د. نعيمة عبدالجواد تكتب لـ(اليوم الثامن):
"الغريب" و"كامو": عذاب وعقاب على ذنوب يقترفها الآخرين
في كثير من الأحيان، نلحظ أشخاصًا اجتمعوا على كره فرد دون أدنى سبب، ولكم يصبح الأمر مثيرًا للدهشة عندما يكيلون له ضغائن لا يعلم هو سببها، وخاصة إذا كان ليس له علاقة مباشرة بهم، أو لم يطالهم منه أي أذى. هذا الموقف العبثي، الذي لربما لا يستطيع أن يتلافاه حتى من تسبب في الأذى، لا يمكن تفسيره، إلَّا بالإشارة إلى أن العالم فقد معناه، فأصبح بلا عقل. وعلى إثر ذلك، تتفشى مواقف لامعقولة وعبثية المسببات، وذلك هو لبّ الفلسفة الوجودية.
وتؤكد الفلسفة الوجودية، في كل مصطلح أو كلمة تصف معناها، أن العالم بلا هدف أو قواعد فطرية محددة على هداها نسير؛ فالجميع يعلم أنه يتوجَّه صوب نهاية معروفة تعد الحقيقة الوحيدة الثابتة في حياة أي شخص؛ ألا وهي الموت. ولهذا السبب، يصبح الفرد مُجبرًا، في ذاك الكون المتقلِّب، أن يتَّخذ وحده قرارته، وكذلك أن يتحمَّل تبعيات اختيارته. والأدهى من ذلك، أنه يتوجَّب عليه أن يجاهد ليجد معنى وهدف للاستيقاظ في كل صباح، على الرغم من علمه أن الوجهة الجمعية للبشر هي الفناء، وأن كل تلك الأهداف التي يخطط لها، بل ولربما أنجزه بعضًا منها، إلى زوال.
وعلى الرغم من أن "ألبرت كامو"Albert Camus (1913-1960) يرفض مصطلح الوجودية Existentialism، ويصر على أن العبثية Absurdism هي أساس الحياة، لكن خلافًا لإرادته الحرَّة وعلى عكس رأيه، يتم تصنيفه بأنه كاتب وفيلسوف "وجودي"، وهذا في حد ذاته يؤكِّد ويوضِّح مدى عبثية الحياة.
ولم يكن تصنيف "كامو" تحت تيَّار الوجودية هو الشيء العبثي الوحيد في حياته، بل كان وجوده في ذاك الكون منذ لحظة ميلاده. فهو فرنسي الأصل وجزائري المولد. وبالرغم من كونه أحد أبناء الاستعمار الفرنسي الغاشم المحتلّ للجزائر، لكنه كان يعيش على أطراف الحياة، ولا يجني منها سوى الشقاء. فلقد ولد في حي شديد الفقر، لأب مزارع مات قبل أن يعي "كامو" وجوده، وأم بكماء لا تعرف القراءة أو الكتابة، ومن الطبقة العاملة الدُنيا. ولم تكن طفولته أفضل من ذلك؛ فلقد كانت سنوات متتالية من الحرمان والرفض والانكسارات وسوء الحظ؛ حتى عندما آب إلى فرنسا، وبالتحديد باريس، كان ذلك إبَّان غزو الألمان فرنسا. ونكاية أكثر فيه لتحطيم إرادته الحرَّة والتوكيد على عبثية الحياة، كان "كامو" يرفض العنف ويمجّ الاشتراك في الحرب. لكن بالرغم من ذلك، انضم لفرق المقاومة، وبعدها خرج إلى العالم كاتب عملاق لفت أنظار النقَّاد والعالم له؛ لأنه مختلف وتعامل مع الوجود من خلال وجهة نظره هو، حتى ولو كان يرفضها الجميع.
هزَّ "كامو" الكيانات الأدبية بأعماله النفسية الواقعية الساخرة التي لا تناقش الموضوع الشائك بأنه لا طائل من الحياة، لطالما كان العمل والاستكانة سواء؛ فكل شيء إلى زوال. وعلى هذا الأساس، ظهر كل عمل كأسطورة يكتبها بلغة مباشرة، فقيرة التنميق اللغوي والمحسِّنات البديعية، حتى تكون أقرب إلى اللغة الدَّارجة. ويعد "كامو" ثاني أصغر فرد يتلقَّى جائزة نوبل في تاريخ الجائزة بأكملها. ومن أعماله التي شيَّدت هويته وسمعته الأدبية والتي على أساسها تلقى جائزة نوبل: "الغريب" The Stranger (1942)، و"الثائر" The Rebel (1951)، و"أسطورة سيزيف" The Myth of Sisyphus (1942)، و"السقوط" The Fall (1956)، و"الوباء" The Plague (1947).
صدم "كامو" العالم بأولى رواياته "الغريب"، وهي رواية قصيرة (نوفيلا) موضوعها يؤكِّد أن الإنسان الذي يقرر أن يفهم الحياة ويعيش وفق إرادته الحرَّة لسوف يصبح في نظر الآخرين متهمًا، ويجب أن ينال أشد عقاب لأنه قرر الخروج عن الإطار المألوف. وبذلك قدَّم "كامو" شخصية "ميرسو" السَّاخر الذي قد تتلاقى سيرته الذاتية مع "كامو" نفسه في العديد من النقاط، وعلى رأسها أن أحداث الرواية تدور في الجزائر. والصدمة الكبرى التي يلقي بها "كامو" على القرَّاء يضعها في بداية الرواية الخارجة عن المألوف، والتي يقول فيها على لسان "ميرسو": "فارقت أمي الحياة اليوم. أو ربما الأمس، لا أدري. وصلتني برقية من الدَّار تقول: "توفَّت أمك. الجنازة غدًا. مع خالص التحيات". الخبر لا يعني شيئًا. ربما كان هذا بالأمس". أكبر صدمة يلقي بها "ميرسو" على القارئ هي مشاعره الباردة تجاه موت أمُّه، فذلك بالنسبة له النهاية المتوقعة لعجوز مريضة وضعت في دار رعاية. لقد خرج "ميرسو" عن المألوف بأنه عبَّر عن الحقيقة دون زيف ودون أن يضع على الخبر مشاعر شخصية تفقد قيمتها بمرور الزمان. وبذلك يتحوَّل ليس فقط إلى فاعل مؤثِّر في إطار الرواية، بل إلى وسيلة تنقل للقارئ نفس تجربته ويتعايش معها، وتصدمه موافقته الشخصية على موقف "ميرسو" القاسي؛ وهذا لأنه حقيقة منطقية.
وفي حين ينتقض الناس قسوة "ميرسو" الظاهرية التي منبعها صدقه المُطلق وانحيازه للحقائق الثابتة، الأسوأ منه موقف جاره الذي يسيء معاملة الكلب الخاص به بكل الوسائل العنيفة، لكنه يبدو للآخرين وكأنه رجل محبًا للحيوانات. وعلى عكس "ميرسو"، يكون صدمة هذا الرجل كبيرة ويشعر بالوحدة والفراغ حينما ينفق هذا الكلب، وحينها يعلم أنه ارتكب الكثير من الأخطاء.
وأمَّا هذا الشخص الغريب "ميرسو"، أو بالأحرى الذي يعتبره الآخرين غريب الأطوار، عندما دخل في علاقة حميمية مع فتاة، لم يخدعها وكان رده على تساؤلها ما إذا كان يحبها بالسلب. لكنه على الرغم من ذلك، وافق على الزواج منها؛ لأنه يعلم أن العلاقات الإنسانية يطغى عليها الجانب المادي.
والرواية ، التي تقع في جزئين، تبلغ ذروتها حينما يقوم "ميرسو" بقتل رجل جزائري بدم بارد. وفيما يبدو أن "كامو" الذي كان يشير للعرب بلفظ "عرب" ولم يعرِّف ذاك القتيل بأي اسم، أنه كان في داخله رافضًا للاستعمار وعبثية سلب هوية الآخر؛ فالقصاص العادل كان الزج ب"ميرسو" في السجن لمعاقبته على جريمته والتي قد يكون عقابها الإعدام.
والجزء الثاني من الرواية يدور حول محاكمة "ميرسو" وتواجده في السجن. ويصدم "كامو" القارئ مرَّة أخرى حينما يسلِّط الضوء على أن المحاكمة والاتهامات الموجهة ل"ميرسو"، وكذلك عقوبة القاضي له منبعها انتقاد السلوك الشخصى ل"ميرسو" وتحليله لها بأنها قسوة وتبلُّد للمشاعر. لم يتحمَّل القاضي، وكذلك الشهود على القضية، الصراحة المطلقة، والإيمان بممارسة الإرادة الحرَّة التي لا تكبِّلها السلوكيات اللطيفة. وقبل تنفيذ الحكم عليه، وكما هو معتاد، ترسل له إدارة السجن الكاهن حتى يعترف له ويتوب. بيد أن، على عكس النمط السائد، يصرّ "ميرسو" على موقفه الرافض لسلطة الكنيسة، بل أيضًا يبدأ بمهاجمته. وقبيل المحاكمة بيوم واحد، تكون الأمنية الوحيدة ل"ميرسو" هو أن السَّاحة التي سوف تشهد تنفيذ الحكم عليه علانية تعج بجحافل من البشر الحاقدين.
من الجلي أن موقف بطل الرواية يلقي الضوء على عبثية الحياة التي يسير فيها الفرد صوب الموت، فما كان منه إلَّا وأن قام بتعجيل النهاية لهذا الوجود العدمي. وهذا الموقف الذي قد يفسِّره البعض بقسوة أو شجاعة مفرطة طائشة كان يعذِّب الآخرين؛ لأنه يعكس ما يخفونه من مشاعر لا يستطيعون مجابهتها.
ومن الواضح أن جميع أعمال "كامو" بالرغم من غرابتها ونهاياتها الحزينة، لكن ينفذ منها شعاع قاطع من أمل قائم على يقين. فصراحة "ميرسو" المطلقة وموقفه المحايد للحياة في منتصف القرن العشرين إبَّان الحرب العالمية الثانية والنزعات الاستعمارية، هو نفسه الموقف الذي يطالب خبراء التنمية البشرية بأن يتبنَّاه البشر في عصرنا الرقمي الذي بدأت تخمد فيه جذوة المشاعر الإنسانية للأبد. وأمَّا بالنسبة ل"كامو" نفسه، فلقد انتصر لوجهة نظره، وجلبت له صراحته أرقى الجوائز الأدبية على الإطلاق، وكذلك لا تنطفئ أبدًا شعلة ذكراه. وكافأه القدر بتعجيل موته في حادث سيارة، بعد أن جاوز العقد الرابع من عمره حتى يضع حدًّا لشعوره بالاغتراب الدائم والتعاسة.
"كامو" الثائر العنيد، لم يكن راغبا إلَّا في صحبة من يفهمه، أو كما كان يردد: "لا تسير أمامي... فقد لا أتبعك. لا تسير خلفي... فقد لا أقودك. سرّ بجانبي... فقط كن صديقي". لكنه لم يجد أبدًا ذاك الصديق، ولهذا ارتضى صحبة نفسه، أو كما قال: "في عمق الشتاء، علمت أخيرًا أن بداخلي صيفًا لا يُقهر". ودون أدنى شك، كان سعيدًا بتلك الصحبة التي جلبت له سعادة دائمة وشجاعة لا تُهزم عند مجابهة صعوبات الحياة.


