عدلي الصادق يكتب:

إلى حضيض الإثارة

ينزاح الكثيرون من محبي الموسيقى، عن الضجيج المتفشي، بالنَفَس القصير والصخب العالي والتعابير الهابطة، ويرونها رِدة فنية. وكانت رحلة الألحان العربية، قد غادرت القوالب الموسيقية التركية منذ نحو القرن، في سياق بلورة الشخصية العربية المستقلة. اختلفت الأدوات وإيقاعات النغم لترافق حلم التحقق الوطني والانخلاع من أنماط العصور الوسطى، وشَكّل ذلك الحُلم، إلهاما لروح الفنان العربي ومخيلته، فيما هو يخرج من قوالب الماضي التركي وإيقاعات موسيقاه الصاخبة رديفة الإنكشارية، لكي يصنع لحنه بذائقته، ويبدأ رحلة الألحان الرائقة.

كأنما الموسيقى، صوت الأغنية، يُحاكيان أزمان الناس، حتى بدا الفن الغنائي، في فترات الحلم والتفاؤل، بديعا آسرا، بطبقات الصوت مع الأخذ ببعض التقنية الغربية الهادئة، والانتقال السريع السلس، من درجات الطبقة المنخفضة من الصوت إلى أعلاها في جملة واحدة، وهذا ما يجعل اليوم، تعبير الزمن الجميل قيد التداول!

في ذلك الزمن الجميل، انتشرت الأغنية النظيفة التي التزمت الشاعرية والتعابير المهذبة التي أعلت من شأن الحب وتغنت بالوطن، وحملتها إلى الآذان ألحانٌ شجيّة. ربما يكون الصحو، هو أحد سمات الزمن الجميل والروح التي تهفو إلى العُلا، أما الضجيج فهو قرين التخدير والارتكاس والتمزق الروحي!

تلعب الأغنية الهابطة، اليوم، دورا في إثارة الغرائز وانفعالات البهجة الموهومة، التي يتخللها قرع الطبول وتردي اللحن والكلمات والإيقاع. والمتبرمون من هذه الموجة، وجدوا أنفسهم يعودون إلى الألحان الرائقة، التي تبثها موجات إذاعية مقاومة للطوفان. وبات المستمع العربي الواعي، يستعيد أم كلثوم وفيروز وغيرهما، لكي يستمتع بالأنغام الرصينة، التي رادفت عملية تبلور الشخصية العربية المستقلة.

في العشرية الأولى من القرن المنصرم، وقبل ظهور النُخب الاستقلالية العربية في السياسة؛ ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر، النخب الفنية التي عملت حثيثا على الخروج من الحقب المملوكية والتركية، وارتياد آفاق الوطنيات العربية، وتأسست مدارس موسيقية متعاقبة، افتتحها الملحنان والمغنيان الرائدان محمد عثمان وعبده الحامولي، ثم ظهر الشيخ المسلوب، بالموشحات، قبل أن يسطع نجم سيد درويش الذي رافقه في زمنه فنانون من كافة أطياف المجتمع وأديانه وأقلياته العرقية في مصر، وذلك في الفترة التي كانت فيها مصر مركز الحركة الفنية الحديثة الناهضة.

بات العالم العربي اليوم للأسف، مركزا لكل انعكاسات التردي على مستوى الموسيقى. فمثلما انزلق العرب من الماضي الاستعماري إلى الحلم والمستقبل، أصبح الراهن ينزلق إلى ما قبل الماضي، ليلتحم بأشكال فنية وتعبيرية، تهبط بقضية الحب المهيبة الرقيقة في الأغنية، إلى حضيض الإثارة والسماجة!