعرضت إلى مضايقات كثيرة، من الألفاظ البذيئة إلى التهديد بالضرب، ثم قطع راتبي. كنت حاملا في ذلك الوقت، وأجهضت طفلي نتيجة الضغوط النفسية“..

ابتعدت نادرة قليلا عن الكتابة الصحفية، ومع بداية العام 1995 أسّست مع زملاء لها، فريق التوعية من مخاطر الألغام. ”كان الهدف توعية الأطفال تحديدًا، لأنهم أكثر الضحايا، ثم تحوّل الفريق في 1998 إلى جمعية، وأصبح النشاط أكثر تنظيمًا“. انتخبت نادرة الأمين العام  للجمعية التي ترأستها عائشة سعيد ناليه. وكانت تجربة ناجحة. ”نجحنا في حمل الحكومة في 1997 على التوقيع على اتفاقية حظر استعمال الألغام“. وفي العام 2005 أصدرت نادرة كتابها الجميل عن ماهية نجيب. ”التقيت بنور حيدر في 1992، وحكت لي عن امرأة تدعى ماهية نجيب كانت تتولى رئاسة تحرير مجلة خاصة بشؤون المرأة بإسم فتاة شمسان، بعد البحث لم أجد أن أحدًا كتب عنها، حتى الدراسات والأبحاث عن تاريخ الصحافة اليمنية لم تذكرها، فقررت أن أكون أول من يبدأ“. بعدها عادت نادرة إلى بيتها الأول ..

 
اقرأ المزيد من اليوم الثامن> أديب العيسي.. نجل الشهيد وصانع التصالح والتسامح

قبل الرحيل

في 2008 تولت نادرة ملحق روافد الثقافي، الذي كان يصدر كل سبت عن صحيفة 14 أكتوبر. كانت روافد هدنة للاستراحة من الضغوط وحروب العمل، فأغرقت نفسها فيها وتفننت في إخراجها. ”أخذت روافد كل وقتي وشغفي، كنت أطلب من صديقتي في الأردن مسؤولة وكالة البتراء مواد حية من هناك، كذلك صديقاتي في فلسطين والسويد، وألمانيا، وأمريكا. فكانت النتيجة مواد ثقافية منوعة من كل مكان، كانت النسخ تنفد بسرعة، تعب الناس من السياسة، فكانوا يجدون في روافد راحة من ذلك التعب“. لكنها توقفت بعد أشهر قليلة.

في الثاني والعشرين من كانون ثاني/ يناير 2015، صدر قرار بتكليف نادرة بمنصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة 14 أكتوبر ورئيسة تحرير الصحيفة الصادرة عنها، لكنه لم يكن قرارًا جمهوريا، فكان منصبًا بلا سلطات. ”كانت فترة عصيبة، بها الكثير من الصراعات، والافتراءات، وغدر المقربين، كنت أعمل بلا سلطات وبلا ميزانية تشغيلية، أدفع للحراسة من مالي الخاص، خوفًا من أن تضيع المؤسسة، بيتي الذي تربيت فيه وأنا بعمر 18 عامًا“. وبعدها بشهرين اندلعت الحرب فتوقف العمل، ”توقفت الصحيفة عن الصدور في 22 مايو، بعد أن أصدرنا 30 عددًا، ثم قدمت إعفائي من المنصب في 23  تشرين أول/ اكتوبر 2016“. وسافرت في اليوم التالي إلى القاهرة. ”كنت بحاجة الهدوء والراحة، بعد سنة وعشرة أشهر من المعاناة. وبعد اقتحام مكتبي أخليت مسؤوليتي، ولم أعد بعدها للصحيفة“.

 
اقرأ المزيد من اليوم الثامن> احمد هاشم السيد .. موهبة اعلامية عدنية اثبتت كفاءتها

سألتها عن علاقتها بالصحيفة حاليًا، أجابت أنه لم تعد لها علاقة بها، غير أن الحزن الذي يغشى ملامحها والغصة في صوتها تشي بغير ذلك. كانت الصحيفة حبها الأول، ومن ينسى حبه الأول؟

لكن لا وقت للأسى، فالمشاريع كثيرة، وهناك الكثير من الأعمال تنتظر إنجازها.”حاليًا في طور تنفيذ فيلم وثائقي عن معالم عدن التاريخية والدينية، بإشراف لجنة الإعلام التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، إضافة إلى مشروع إصدار كتاب عن الكابتن طيار عيدروس الهاشمي“، كما لها اهتمامات بالأبحاث التي تتعلق بحقوق المرأة والطفل، بدأته في 1997 عندما أنجزت بحثًا مع الأديب الراحل عبد الرحمن عبد الخالق، عن آثار حرب 1994 النفسية والجسدية على الأطفال. ونشره مركز دراسات حقوق الإنسان في القاهرة في كتاب ضم أبحاث أخرى. وفوق هذا وذاك، لديها ولدان وحفيدان يظلّلان أيامها بالفرح وبالسعادة الصافية.