الغموض النووي الإسرائيلي يهدد استقرار الشرق الأوسط..
سر نووي تحت رمال النقب: تكثيف البناء في منشأة ديمونا يثير القلق الدولي
هذا الموقع الذي ظلّ لعقود قلب برنامج إسرائيل النووي السري، يكشف اليوم عن نشاط جديد يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة المشروع وأهدافه، خاصة أنه يأتي بعد أسابيع قليلة من الضربات الإسرائيلية–الأمريكية التي استهدفت منشآت نووية في إيران.

صور الأقمار الصناعية تظهر أعمال البناء

تُظهر صور أقمار صناعية حديثة أعمال بناء متسارعة تحت رمال صحراء النقب في منشأة نووية إسرائيلية سرية، مما أثار تكهّنات حول مشروع غامض قد يُحدث عاصفة دبلوماسية إن صح وجوده. فقد كشفت الصور عن منشأة جديدة رئيسية بالقرب من مفاعل ديمونا النووي، يُعتقد أنها جزء من برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي الذي لطالما أحاطته إسرائيل بالسرية والتكتم. يأتي هذا التطور بعد أسابيع قليلة فقط من قيام إسرائيل والولايات المتحدة بقصف مواقع نووية في أنحاء إيران في يونيو/حزيران الماضي، بذريعة الخشية من سعي طهران لامتلاك سلاح نووي – الأمر الذي يسلط الضوء على حساسية هذه الخطوة الإسرائيلية واحتمال تعرضها لانتقادات دولية تتهمها بازدواجية المعايير. وقد جددت هذه الأعمال الإنشائية التساؤلات حول الوضع النووي لإسرائيل؛ فرغم الاعتقاد واسع النطاق بأنها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك ترسانة ذرية، لا تزال تل أبيب تتبع سياسة الغموض برفضها تأكيد ذلك رسميًا أو نفيه.
طبيعة المنشأة الجديدة وتكهنات الخبراء
وفقًا لخبراء حلّلوا صور الأقمار الصناعية، يتصل البناء الجديد في موقع ديمونا ببرنامج إسرائيل النووي العسكري السري، نظرًا لقربه الشديد من المفاعل وعدم وجود أي استخدام مدني للطاقة في المنشأة. لكن الآراء انقسمت حول ماهية هذا المشروع النووي الجديد. فقد رجّح ثلاثة من الخبراء أن تكون إسرائيل بصدد تشييد مفاعل ماء ثقيل جديد، مستندين إلى موقع منطقة الحفر وحجمها الكبير وظهورها وكأنها متعددة الطوابق. ومعلوم أن مفاعلات الماء الثقيل قادرة على إنتاج عنصر البلوتونيوم ومواد أخرى أساسية لصنع القنابل الذرية. في المقابل، أشار أربعة خبراء آخرين إلى أن المنشأة قد تكون فعلًا مفاعلًا جديدًا، لكن ربما يكون الغرض منها إنشاء مرفق تحت الأرض لتجميع الرؤوس النووية وصيانة القنابل الموجودة بدلًا من مفاعل تشغيل. وقد أحجم هؤلاء عن إصدار حكم قاطع نظرًا لأن البناء لا يزال في مراحله المبكرة. ويرى بعض المختصين أن التفسير الأكثر منطقية هو أنها منشأة مفاعلات نووية جديدة؛ إذ قال جيفري لويس –خبير في مركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار النووي– إن المبنى "على الأرجح مفاعل... من الصعب تخيّل أنه شيء آخر" نظرًا لموقعه وتاريخ مركز ديمونا. هذا التأكيد يعززه تقادم مفاعل ديمونا الحالي الذي يعمل منذ ستينيات القرن الماضي، ما يجعل إنشاء مفاعل جديد أمرًا متوقعًا لضمان استمرار برنامج إسرائيل النووي لعقود مقبلة.
أعمال البناء وتسارُع وتيرتها منذ 2021
أظهرت صورةٌ التقطتها الأقمار الصناعية المركزَ النووي الإسرائيلي في ديمونا بصحراء النقب، حيث يتوسط المفاعل ومرافقه المختلفة مجمع المنشأة وسط المنطقة الصحراوية الواسعة. في عام 2021، كانت وكالة أسوشييتد برس أول من أورد نبأ وجود حفريات واسعة في هذا الموقع، على بُعد نحو 90 كيلومترًا جنوب القدس. حينها بيّنت الصور الجوية عمالًا يحفرون حفرة ضخمة بطول يناهز 150 مترًا وعرض 60 مترًا تقريبًا، بجوار المفاعل النووي الأصلي العامل بالماء الثقيل. أما الصور الملتقطة بتاريخ 5 يوليو/تموز 2025 بواسطة شركة بلانت لابز (Planet Labs PBC)، فكشفت عن تكثيف كبير لأعمال البناء في موقع الحفرة. لقد ارتفعت جدران خرسانية سميكة في الموقع، وبدا أن الهيكل الإنشائي يمتد عبر عدة طوابق تحت الأرض، مع ظهور رافعات بناء شاهقة تعمل في المكان. وحتى الآن لا يُرى أي هيكل قُبّة احتواء أو معالم أخرى تُميّز عادةً مفاعلات الماء الثقيل الجديدة، إلا أنه من الممكن إضافة مثل هذا العنصر لاحقًا أو أن التصميم قد تم بدون قبة ظاهرةapnews.com. يشير ذلك إلى أن المشروع لا يزال في طور الإنشاء ولم يكتمل بعد، مما يُبقي طبيعة المنشأة النهائية مفتوحة للتخمينات.
دوافع وأهداف المشروع المحتمل
إن التشغيل الطويل لمفاعل ديمونا الحالي (أكثر من ستة عقود) جعل خبراء الطاقة النووية يرجحون الحاجة إلى استبداله أو تجديده قريبًا. فإذا كان البناء الجديد عبارة عن مفاعل ماء ثقيل، فقد يكون الهدف الأساسي هو الحفاظ على قدرة إسرائيل على إنتاج المواد الانشطارية اللازمة للأسلحة النووية لعقود قادمة. وتُستخدم مفاعلات الماء الثقيل عادةً لإنتاج البلوتونيوم – العنصر الانشطاري الأساسي في قلب القنابل الذرية – وكذلك إنتاج التريتيوم الذي يُضاف إلى بعض الرؤوس النووية لزيادة قوتها التفجيرية. وبخلاف البلوتونيوم الذي يمكن تخزينه لفترات طويلة، فإن مادة التريتيوم تتميز بعمر نصف قصير نسبيًا، حيث يتلاشى نحو 5% منها سنويًا بسبب التحلل الإشعاعي. لذلك يحتاج أي برنامج نووي يعتمد عليها إلى تجديد مخزونه بصورة دورية. من هذا المنطلق، يرى بعض الخبراء أن إسرائيل ربما تسعى من خلال المنشأة الجديدة إلى إنتاج المزيد من التريتيوم لتعويض الانخفاض المستمر في مخزونها المستخدم ضمن رؤوسها النووية. وقد أشار داريل كيمبال، المدير التنفيذي لجمعية ضبط الأسلحة، إلى أن بناء مفاعل جديد في ديمونا ربما يهدف أساسًا إلى تصنيع التريتيوم لضمان فاعلية الترسانة الحالية، وليس بالضرورة زيادة عدد القنابل. وقد أكد أيضًا أن وجود مفاعل ماء ثقيل جديد يعني قدرة مستمرة على إنتاج البلوتونيوم الذي يمكن معالجته للحصول على المزيد من المواد اللازمة لصنع الأسلحة النووية أو لصيانة الترسانة الحالية وبناء رؤوس حربية إضافية إذا لزم الأمر.
على جانب آخر، طرح خبراء ومسؤولون إسرائيليون سابقون تفسيرات مغايرة لطبيعة هذا المشروع النووي. فقد رجّح يوزي إيفين –وهو عالم نووي سابق عمل في مفاعل ديمونا– أن الحفريات ربما تهدف إلى إنشاء موقع جديد للتخلص من النفايات المشعة المتراكمة عبر عقود تشغيل المفاعل. بينما اعتبر الخبير أفنير كوهين أن أعمال البناء قد تكون لغرض المحافظة على الوضع القائم للقدرات النووية الإسرائيلية أكثر من كونها خطوة لزيادة القوة النووية الهجومية. كما أثارت صحيفة جيروزاليم بوست احتمال أن تكون هذه الإنشاءات مرتبطة بتحسين التحصينات الدفاعية للمنشأة، خاصة في ظل تهديدات فصائل مثل حزب الله وإيران باستهداف مفاعل ديمونا في أي مواجهة مقبلة. وقد أكد مدير لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية في تصريح عام 2018 حاجة بلاده لاتخاذ إجراءات إضافية لتأمين موقع ديمونا ضد الصواريخ والتهديدات المعادية الأخرى. هذه الفرضيات البديلة تشير إلى أن بعض المراقبين داخل إسرائيل يرون المشروع ضمن إطار دفاعي أو بيئي (سلامة وأمان المنشأة) بدلاً من كونه توسعًا نوعيًا في قدرات التسلح النووي.
سياسة الغموض النووي وردود الفعل
تنتهج إسرائيل منذ عقود سياسة "الغموض النووي" فيما يتعلق بترسانتها؛ فهي لا تؤكد ولا تنفي امتلاك الأسلحة النووية، وتُبقي برنامجها خارج أي التزامات قانونية دولية. إذ تُعد إسرائيل واحدة من بين أربع دول فقط لم تنضم إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (إلى جانب الهند وباكستان وكوريا الشمالية)، وبالتالي فهي غير ملزمة بالسماح بتفتيش منشآتها النووية من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ووفقًا لذلك، لا يتمتع مفاعل ديمونا ومحيطه بأي رقابة دولية، مما يفرض ستارًا من السرية يجعل المعلومات المستقاة عن المشروع معتمدة بالأساس على صور الأقمار الصناعية والتسريبات العرضية. وقد امتنعت الحكومة الإسرائيلية عن التعليق رسميًا على ما كشفته صور الإنشاءات الأخيرة، ولم يصدر عنها أو عن البيت الأبيض –الحليف الرئيس لها– أي رد عندما طُلب منهما التعقيب. هذا الصمت الرسمي يعزز حالة الغموض المحيطة بالمشروع ويزيد من صعوبة التأكد من أهدافه الفعلية.
على الصعيد الدولي، سلط هذا الكشف الضوء مجددًا على قضية ازدواجية المعايير في التعامل مع الانتشار النووي في الشرق الأوسط. فبينما تمتلك إسرائيل ترسانة نووية غير معلن عنها تقدرها بعض المصادر بحوالي 90 رأسًا حربيًا نوويًا (وقد أشارت صحيفة إسرائيلية إلى إنتاج ما يكفي لنحو 200 سلاح نووي على مدار عقود تشغيل ديمونا)، نادرًا ما تواجه تل أبيب انتقادات علنية من الدول الغربية بشأن برنامجها. في المقابل، أي تحرك أو شبهة في برنامج إيران النووي تُقابل بتنديد واسع وعقوبات دولية صارمة، وكأن هناك قبولًا ضمنيًا بأن لإسرائيل حقًا استثنائيًا في امتلاك الردع النووي بينما يُحرّم ذلك على إيران. وقد عبّر وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف عن هذه المفارقة بوضوح عندما علّق على تقارير توسعة ديمونا عام 2021؛ حيث غرّد عبر تويتر قائلاً إن "إسرائيل توسّع مصنع ديمونا، وهو مصنع القنابل النووية الوحيد في المنطقة"، موجّهًا سؤاله إلى قادة الولايات المتحدة وأوروبا حول مدى قلقهم وإمكانية تعليقهم على الأمر. سعى ظريف من خلال تصريحه هذا إلى إحراج القوى الدولية بتسليط الضوء على صمتها حيال برنامج إسرائيل النووي مقابل استنفارها اتجاه برنامج إيران، في اتهام صريح لها بالنفاق والكيل بمكيالين.
في المحصلة، إن المشروع الغامض الجاري تحت رمال النقب يعكس سعي إسرائيل إلى ضمان تفوقها النووي النوعي أو على الأقل الحفاظ على قدراتها الحالية في المستقبل المنظور. سواءً كان الهدف بناء مفاعل جديد لإنتاج مواد انشطارية أو إقامة منشأة لتحديث الترسانة وتجميع الأسلحة، فإن النتيجة واحدة: إسرائيل تعزز موقعها كقوة نووية وحيدة (ومسلمة الأمر واقعًا) في الشرق الأوسط. ويأتي ذلك في وقت يستمر فيه النقاش الدولي حول منع الانتشار النووي مركزًا على دول أخرى. إن استمرار هذه الأعمال سرًا وبمعزل عن أي شفافية دولية يطرح تحديات خطيرة أمام جهود ضبط سباق التسلح النووي الإقليمي، ويزيد من صعوبة تحقيق شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية في المستقبل المنظور. ومع تكشف مزيد من التفاصيل عبر صور الأقمار الصناعية أو غيرها، سيبقى المجتمع الدولي مراقبًا بحذر لهذا "السر النووي" الإسرائيلي وسط بيئة إقليمية مشحونة بالشكوك والمخاوف.