د. سامي خاطر يكتب لـ(اليوم الثامن):
هل ستصبح جمهورية الملالي "جمهورية نووية بعد مسرحية حرب الـ 12 يوما"؟
خلف الكواليس دارت تسويات عميقة ومقايضات خفية، ويبدو أن حرب الـ 12 يومًا لم تكن سوى مسرحية محسوبة، الهدف منها هو تحويل جمهورية الملالي إلى "جمهورية نووية" وكأمرٍ واقع دون إعلان رسمي، ولكن بـ "رضا ضمني" دولي.. إذ ظهر خلف الكواليس ضوء أخضر مؤقت، فمنذ اليوم الأول لم يكن الردّ الإسرائيلي شاملًا أو قاتلًا رغم قوته، بل بدا وكأنه "تأديب" لا إسقاط.. وكان الرد الإيراني مدروسًا بدقة، إذ كانت الضربات ذات طابع رمزي – تكتيكي، لا تصعيد نووي أو صاروخي استراتيجي، ولعبت واشنطن دور المايسترو حيث سمحت بالصراع إلى حد معيّن، ومن ثم دفعت إلى وقف إطلاق النار كما لو كانت تراقب "بروفة" ما.
تفعيل قنوات التفاوض السرية
في الأيام الأخيرة من الحرب ظهرت تسريبات عن وساطة فرنسية – عمانية، وتواصل أمريكي – إيراني عبر مسقط أو بغداد. وتحدثت بعض المصادر الموثوقة عن عرض سري، يقضي باحتفاظ إيران ببرنامج نووي متقدم دون تفجير أو إعلان مقابل تهدئة طويلة مع إسرائيل ووقف دعم بعض الجماعات المسلحة.
بعد صفقة النفط والصمت؛ هل ستصبح إيران الملالي " جمهورية نووية" في مرحلة ما بعد الحرب؟
تزامنًا مع الحرب رُفعت بعض القيود عن صادرات النفط الإيراني بهدوء، وقد يكون هذا جزءًا من صفقة غير معلنة: "استقرار نووي مقابل استقرار أسواق الطاقة".. نعم، ولكن بنمط جديد يتخذ وجه النووية الصامتة.. واقترب الملالي بعد الحرب أكثر من أي وقت مضى من "عتبة الدولة النووية"، أي أنهم سيملكون القدرة على تصنيع قنبلة نووية في غضون أشهر.. لكنهم لن يعلنوا عن ذلك.. لقد صنعت الحرب واقعًا جديدًا: العالم اختبر "الرد الإيراني" ولم يكن كارثيًا، و"الصمت الدولي" الذي شجّع النظام ليس بجديد، وبالتالي من المرجّح أن يتحول الوضع إلى نموذج باكستان أو إسرائيل: دولة تملك التقنية دون تصريح رسمي.
إن حرب الـ 12 يوما كانت أقرب إلى "مسرحية استراتيجية" منها إلى حرب مصيرية.. حرب وضعت خطوطًا جديدة للعبة النووية، ومررت اعترافًا ضمنيًا بأن إيران الملالي لم تعد تلك الدولة المحاصَرة فحسب، بل "شبه-نووية" يُساوَم معها ولا يُسعى لإسقاط نظامها.. والمشهد الأكثر مأساوية هو أن كل ذلك جرى بينما الشعب الإيراني يقف في الصف منتظرًا الخبز لا القنبلة.
ماذا جرى ومن الخاسر ومن المنتصر؟ ولماذا يصر الغرب على تمكين نظام الملالي في المنطقة بعد تمكين سلطات الاحتلال في فلسطين وتوفير الأسباب لهم لمحو غزة من الوجود وضرب القضية الفلسطينية في مقتل؟
ما جرى ليس مجرد حرب قصيرة بين إيران وإسرائيل، بل فصل جديد في سياسة إعادة تشكيل الشرق الأوسط، تقوده قوى كبرى وفق منطق المصالح، لا المبادئ؛ فحرب الـ 12 يوماً كانت حربًا مدروسة بحدودٍ مرسومة، وليست انفجارًا عشوائيًا. بالحرب كانت اختبار قوة متبادل بين تل أبيب وطهران بإشراف غربي، وغطاءً إعلاميًا وسياسيًا لتمرير اتفاقات سرية وتغيير وقائع جيوسياسية.
من الرابح.. ومن الخاسر؟
الطرف الرابح هو الاحتلال الإسرائيلي لأنه حقق أهدافًا استراتيجية: إضعاف المقاومة، تكبيل إيران بحدود الردع، وشرعنة مزيد من العنف ضد غزة.. وكذلك النظام الإيراني لأنه خرج بـ "نصر معنوي"، عزز شرعيته الداخلية، وأثبت أنه قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها، والولايات المتحدة والغرب حيث أنهمكسبوا استقرارًا مؤقتًا في سوق النفط، وتوازنًا يضمن مصالحهم دون الانخراط المباشر في حرب كبرى.. أما الخاسر الأكبر فهو الشعب الإيراني والدول والشعوب العربية، وغزة والقضية الفلسطينية برمتها؛ نظراً لتدمير البنية التحتية، وتراجع القضية في إعلاميا، وتحييد الفاعلين الإقليميين الحقيقيين..
لماذا يُصِرّ الغرب على تمكين نظام الملالي وسلطات الاحتلال؟
سياسة “فرق تسد” القديمة بحُلةٍ جديدة
لا يريد الغرب شرقًا أوسط مستقرًا، بل يريد شرقًا أوسط منقسمًا، مشتعلًا يمكن التحكم فيه، ويرى الغرب أن وجود نظام طائفي في طهران يخدم بقاء الانقسام السني – الشيعي، ووجود احتلال في فلسطين يمنح ذريعة دائمة للتدخل، وإبقاء "الإرهاب" شماعة.
الاستفادة من إدارة الصراع واغتيال القضية الفلسطينية
إسرائيل وكيل استراتيجي مضمون، مهمته الحفاظ على المصالح الغربية، وكبح أي نهضة عربية. وإيران "بعبع" يمكن استغلاله لتخويف الخليج، وابتزاز العرب، وضمان استمرار صفقات السلاح والنفط.. فبعد انتكاسات "الربيع العربي"، لم يعد مطلوبًا فقط تجاهل القضية الفلسطينية، بل إعادة تعريفها.. حيث تُوصف غزة بالإرهاب، والمقاومة تُحاصر.. والفلسطيني يُجبر على الاستسلام تحت غطاء "السلام الإبراهيمي".
التواطؤ الصامت مع مشاريع المحو
الغارات على غزة ليست عسكرية فقط بل هي مشروع اقتلاع شعب، والصمت الدولي والتشويه الإعلامي هدفه كسر الروح قبل كسر الحجر. ولا يرى الغرب في القضية الفلسطينية قضية عادلة بل يراها عبئًا على صفقاته في المنطقة.
صراعٌ بلا نهاية؟
كشف التصعيد الأخير أن إسرائيل وإيران رغم استعراض العداء فيما بينهما يلعبان لعبة استراتيجية معقدة حيث يُضعف كل منهما الآخر دون الدخول في حرب شاملة، ومع ذلك فإن تكرار المواجهات يزيد من خطر انزلاق المنطقة إلى حرب واسعة خاصة مع وجود قوى دولية متورطة.. والسؤال الأكبر هو: هل يمكن كسر هذه الحلقة.. أم أن الوجهين سيظلان جزءًا من العملة نفسها إلى أجل غير مسمى؟
في النهاية يدفع المدنيون الأبرياء والعالم العربي ثمن هذه المعادلة، بينما تستمر الأجندات السياسية والعسكرية في الهيمنة على المشهد.
ما جرى هو مسرح سياسي دموي تُحرَّك فيه الأنظمة كقطع شطرنج، وتُمحى فيه المدن باسم "الردع"، وتُنسى فيه القضايا الإنسانية العادلة باسم "التوازن"، والغرب لا يدعم الملالي أو الاحتلال حبًّا بهم بل مصلحة في استمرارهم.. فكلما استمر الخوف يستمر السلاح، وكلما تلاشت فلسطين ضمِن الغرب خريطة لا تهدد مصالحه... والحقيقة المؤكدة دائما هي أن القضايا العادلة لن تُمحى بالصواريخ ولن تنتهي الشعوب الحرة بالتجويع.
د. سامي خاطر/ أكاديمي وأستاذ جامعي