يمينة حمدي تكتب:
الآداب العامة ليست عامة
شهدت السنوات الأخيرة زيادة سريعة في أعداد الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة. ورغم خطورة معظم هذه الأمراض على الصحة العامة للناس وإرهاقها لأنظمة الرعاية في مختلف دول العالم، إلا أن الكثير من المرضى لا يكتشفونها مبكرا أو تأخروا في علاجها، وفي كلتا الحالتين كان غياب التثقيف الصحي هو السبب.
عملية التوعية والتعريف بطبيعة بعض الأمراض وما تعنيه، يتم تدريسها للنشء في المؤسسات التربوية والمدارس في العديد من الدول الأوروبية اليوم، كما يفتح بشأنها باب الحوار داخل الأسر وعبر وسائل الإعلام، من أجل إتاحة الفرصة للناس لفهم الكثير من الجوانب الصحية والتحدث عنها بشكل أكثر انفتاحا ووعيا، ودون تابوهات، حتى يتم الحد من كلفتها المادية والصحية وإرهاقها النفسي.
المؤسف أنه بالرغم من حملات التوعية والتثقيف لا يتم تشخيص بعض الحالات الخطيرة -مثل الأورام- إلا بعد ظهور العلامات المؤكدة للمرض، ولو تم الكشف عنها مبكرا لكانت فرصة الشفاء أفضل، ولتمّ قطع الطريق على المرض قبل أن يستفحل.
حدثتني إحدى جاراتي الإنكليزيات ذات مرة عندما التقينا صدفة في أحد المقاهي المجاورة عن حالة والدتها التي تقض مضجعها، وتخشى أن تكون مؤشرا على إصابتها بالزهايمر المبكر.
ما تشتكي منه والدة جارتي هو نوع النسيان المؤقت، الذي يجعلها تتخيل مثلا أنها قد نسيت الموقد مفتوحا أو لم تغلق الحنفية، وبالرغم من ذلك لم تتردد جارتي ولو للحظة في عرضها على الأطباء المختصين، فأكدوا لها أن والدتها تعاني من مشاكل بسيطة في الذاكرة ناتجة عن كثرة الضغوط الحياتية، وليست مصابة بالزهايمر أو أي شكل آخر من أشكال الخرف.
ما يثير القلق بالنسبة إلى مجتمعاتنا العربية أن الكثيرين ينشأون في أوساط أسرية واجتماعية تعاني من الأمية الصحية
فاجأتني جارتي بثقافتها العالية وبما تعرفه عن مرض الزهايمر، لكن يبدو أن والدتها من المحظوظات كونها تعيش وسط أبناء يحيطونها بالرعاية وأصدقاء يحبونها وتقطن في مكان آمن يوفر لها سبل العلاج الضرورية.
ما قالته جارتي جعلني أسرح بذهني في حال الملايين الذين يعيشون في بلدان لا يحصلون فيها على الخدمات الصحية الأساسية، ويسود فيها عدم المبالاة بحجم ما يمكن أن يعانيه المصابون بالأمراض المزمنة من ألم ومشكلات، وفي معظم الأحيان تكون قلة أو انعدام حملات الإرشاد والتوعية بمخاطر هذه الأمراض، السبب الرئيسي في مآس صحية قد تعيق حياة المرضى وتصبح عبئا على الأسر ومجتمعات بأكملها.
رغم ما يتميز به البريطانيون من وعي صحي وقدرة مادية، فإن التثقيف الصحي والجنسي مدرج بشكل إجباري في المدارس، ودارت خلال هذا العام مناقشات عامة في البرلمان البريطاني بشأن تدريس مادة إجبارية للعناية بالصحة خلال فترة الطمث بحلول عام 2020، كما سيجري إدراج منهج دراسي يتناول مرحلة البلوغ في المرحلة الابتدائية، ودروسا عن العلاقات والجنس، تبدأ في المرحلة الثانوية. وتوفر المنظومة الصحية البريطانية أيضا معلومات وتدريبات للتصدي لمختلف الأمراض المزمنة، بالإضافة إلى جمعيات وشبكات دعم من أشخاص يمرون بنفس الحالة، لتقديم الإحاطة المعنوية للمرضى ومساعدتهم على تخطي محنهم المرضية.
ما يثير القلق بالنسبة إلى مجتمعاتنا العربية أن الكثيرين ينشأون في أوساط أسرية واجتماعية تعاني من “الأمية الصحية”، فلا يجدون من يقدم لهم الإرشاد والنصح ويجيب عن أسئلتهم المتراكمة بخصوص الكثير من المسائل، ولهذا فإن التوعية الصحية المدرسية قد أصبحت اليوم في منزلة الضرورة وليس “العيب” كما يظن البعض.
لكن المشكلة تكمن في أن الناس مازالوا يعيشون حالة معقدة من عدم التصالح والانفصال عن أجسادهم ومع عدة أمور صحية وجنسية طبيعية، فرغم الجهود المحدودة التي تقوم بها بعض الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني لتعميم المعلومة الصحية، لا يزال الحديث عن هذه الموضوعات أمرا شائكا وتحيط به ثقافة العيب والمحرمات.
أستحضر هنا مقولة شائعة للفيلسوف الفرنسي فولتير تفيد بأن “الآداب العامة ليست عامة بما يكفي دائما”، ومشكلتنا في المجتمعات العربية دائما تلك المظلة العامة، التي ليست سوى مجرد ضوابط اعتبارية ومثالية لا تحول دون وقوع المحظور.
مؤخرا ثارت “زوبعة في فنجان” بإحدى المدارس الحكومية الأردنية، تندد بما تضمنته مادة العلوم من نصوص قيل إنها “تتنافى مع القيم والبيئة الأردنية”، ووصل الجدل إلى منصات التواصل الاجتماعي، ما اضطر وزارة التربية إلى حذف تلك الدروس، وتغيير عناوين البعض الآخر.
هناك من الأولياء من ادعى أن تلك المقررات تحتوي على عبارات جنسية وكلمات خادشة للحياء، يصعب شرحها لطلبة لم تتجاوز أعمارهم العشر سنوات، رغم أن ذلك لم يتعد مجرد درس بسيط حول مراحل تكوين الزهرة، ولكنهم أولوه وفق ما يتناسب مع ثقافتهم التي تعتبر الأمر “عيبا”.
أعتقد أن أطفال اليوم هم أبناء مخلصون للإنترنت وعلى بعد نقرة واحدة من المواد الإباحية والجنسية، وإذا لم تُهيَّأ لهم بيئة واعية ومنفتحة، لتعرفهم بما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، فإنهم سيكونون معرضين للاعتداءات والإغراءات والوقوع في الخديعة، وإن وقع ذلك سيدفنون شعورهم بالخزي والحرج في داخلهم، بل قد يوجهون اللوم إلى أنفسهم تحسبا للوم الآخرين، وينتهي الحال بهم إلى الإصابة بأزمات نفسية وصحية والشعور بالوصم الاجتماعي، في حين أن كل ما كانوا يحتاجونه هو بعض التجارب والنصائح من بيئتهم الأسرية والاجتماعية.