بسبب الانشغال الأميركي بملف حقوق الإنسان في القاهرة..

تقرير: غزة تكسر الجمود في العلاقات "المصرية - الأميركية"

القاهرة تستعيد وهج علاقاتها بواشنطن من الباب الفلسطيني

محمد أبوالفضل
القاهرة

النجاح المصري في لعب دور الوساطة وتثبيت الهدنة بين الجانببين الإسرائيلي والفلسطيني في أعقاب اندلاع الصراع في غزة، أعاد الوهج إلى العلاقات المصرية - الأميركية التي شابها الفتور منذ تولي الديمقراطي جو بايدن الرئاسة بسبب الانشغال الأميركي بملف حقوق الإنسان في مصر. لكنّ حرب غزة نجحت في كسر الجمود في العلاقات بين البلدين، حيث أثبتت القاهرة أنها طرف محوري في المنطقة بقدرتها على إطفاء نار الصراع، وهو ما جعل واشنطن تقتنع بإمكانية التعويل على دور أكبر لمصر مستقبلا وبضرورة إعادة الاعتبار للعلاقة الاستراتيجية معها.

بدت العلاقة فاترة بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بنظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ تولى الأول مهام منصبه في يناير الماضي، ولم تكن التلميحات الإيجابية التي جاءت من واشنطن للقاهرة بشأن التعاون العسكري والأهمية الرمزية التي تمثلها الثانية للأولى كافية لتذويب السُحب القاتمة التي ورثها بايدن عن الرئيس الأسبق باراك أوباما كافية لتبديد الهواجس المتعددة، لأن حديث الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان في مصر كان أكثر هيمنة على الخطاب الأميركي.

احتاج الرئيس بايدن منعطفا مهما في منطقة الشرق الأوسط ليعيد الاعتبار إلى الشكل الاستراتيجي للعلاقة مع القاهرة، وتمثل ذلك في اندلاع حرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لعبت القاهرة دورا رئيسيا في إطفائها بالتنسيق مع واشنطن. وقد انعكست أهمية الدور في أول اتصال مباشر أجراه بايدن بالسيسي الخميس الماضي، ما كسر من حدة الجمود بينهما الذي استغله البعض كدليل على أن هناك صيفا ساخنا ينتظرهما.

وذكرت الرئاسة المصرية في بيان لها تعليقا على الاتصال أنه تم التوافق بين الجانبين على “استمرار التشاور المنتظم وتبادل وجهات النظر، وتعزيز التنسيق المتبادل المثمر بين الأجهزة المختصة بين البلدين الفترة المقبلة لاحتواء تصعيد الموقف”.

وتبادل الرئيسان التعليق على الاتصال بكلمات تشي بالتفاؤل وأن ربيعا دافئا ينتظرها، فقد أعرب بايدن الجمعة عن امتنانه للسيسي والمسؤوليين المصريين على قيامهم بدور كبير في إتمام العملية الدبلوماسية لوقف إطلاق النار وتثبيته.

وعبّر السيسي في تغريدة له على تويتر الجمعة، عن تقديره لدور بايدن في إنجاح المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار وتحقيق التهدئة في غزة، وقال “وقد كانت الرؤى بيننا متوافقة حول ضرورة إدارة الصراع بين كافة الأطراف بالطرق الدبلوماسية، الأمر الذي يؤكد عمق ومتانة العلاقات الإستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة”.

أنهى الاتصال الهاتفي ومضامينه السياسية فرضيات قالت إن الفتور بينهما يمكن أن يؤدي إلى تداعيات سلبية على جملة من القضايا الإقليمية، ووضع حدا لتقديرات وتكهنات وتخمينات ذهبت إلى أن هناك تبدلا في التحالفات قد يؤدي إلى صدام بين الجانبين، خاصة أن الولايات المتحدة بدت غير حريصة على مساعدة مصر في أزمتها الوجودية حول سد النهضة وأوحت بعض الإشارات بأنها أكثر قربا من إثيوبيا.

ثمنت واشنطن الدور الذي لعبته الإدارة المصرية في وقف إطلاق النار والإشراف على تثبيته، وبدأت تنسج على ظلاله علاقة تتمثل في التفاهم حول مشروعات إعادة إعمار غزة، وقد يتولى الطرفان الترتيب لعقد مؤتمر دولي يعقد في القاهرة بشأنه.

ويعني التوافق حول أهداف المؤتمر أن ثمة هندسة مشتركة للأوضاع في القطاع بما يقود إلى تخفيف حدة الأزمات التي خلفها الحصار الإسرائيلي له على مدار السنوات الماضية، حيث تأكدت واشنطن أن هذه السياسة لم تمنع قوى المقاومة الفلسطينية من مراكمة الأسلحة التي مثلت تهديدا معنويا لإسرائيل.

الحرب والسلام

تأكدت واشنطن أن تحركات القاهرة سدت فراغا سياسيا كانت تفتقر إليه الأولى في المنطقة، وتأكدت أيضا أن القضية الفلسطينية من الضروري البحث عن حل لها، في إطار العنوان العام الذي أعادت تكراره إدارة بايدن ويتعلق بحل الدولتين.

بحكم العلاقة التاريخية بين مصر وهذه القضية من زاويتي الحرب والسلام مع إسرائيل أخذت الإدارة الأميركية تقتنع بأنها يمكن التعويل على دور كبير تقوم به القاهرة، ومحاولة تصحيح أطر العلاقة معها بما لا يحصرها في نطاق مناكفات حقوق الإنسان وتوابعه السياسية المرفوضة من قبل القاهرة.

يستطيع البلدان التأسيس على نتائج حرب غزة لعلاقة قوية تعيد إليها الحرارة التي عرفتها مع إدارات سابقة، ففي أوج الخلافات التي كانت تنشب في ملف الحريات مع مصر لم تتخل واشنطن عن دور القاهرة المحوري في القضية الفلسطينية، وهي على اقتناع بأن مصر إذا لم تكن قادرة على المساهمة في توفير الأجواء اللازمة للحل، فلديها من مقومات الجغرافيا السياسية ما يمكنها من تفشيله حال تعارضت التطورات مع مصالحها الإقليمية، الأمر الذي أكدته تطورات ملفات اتفاقيات السلام مع الدول العربية، والتي لم تكن القاهرة راضية عن مساراتها المتسارعة.

مساهمة واشنطن في حل أزمة سد النهضة بالنسبة إلى القاهرة تضمن لها علاقة أكثر ثباتا معها وتخرجها من مأزق إقليمي

وكشفت التحركات الجادة التي قامت بها مصر منذ الأيام الأولى لحرب غزة عن حاجة الولايات المتحدة لطرف يملك علاقات جيدة مع طرفيها، فالقاهرة تحتفظ بروابط جيدة مع السلطة الوطنية في رام الله، ولم تفرط في ورقة حماس

على الرغم من الخلافات الأيديولوجية معها، ولا تزال تحافظ على ثوابتها مع إسرائيل ومتمسكة بتثبيت السلام القائم معها، ولو في حدوده الدنيا والباردة.

تيقنت الإدارة الأميركية أن رغبتها في التحلل التدريجي من التزاماتها حيال قضايا المنطقة مسألة في غاية الصعوبة، وأن حصر اهتمامها بنطاق الأزمة مع إيران لن تكون نتائجه مجدية طالما استمرت القضية الفلسطينية تمثل منغصا جوهريا، لأن عددا من أبوابها يقود إلى طهران، وتركها مفتوحة يضر بكل الخطوات التي تقوم بها واشنطن لأجل التوصل إلى اتفاق مرض مع إيران.

لعل الإشادة التي وجهها رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية بعد وقف النار بما قدمته طهران من دعم للمقاومة يشير إلى أن العلاقة أكبر من كونها رعاية عادية، وتنطوي على دلالة بأن طهران يمكن أن تكون حاضرة في المشهد الفلسطيني بصورة كبيرة تمنحها قوة مضاعفة في ظل حضورها في سوريا وجنوب لبنان، ما يعني أن كماشتها تستطيع تطويق إسرائيل، وتقلل من فرص كبح تمددها.

وفتحت حرب غزة أعين إدارة الرئيس بايدن على أهمية استعادة زخم العلاقة مع إدارة السيسي، وأن تهميشها أو عدم الاكتراث بها ستكون له عواقب وخيمة، بالنسبة لدور الولايات المتحدة في المنطقة ما يؤدي إلى نشاط قوى أخرى منافسة لسد الغياب الأميركي، خاصة أن القاهرة نجحت في تمديد خيوط تعاونها مع قوى عالمية مختلفة، وامتلكت جملة من الأوراق تجعلها رقما مهما في أي معادلة جديدة.

معادلة جديدة

انتهز الرئيس بايدن فرصة حرب غزة ليعيد الاعتبار للعلاقة مع القاهرة، ويوقف زحف سيناريوهات غامضة معها لم تنجر خلفها مصر، وفي كل المحطات التي ظهر فيها الفتور حرصت مصر على عدم سد الأبواب مع واشنطن، كأنها كانت على يقين بأن سكرة الإدارة الأميركية سوف تذهب سريعا وتعود الفكرة لتحل مكانها، إلى أن جاءت حرب غزة وما أدت إليه من نتائج سياسية متباينة أعادت الدفء للشراكة التاريخية بينهما.

أيقنت واشنطن أن القاهرة ركيزة يصعب التضحية بها وسط السيولة الحاصلة في المنطقة، وعليها التعامل معها وفقا للمحاور الإستراتيجية السابقة، وهو ما تعمل مصر على توظيفه وفقا لسياسة المنافع المتبادلة.

حرب غزة فتحت أعين إدارة بايدن على أهمية استعادة وهج العلاقة مع إدارة السيسي، وأن تهميشها أو عدم الاكتراث بها ستكون له عواقب وخيمة بالنسبة إلى دور واشنطن في المنطقة

تقدم القاهرة السريع لوقف الحرب وانفتاحها على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وما حققته من مردودات إيجابية معهما يرسخ أقدامها في المحطات المقبلة المتعلقة بترتيبات عملية السلام التي باتت إدارة بايدن أكثر اقتناعا بها، وتجد أن القاهرة قادرة على تجاوز المطبات التي قد تعتريها من زاوية انفتاحها على القوى الفلسطينية وما حققته من شعبية لافتة في صفوفها المختلفة.

يمكن أن تنمو العلاقة بين واشنطن والقاهرة إذا وجدت الثانية مساعدة كافية من الأولى في التحديات التي تؤرقها على مستوى الأزمة في ليبيا وأزمة سد النهضة، وبعد أن قطعت ليبيا شوطا جيدا لأسباب تتعلق بمصالح أطرافها والأضرار التي يمكن أن يفضي إليها استمرارها، تنتظر مصر أن تتيقن الولايات المتحدة من أن ترك الأزمة مع إثيوبيا مفتوحة سوف تكون له أضرار عميقة على الأمن والاستقرار الإقليمي.

وتراهن القاهرة على حدوث تحول نوعي في الموقف الأميركي حيال إثيوبيا، اتساقا مع الغضب العارم مما تقوم به أديس أبابا من انتهاكات في مجال حقوق الإنسان، فمساهمة واشنطن في حل هذه الأزمة المصيرية بالنسبة إلى مصر يضمن لها علاقة أكثر ثباتا معها، وتخرجها من مأزق إقليمي يجنب القاهرة اللجوء إلى حلول خشنة يمكن أن تغير التوازنات في منطقة غاية في الحساسية.