قصة قصيرة..

ذلك الجدار.. تلك الشجرة

ذلك الجدار.. تلك الشجرة

هشام بن الشاوي

عمر الصباحات قصير، لهذا أحرص على أن أنصب لها فخاخا كثيرة؛ أستيقظ مبكرا، كما يليق برجل في منتصف العمر، يجتر بداوته الموؤودة.. لعلها الوسيلة الوحيدة لكي أعوض العمر الذي تبخر فجأة، دون أن أدري؛ بهذه الفخاخ، أحاول أن أعيش نهارات أطول.

 

 تداعب  شمس الخريف الأرصفة والمباني  في  حنو، في صباح هذا الأحد الرائق، و يسري بعض الدفء في أجساد، تنفض عنها ما تبقى من تعب نهاية  الأسبوع.  في طريقنا إلى سوق العصافير، قبالة مبنى المحكمة القديم، سألت صديقي  هشام إن كان يعرف هذه الأمكنة.. 

- هل كنت تسكن هنا؟

- لا، كان يسكن هنا بعض زملائي،  وكانت سيارة العمل تقلهم من هنا.

ذهبنا - أنا وهشام- لابتياع بعض مستلزمات طيور الزينة، بينما  راح  جارنا الحاج العربي لمقابلة  قريب بجوار السوق القديم. وفي طريق عودتنا، كان جارنا المتقاعد ينتظرنا على الرصيف، بقامته الربعة وملامحه التي تشي بأنه متصالح  مع ذاته ومع العالم. تناهت إلى مسامعنا أصوات الباعة ومحركات الدراجات النارية صاخبة، متداخلة، أليفة وضاجة بالحياة.

دون مقدمات، بدأ الحاج العربي يحكي  ما عاين في المكان، قائلا في حماس :

- لو تأخرتما قليلا، كنتما ستجدان الشارع مقلوبا..

وأطلق العنان لضحكه الطفولي المعهود، كما يليق برجل ستيني، لا تكدر صفو مزاجه مشاغل الحياة وإكراهاتها.

رمى البائع الجائل ثيابه في عربدة، وشهر سيفا، كان يخفيه في صندوق، يقبع أسفل العربة اليدوية، في وجه أحد أفراد قوات الأمن، متفوها ببذاءاته، غير عابئ بتوسلات زملائه، عندما حاول  صاحب البذلة العسكرية قلب عربته، التي تعرقل حركة المرور.

كنت أرنو إلى البيوت مأخوذا، كأنما زرت هذا المكان بالأمس  فقط.

 عشرون عاما، مضت كومضة برق!

في انتظار  أن يعبر الحاج العربي الشارع، من مقعدي الخلفي في السيار ة،  كنت أرنو إلى المنحدر، وفي قاعه يستكين جدار واطئ. قلت لهما  بنبرة  شجن طارئ : "في ذلك  البيت، القابع على يسار الجدار، هناك، قضيت طفولتي، وفي هذه الأزقة  تسكعت كثيرا".

على تويتر، كنت أرمق صورة من ريف نجران  بحنين فائض، كمن يلقي نظرة أخيرة على مكان اعتدت عليه واعتاد علي.. كمية هائلة من الأحاسيس المبعثرة، المتعثرة، وفوجئت بأناملي تداعب شاشة الهاتف الصقيلة : "نكلت بحنيني البدوي الباذخ تلك العربة المهملة، والتي لا يمكن الاستغناء عنها بأي شكل من الأشكال، إنها تواصل مهامها، هناك.. في "جنوب الروح"، بامتنان، ولا تتقاعس عن  أداء مآربها الأخرى : تسند فروع كرمة تين، تصلح مثوى لكلب يحرس البيت من الجهة الخلفية، يقيل تحتها الدجاج في الهجير...".

استرسل الحاج العربي في هجاء الأحياء الشعبية، وامتدح العيش في الأحياء الجديدة، التي تخلو من الغوغاء، الذين ينامون نهارا،  ويعربدن ليلا.. البدو ، أسّ  كل مشاكل المدينة!

قلت له في لهجة اعتراض :

- هنا أيضا، مراهقون  يتسامرون على عتبات بيوت الجيران، ويقهقهون طوال الليل.

كنت ألمح إلى ابنه المراهق صلاح، الذي تشاجرت معه أكثر من مرة.. يدع والده ينام في سلام، ويزعج الجيران..  ونكاية في  بداوتي ، قال  الحاج العربي لهشام ضاحكا:  "إنهم يفعلونها في الشارع!".

أحسست بوخزة، لذت بالصمت.

تداعى جدار الذكريات..

 بقعة النصراني، كانوا يسمونها، يقال إن صاحبها معمّر فرنسي، مات في بلده، ولا أحد يعرف ورثته، ورفعا للضرر المضاعف، اضطر  أبي أن  يطلب من البلدية أن تسمح له ببناء سور - من دون ملاط - فاصل بيننا وبين بيت الجيران، حتى لا تتراكم القاذورات أمام بيتنا، وجدار  آخر، خلفي، مزود بباب، يحمينا من أذى  كائنات الليل.

 من خلف الجدار الأمامي، كانت تلوح أغصان شجرة تين هرمة، كانت هذه البقعة المهجورة،  بمثابة حديقة سرية، يزرع فيها أبي بعض الخضراوات،  وأحيانا، نضع فيها بعض سقط المتاع، الذي يتكدس في ركن ما فوق أغلب أسطح هذه البيوت، ومثل عاصفة،  كنت أهرع لجلب البيض، عند سماع تلك القأقأة المميزة. تتهلل أساريري بشرا، وأنا أتحسس دفء البيضة  الجديدة.

الجدار واطئ،  تقادم طلاؤه، بعد أن أهمل السكان  الجدد أن يجددوا طلاءه  الجيري، تعلوه  قطع زجاج  مدببة، بألوان مختلفة، تحرس  خرابا بشعا، يستكين خلف الجدار،  بينما اختفت عن  مرمى البصر  شجرة التين.

.........................

.........................

 شيء ما يتهاوى في أعماقي

 ملامحي تفضحني...

سألني هشام:

    - ما بك؟ لست على ما يرام!

غمغمت في أسى، وأنا أزفر فتات كبدي : "لا شيء، أنا بخير، يا صديقي".

"ممتلئا بخساراتي؛

لن أدع الدموع ترتق لي حتفي،

لن تتعثر جثتي وهي تقع من بين يدي لامبالاتي،

أنا سبب انكساري،

وأنا هزيمتي،

أنا كل ما فعله الحلم المغشوش بي،

لا أذكر شيئا مني ولا أذكر أن لي صباحا ينفتح شرفة

تضيئها قهقهة أمل مشاغب"[1].

صاح هشام في ابتهاج، وهو يوجه كلامه إلى جارنا باسما:

- الحاج العربي، إذا  كنت تريد الهدوء، ابحث لك عن مكان، لا تسمع فيه سوى شقشقات العصافير، وحفيف أوراق الشجر.

 

 قبل انطلاق السيارة، أشار الحاج بيده، ناحية نبّاش مستنكرا : "انظر إليه، ماذا يفعل... ؟!"، كان الرجل الكهل، ذو الملابس الرثة، التي تفوح منها رائحة تزكم الأنوف، يعبث بأكياس القمامة، بحثا عما يسد به رمق أنعامه،  ركل الأكياس في حنق، تناثرت الأزبال فوق الرصيف، وعلى قارعة الطريق، وقفز الكهل إلى عربته، بحركة رشيقة، وخز البغل الأعجف، وهو يلعن  أسلاف دابته. ندت عني آهة، مكتومة، وسمعت الحاج العربي، يصرخ: "هؤلاء البدو..  همج.  لماذا يتركونهم يتجولون في شوارع المدينة ؟!".

التقت النظرات.. لم تكن ملامح الرجل غريبة عني، بعد أن غزت التجاعيد وجها لفحته الشمس. لم  أره منذ سنوات، بعد أن هجرت مهنتي الأولى، التي يحترفها - عادة- رجال يأتون من خلف حقول جرداء عطشى،  كان يعمل مع أبي، وهو من علمني أبجديات النجارة المسلحة.  دون أن  أدري، ألفيتني أشيح  بوجهي عنه، فرفع يده ضاحكا، وهو يغمز بعينه،  غرقت في بحيرة حرج مفاجئ، تصبب جسدي عرقا،  بينما استسلم  الحاج العربي لضحكه الطفولي المعهود، وبدأ وجهه يتورد، وعيناه تدمعان.