يمينة حمدي تكتب:
صور تذكارية بلا تذكار
لطالما كانت الصورة الفوتوغرافية شاهدا بارعا، ومنتصرا لجميع الحقائق، يرافق الناس عبر الزمن وفي مختلف مراحل العمر، ويوثق هذا الشاهد الملموس قضايا إنسانية مختلفة بأدق تفاصيلها، فعندما يعود معظمنا إلى ألبوم صوره القديمة بالأبيض والأسود أو حتى الملونة، يستحضر جميع الأطر الزمنية والمكانية التي التقطت فيها، ويسترجع عبر سفره ذهنيا كل التفاصيل التي مر بها والأحداث المختلفة التي عاشها، ولهذا قيل إن “الصورة خير من ألف كلمة”.
لكن، بين الأمس واليوم حدث تغير كبير في حياة الناس ومعه تبدل مفهوم وعلاقة الكثيرين بالصورة، وخصوصا بعد أن ساد ما يشبه “الإدمان” على التقاط الصور في المجتمعات العصرية.
لا يدرك معظم من يملأون حساباتهم الافتراضية بالآلاف من الصور حتى الإطار الزمني أو المكاني الذي التقطت فيه بعض الصور، وربما ما ينسونه من أحداث مرتبطة بها أكثر مما يتذكرونه، وأحيانا قد تغيب عنهم الأحداث التي وقعت من الأصل، رغم أن الصورة شاهدة على أنهم قد كانوا حاضرين هنا أو هناك.
علقت الباحثة في كلية “دارتموث” الأميركية إيما تملتون عن هذا الأمر بقولها “عندما يلتقط أحدنا صورة وهو يفكر بكيفية تفاعل آخرين معها، ستكون لدينا مشاعر أقل حدة مقارنة بمن يعيش التجربة لأجل ذاته، ويشعر بالعواطف الحقيقية، والتي ستجعله يتذكر الموقف بشكل أقوى”.
وتبدو الباحثة محقة فكثرة التقاط الصور، قد يمنع من تذكر العديد من الأحداث والتفاصيل التي من المفروض أن تبقى عالقة في الأذهان، وكلما زادت كمية الصور الملتقطة تداخلت الذكريات في الذاكرة، وتعتمت الأحداث المهمة والتجارب الحياتية، وقد يصبح من الصعب إعادة ترتيب الأحداث في الذاكرة وربطها ببعضها لاستحضار الوقائع والمواقف المختلفة.
الصور القليلة والملتقطة بعفوية والمرتبطة بأحداث هامة، تلعب دورا كبيرا في تحديد الطريقة التي نخزن بها الذكريات والكيفية التي نشعر بها تجاه الأحداث والأزمنة والأمكنة، ولولا قدرتنا على الربط ذهنيا بين ترسبات الماضي ومداها في الحاضر، لما استطعنا أن نخطط للمستقبل أو نستوعب عبر الحياة ودروسها وننطلق قدما، وقد كان أرسطو محقا بوصفه الذكريات بأنها أداة لتخيل المستقبل، وليست مجرد سجلات لحياتنا في الماضي.
لكن الأسوأ هو انتشار الصور المزيفة، التي شوهت الكثير من الحقائق، ففي الماضي كانت عمليات تزييف الصور مهمة عسيرة، وتتطلب براعة خارقة وجهدا ووقتا كبيرين، أما في عالم اليوم فقد أصبح من السهل التلاعب بكل شيء، حتى أن الكثير من الأكاذيب، باتت تصور على أنها حقيقة، عن طريق أساليب الخداع الرقمية والتقنية، ما ساعد على خلق عالم يسهل فيه الخلط بين الصور الحقيقية والصور الملفقة، ويصعب فيه التمييز بين الواقع والزيف.
مثل هذا الأمر قد يؤدي أيضا إلى تعزيز الذكريات الكاذبة، خصوصا عندما تحظى الصور المزيفة بأكبر عدد من إشارات الإعجاب على وسائل التواصل الاجتماعي ويتم تعميمها بين القاصي والداني، ما يجعل الزيف يطفو على الحقيقة، ويبقى في الذهن والذاكرة على نحو أكبر مما تبقى عليه الحقيقة.