يمينة حمدي تكتب:
فجوة سحيقة بين الأنا والآخر
هل أنصفتك الحياة؟ سؤال إذا طرحناه على الكبير والصغير والمريض والمعافى والغني والفقير والمرأة والرجل… حتما ستكون الإجابة باتهام الحياة بأنها لم تنصفهم، وسيكون الحظ العاثر العبارة الوحيدة التي ستلوكها الألسن على الأرجح.
الإجابة غير مستغربة، فنحن اليوم نعيش وسط عالم يطغى على سكانه الإحباط والضيق النفسي، بفعل انشغال الناس بعقد مقارنات عقيمة بينهم وبين غيرهم، ما يغذي لديهم إحساسا عميقا بعدم الرضى عن الحياة، قد ينتقل كالعدوى الفيروسية من هذا إلى ذاك.
وتكمن المشكلة في أن الناس لا يعقدون مقارنات بينهم وبين الأشخاص المحيطين بهم في الواقع فحسب، بل تمتد هذه المقارنات لتشمل أشخاصا في مواقع التواصل الاجتماعي، ربما لم يلتقوهم أبدا في حياتهم، ما يؤدي إلى الشعور بالحسد، وتدهور الحالة المزاجية.
وقد عبر هيلودوراس في روايته الإغريقية “أثيوبيكا”، عن هذا السلوك السلبي بأسلوب بليغ حين قال “عندما ينظر الشخص بعين حاسدة لشيء مميز يمتلئ المكان بغضا وكراهية، ويرسل سهامه المسمومة فيصيب بها أقرب الناس إليه”.
جميع البشر تقريبا، يشعرون بالحسد والغيرة من الآخرين في أوقات معينة على مدى حيواتهم، لكن رغم أن هذه السلوكيات قد تبدو أمرا طبيعيا وشائعا بين الناس، إلا أنها يمكن أن تحمل آثارا مدمرة على أصحابها، وقد تمتد إلى حد التأثير على حيواتهم كليا، وحتى على صحتهم النفسية والجسدية.
هناك من الخبراء من ينظر إلى مصطلحي الغيرة والحسد على أنهما من المرادفات التعبيرية لشيء مماثل، لكن ذلك ليس صحيحا، من وجهة نظر يوكي كوهين شاراش، الباحث في علم النفس بجامعة نيويورك.
فالغيرة -وفق ما ذهب إليه الباحث شاراش- هي شعور يحس به الشخص عندما يخاف من أن يفقد شيئا يملكه، أما الحسد فهو شعور ينتاب الشخص عندما يرى شيئا عند غيره ويريده لنفسه.
الحسد قد يخلق فجوة سحيقة بين الأنا والآخر الذي يُنظر إليه على أنه الأفضل، فتصبح رغبة الشخص الحاسد إما تقليص تلك الفجوة بأن يحتل هو المرتبة العليا، وإما نزول الطرف الآخر إلى مستواه، فلا تكون بالتالي هناك أفضلية بين الطرفين.
ويعتقد علماء النفس أن نظرة الإنسان لنفسه هي التي تحدد مدى ميله إلى الحسد، فالأشخاص الذين لديهم مفهوم منخفض للذات أكثر عرضة لهذا المرض النفسي.
وقبل سنوات قليلة مثلت مجلات الموضة ووسائل الإعلام التي تنشر صورا لنجمات وعارضات أزياء يتمتعن بقوام رشيق، وأخريات يتم تعديل صورهن باستخدام برامج الفوتوشوب ليبدون أكثر جمالا، مصدر ضغط شديد على الكثير من النساء والفتيات بسبب ما تعززه لديهن من إحساس بالنقص تجاه ذواتهن.
وفي عصرنا الحالي باتت وسائل التواصل الاجتماعي أيضا مصدرا رئيسيا للقلق والتعاسة جراء ما تحدثه من تأثير مماثل، إذ تساهم في جعل أكثر من نصف مستخدميها غير راضين عن أشكالهم، وفقا لاستطلاع أجرته مؤسسة “سكوب” للأعمال الخيرية لخدمة المعاقين. إذ يقول نصف هؤلاء ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما، إن هذه المواقع تجعلهم يشعرون بأنهم لا يتمتعون بأي جاذبية.
وفي دراسة أجراها باحثون بجامعة “بن ستيت” الأميركية عام 2016، توصل فريق البحث إلى أن رؤية صور السيلفي لأشخاص آخرين تقلل من الاعتداد بالنفس لدى المستخدمين، لأنهم يقارنون أنفسهم بمثل هذه الصور التي تظهر مدى سعادة أصحابها.
من الواضح أن معظم رواد المواقع الاجتماعية يُجرون عملية مقارنة غير منطقية بين حياتهم وحياة الآخرين، رغم أن تلك الصور التي يشاهدونها والتعليقات التي يقرأونها ليست سوى قشرة خارجية، وربما لا تحمل أي وجه شبه بينها وبين الواقع الحقيقي، وحتى وإن كانت حقيقية، فلكل إنسان حياته الشخصية، وأخذ موقعه أمر خارج عن الإرادة.
لذلك فبدل أن نحسد غيرنا، لماذا لا نحاول النظر إلى ما عندنا من نعم في الحياة غير قابلة للقياس الكمي والمادي، ونفكر مليا في كم نحن محظوظون مقارنة بالملايين الذين يفتقدون ما نمتلكه.