يمينة حمدي تكتب:
من يعطينا جارا بلا عينين
لا تبدو كلمة “التلصص” من الكلمات الرنانة التي تثير الاستحسان كلما سمعناها، لكن شئنا أم أبينا، فهي من السلوكيات البشرية المستشرية، والواسعة الانتشار وغير المرئية في بعض الأحيان. وتملك تأثيرا عميقا على مظاهر حياتنا، وقد تكون أحيانا مدمرة لها، والمشكلة تكمن في أن معظمنا لا يجيد التمييز بين المساحة الخاصة به وقد يستهويه كسر الحدود الفاصلة بينه وبين غيره، ولهذا ينطبق عليه القول الشائع من “تدخل في ما لا يعنيه نال ما لا يرضيه”.
قبل سنوات طويلة كانت إحدى الجارات في مسقط رأسي بتونس، لا تفارق شرفة منزلها وتجلس من الصباح إلى المساء ترمق المارة وعابري السبيل، وفي معظم الأحيان تنظر إلى الجيران بعين حاسدة وتعد عليهم مشترياتهم وتتطلع إلى معرفة ما يحملونه في سلالهم، وكانت أمي تستاء كثيرا منها وتقول “ربي يعطينا جار من غير عينين” كنت حينها أضحك إلى أن تفيض عيناي دموعا من هذا الموقف الذي يتكرر أمامي دوما، لكنني كنت آمل أن أعرف السبب الذي يجعل بعض الناس مولعين بالتلصص على الآخرين، بغض النظر عن الصورة النمطية السلبية المرتبطة بهذا السلوك.
يعزو بعض الخبراء سبب ذلك إلى ناحية بيولوجية، فمن الطبيعي أن يكون لدى الجميع رغبة في معرفة ما يدور حولهم من أخبار وأسرار، فذلك يمنحهم مجالا للتطوّر كبشر، لكن في عالمنا المعاصر باتت هنالك الملايين من العيون تختفي خلف عالم تكنولوجيا الإنترنت الذي نغرق فيه يوميا، ولا تتسلل فقط لإلقاء نظرة على صورنا أو تعليقاتنا، بل وتقتفي حركاتنا وسكناتنا، أين نذهب في العادة، ومن أين نتسوق، وأي نوع من المواقع الإلكترونية نزور؟.. وكلما قضينا وقتا أطول في هذا العالم المخيف، زاد عدد المتلصصين وزادت احتمالات تعرضنا للتنمر الإلكتروني والاستهداف والتهديد، وجميعها لا تقل تأثيرا عن العنف المعنوي والجسدي الذي قد يتعرض له البعض منا وجها لوجه.
يقول الكاتب النيوزيلندي نيكي هاغرن، في كتابه “الآذان المترصدة: كيف يتجسسون عليك”، إن “أكثر أنواع الاستخبارات قيمة وسرية وأكثرها غموضا هي الاستخبارات الإلكترونية”.
المشكلة الحقيقية تكمن في أن معظم الناس يعتقدون أن حياتهم الافتراضية وحياتهم الحقيقية واقعان متوازيان، ويفترضون دائما أنه بإمكانهم أن يكونوا مجهولي الهوية، فلا أحد يستطيع معرفتهم، أو يتتبع خطواتهم عن بعد، سواء كان شخصا أو جهات معينة، وهذا الشعور الداخلي بالأمان يدفع الكثيرين إلى نشر التفاصيل الحميمة لحياتهم الخاصة وتعليقاتهم وصورهم الشخصية بحرية وعلى نطاق واسع على الشبكة العنكبوتية مصحوبة بالموقع الجغرافي، وغالبا ما يكون ذلك بمحض إرادتهم، لكن العالم الافتراضي لا يخضع لقواعد أو معايير أخلاقية، لذلك تدعونا مدونة القيم الشخصية ألاّ نقبل على أنفسنا أن نمارس سلوكا في العالم الافتراضي، نرفضه أصلا في حياتنا الواقعية. تحت مبرر الاختفاء خلف أسماء وشخصيات وهمية.
يبدو أن من أهم التحديات التي أصبحنا نواجهها في عصرنا الحالي، هي كيف يمكننا أن نتمتع بحريتنا ونمارس حقنا في استخدام وسائل التكنولوجيا، وفي الوقت نفسه نحافظ على حقنا في الخصوصية الذي وجد منذ فجر الحياة البشرية.
يقول جون سولر، أستاذ علم النفس في جامعة رايدر في نيوجيرسي، وهو مؤلف كتاب بعنوان “نفسية الفضاء الإلكتروني”، “نحن نحتاج إلى ذات عامة لنعيش العالم الاجتماعي الخاص بالأسرة والأصدقاء، وزملاء العمل، والأقران، لكننا نحتاج أيضا إلى ذات خاصة، أي إلى مساحة داخلية يمكننا فيها أن نفكر ونعيش مع مشاعرنا وأفكارنا الخاصة بعيدا عن أي تأثير خارجي”.
ويضيف “هويتنا تتكون من الأمرين معا؛ الذات العامة والذات الخاصة. ومن دون إحداهما، يمكن لسعادتنا أن تتعرض بسهولة للتشويش”.
وبالنسبة لي شخصيا، أعتقد أننا نعيش في عصر يتطلب منا عدم تقديم أي تفاصيل شخصية حتى نكون متأكدين من كيفية استخدامها، والقليل من التعقل والمنطق، يفيدان دوما عندما يتعلق الأمر بأمننا وحياتنا الخاصة.