وديع منصور يكتب لـ(اليوم الثامن):

فوبيا

ظلوا يمتصوا الهواء من رئتيه ، ثم رموها كاوراق ذابلة . هذا الذي يسمى بالشعب أصبح يتنفس بصعوبة إلى حد الإختناق . الهواء الملوث يزاحم دون رحمة ماتبقى من الاكسجين القليل لإستمرار رئتيه في الحياة . ما أصعب الإختناق حين يكون أكبر من قدرة الإنسان على فعل شئ . لكن هناك كائنات من هذا الشعب إستطاعت أن تتكيف مع الهواء الملوث وهم يعيشون على إستنشاق العفن . اللعنة على العفن حين يستوطن الهواء والعقول .

لم يعد جسده النحيل قادرا على الوقوف طويلا . وهو الآن في العقد السادس من عمره ، وأصيب بمرض غريب برئتيه التي يحملهما صدره الضيق ، واصبح يتنفس بمشقة لا تخفى على أحد . جسده نصف العاري دائما بات محترقا من لهيب الشمس ، يلف حول خصره النحيل جدا قطعة قماش طويلة متسخة ، وهواء الصيف الثقيل يؤلم رئتيه أكثر فأكثر ، يجلس القرفصاء في زاوية قذرة في حارته العتيقة ، ورأسه دائما منكس للأرض . كان يعمل مع الحكومة منذ سنوات بعيدة ، لكنه مازال يتذكر رائحة خشب المكاتب القديمة . جميع سكان حارته يعتقدون انه مريض في عقله وليس برئتيه . لكنه ليس كذلك ، فقط اصبج عقله لا يستوعب مايجري في مدينته التي لا تفارقها اللعنات ، وفي هذه البلاد التي يزداد تلوثها .. هذا جعله شخصا يعاني من صعوبة في التنفس كلما أراد إستخدام عقله . أقنع نفسه بأن الإستسلام أفضل من الجنون الكامل .

هذه البلاد ملوثة اكثر مما يجب . يضن الكثيرون فيها انهم يتنفسون الاكسجين لوحده ، والحقيقة أنهم يتنفسون الكثير من الخرافات والقليل فقط من الاكسجين . وفيما هم يتنفسون على هذا النحو أصبح العدد الأكبر منهم كقطيع مسلوب الإرادة ، وأخرون على وشك ان يفقدوا عقولهم .
في الشوارع التي تعود الناس المشي فيها ، أصبح بالإمكان رؤية المواشي المنزوعة الجلد وهي تمشي بالقرب منهم على قائمتيها الخلفيتين .
هل يمكن تقييم شئ على نحو منطقي حين يكون كل شئ غير منطقي . إيهام الشعب بأن صراعه الاساسي هو التصدي للهواء الملوث ، أفضل من إقتناعه بمواجهة من يلوثون الهواء . هذه وصفة جيدة ومجربة منذ عقود طويلة . ولا ضير في أن يصبح عقله يرى أشياء غريبة تمشي بالقرب منه ، وهو يحاول النجاة من الإختناق .