إفريقيا في الرؤية الإماراتية..

CEPA الإماراتية–الأنغولية: هل تمثل بداية محور اقتصادي جديد يعيد صياغة العلاقات العربية–الإفريقية؟

«الرسالة الأبرز من زيارة لواندا أن الإمارات لم تعد تنظر إلى إفريقيا كسوق واعدة فقط، بل كشريك استراتيجي طويل الأمد. فـاتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) بين الإمارات وأنغولا تمثل بداية محور اقتصادي جديد قد يعيد رسم ملامح النفوذ في جنوب وغرب القارة. إن اختيار أنغولا – الدولة الغنية بالموارد والواعدة بالأسواق – يعكس رؤية إماراتية واضحة للتموضع في قلب المنافسة الدولية على إفريقيا»

اتفاقية الشراكة الشاملة بين الإمارات وأنغولا خطوة نحو إعادة تشكيل موازين التنمية والاستثمار في إفريقيا - وام

حنين فضل
صحافية وباحثة في مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات- خريجة بكالوريوس حقوق & اقتصاد وعلوم سياسية - جامعة عدن.
أبوظبي

انطلقت يوم 24 أغسطس 2025 بالعاصمة لواندا زيارة تاريخية لرئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان (حفظه الله) إلى أنغولا، حيث استُقبل استقبالا رسميا في القصر الرئاسي بحضور الرئيس الأنغولي جواو لورينسو وحرس الشرف، مع إطلاق 21 طلقة مدفعية تكريما للزيارة. وجاء في البيان الرسمي أن الزيارة تهدف إلى بحث سبل تعزيز التعاون التنموي والاقتصادي المشترك بين الإمارات وأنغولا، بما يخدم مصالح شعبيهما. ويرافق صاحب السمو وفد رفيع المستوى من الوزراء وكبار المسؤولين، تعبيرا عن حرص القيادة الإماراتية على تطوير هذه الشراكات في شتى المجالات.

 

امتدت فعاليات الزيارة رسميًا يومي الأحد والاثنين (24–25 أغسطس 2025). فقد بدأت الأحد بمراسم استقبال رئاسي في مطار لواندا، ثم انتقل صاحب السمو إلى القصر الرئاسي حيث صافح كبار المسؤولين الأنغوليين برفقة الرئيس لورينسو. كما عقد الطرفان جلسة مباحثات رسمية جمعت القادة وكبار الوزراء الإماراتيين والأنغوليين. وفي اليوم الثاني شهدت الزيارة تبادل اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات وأنغولا وتوقيع عدد من مذكرات التفاهم المشتركة، ليختتم سموه زيارته مؤكداً أهمية هذه الشراكات ومؤكداً تطلع الإمارات لمزيد من التعاون في المرحلة القادمة.

ركزت القمة الثنائية بين الشيخ محمد بن زايد والرئيس لورينسو على تعميق أوجه التعاون التنموي بين البلدين. فقد أكد صاحب السمو أن العلاقات الإماراتية–الأنغولية تشهد «تطوراً متواصلاً» وحرص على تطويرها في القطاعات الحيوية مثل الطاقة والتكنولوجيا والزراعة والأمن الغذائي والخدمات اللوجستية. وشدد على ضرورة زيادة الاستثمار في هذه المجالات لدعم الأولويات التنموية للطرفين، مستعرضاً سعي الإمارات لمد جسور التعاون في الشراكات التنموية باعتبارها «الطريق نحو تنمية الشعوب وازدهارها». 

من جانبه وصف الرئيس لورينسو هذه الزيارة بالتاريخية، مثمناً دور الشركات الإماراتية في دعم الاقتصاد الأنغولي وخلق فرص عمل للشباب، ومشيراً إلى أن الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة ستعزز الروابط في مجالات الطاقة المتجددة والزراعة والخدمات اللوجستية وغيرها. كما تطرق الجانبان إلى القضايا الإقليمية والدولية محل الاهتمام المشترك، متفقين على أهمية الاستقرار والتنمية في خدمة مصالح شعوب القارتين.

جاءت الزيارة حافلة بالاتفاقيات الهادفة إلى توسيع التعاون الاقتصادي. فتشمل الخطوة الأبرز اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) التي وقّعها الطرفان، وترمي إلى إلغاء أو تخفيض الرسوم الجمركية وتسهيل حركة السلع والخدمات بين البلدين، وهي خطوة من شأنها دفع نمو التجارة الثنائية وفتح أسواق جديدة للمستثمرين. بالإضافة إلى ذلك، جرى تبادل عدة مذكرات تفاهم تعاون في مجالات استراتيجية، من أبرزها:

الذكاء الاصطناعي والتقنية الرقمية: مذكرة تفاهم للتعاون في حلول الذكاء الاصطناعي وتبادل الخبرات التقنية.

القطاع المالي والمصرفي: مذكرة تفاهم بين المصرف المركزي الإماراتي والبنك الوطني الأنغولي لتعزيز الاستقرار المالي وتيسير التعاون المصرفي.

الزراعة والأمن الغذائي: مذكرة تفاهم بين شركة «الظاهرة» الإماراتية ووزارة الزراعة الأنغولية لتنفيذ مشاريع زراعية مشتركة تدعم الأمن الغذائي.

إضافة إلى ذلك، أعلن الطرفان حزمة واسعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم تشمل المشاورات السياسية والدبلوماسية والسياحة والاستثمار والطاقة المتجددة والثقافة والتعليم والتغير المناخي وغيرها. وتعكس هذه الوثائق الاهتمام بتوسيع آليات التعاون في شتى المجالات التنموية. ويُذكر أن حجم التجارة غير النفطية بين البلدين بلغ نحو 2.17 مليار دولار في 2024، مع نمو بنحو 29.7% خلال النصف الأول من 2025، ما يعكس الزخم المتزايد في العلاقة الاقتصادية ويضفي زخماً على آفاق التعاون بعد توقيع هذه الاتفاقيات.

 

بدأت العلاقات الإماراتية-الأنغولية بعد تأسيسها عام 1997 بالتطور التدريجي، لكن أهميتها ارتفعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. فقد قام الرئيس لورينسو بثماني زيارات إلى الإمارات منذ عام 2017، شملت الاجتماعات الرئاسية وقمم التعاون، ما مهد لإرساء قواعد شراكة استراتيجية. وأبرمت بين البلدين عدة اتفاقيات ثنائية في السابق، منها اتفاقات لحماية الاستثمار، ومنع الازدواج الضريبي، وتطوير النقل الجوي، ما وفر إطاراً قانونياً قوياً لتعزيز التبادل الاقتصادي.

وتتطلع الإمارات إلى أن تصبح شريكاً تنموياً محورياً في إفريقيا بأسرها، وقد اختارت أنغولا لهذا الغرض لفوائده الطبيعية والموقع. فأنغولا من الدول الغنية بالنفط والمعادن النادرة، وهي ثاني أكبر اقتصاد في أفريقيا جنوب الصحراء، ويبلغ نموها الاقتصادي نحو 4.4% في 2024. كما أن موقعها الاستراتيجي على ساحل المحيط الأطلسي يجعلها بوابة لوجستية مهمة في جنوب وغرب إفريقيا. واستفادت الإمارات من هذه الميزات، من خلال استثمارات كبيرة في مشروعات الطاقة والبنية التحتية والموانئ والاتصالات داخل أنغولا، انسجاماً مع رؤيتها الرامية إلى دعم الاستقرار والتنمية في القارة الأفريقية.

 

يبلغ حجم التجارة الثنائية غير النفطية نحو 2.17 مليار دولار (2024)، مع توجه الإمارات لتوسيع نطاق صادراتها الصناعية والبترولية (كتقطيرات نفطية وعجائن معدنية وأجهزة صناعية)، بينما تستورد الإمارات في المقابل مواد خام أنغولية مثل الألماس والذهب والمعادن الصناعية. وتشمل هذه التجارة الإعفاءات الجمركية أو التسهيلات التي ستعززها اتفاقية CEPA. ويتجاوز حجم الاستثمارات المشتركة 6.5 مليار دولار، حيث شاركت شركات إماراتية كبرى في مشاريع حيوية على أرض أنغولا. فمثلاً، تستثمر الإمارات في مشاريع ربط الكهرباء والمياه وشبكات الاتصالات، وتعمل على تطوير مناطق حرة جديدة بالشراكة مع حكومات محلية. وتهدف هذه المشاريع إلى نقل الخبرة الإماراتية وتعظيم الجدوى الاقتصادية للطرفين، خاصة في القطاعات المستقبلية.

 

برزت خلال التعاون مشروعات حيوية في مجالات الطاقة والصحة والزراعة وغيرها:

 الطاقة المتجددة والمياه: تنفذ شركة أبوظبي لطاقة المستقبل «مصدر» مشروع محطة شمسية كبرى بقدرة 2 غيغاواط في أنغولا، ضمن جهود البلدين للتحول إلى الطاقة النظيفة. كما تنفذ الإمارات مشاريع لتحلية المياه وإعادة تدويرها عبر شراكات حكومية، بهدف دعم التنمية المستدامة وتلبية الطلب المتزايد على موارد المياه.

الصحة: أطلقت الإمارات عبر مبادرة «دوكتور» الطبية البحرية شحنة تحتوي على 800 ألف قرص دواء أساسي متنوعة (مضادات حيوية ومسكنات وأدوية ضغط ونزلات برد وغيرها) دعماً للقطاع الصحي الأنغولي. تأتي هذه الخطوة ضمن حزمة مساعدات إماراتية كبيرة للقطاع الصحي في إفريقيا (تجاوزت 220 مليون دولار)، شملت إرسال مركبات إسعاف وتجهيزات طبية لتنمية القطاع الصحي في أنغولا ودول أخرى.

الزراعة والأمن الغذائي: استثمرت الإمارات مبالغ ضخمة في تهيئة الأراضي الزراعية. فقد وقّعت «دبي للاستثمار» مذكرة تفاهم مع «E20 Investment» لاستصلاح 3750 هكتارًا لزراعة الأرز والأفوكادو. وذكرت شركة «الظاهرة» أنها ستستثمر نحو 500 مليون دولار لإنشاء مشاريع زراعية ضخمة في أنغولا، تشمل استصلاح 70–100 ألف هكتار وتوظيف نحو ألف عامل زراعي. يسهم هذا الاستثمار في تعزيز الأمن الغذائي الإقليمي ودعم إمدادات الغذاء المحلول.

البنية التحتية والخدمات اللوجستية: توسعت الإمارات في تطوير الموانئ والمناطق الاقتصادية الأنجولية. فقد أمّن جهاز أبوظبي للموانئ عقد امتياز مدته 20 عاماً لتحديث وتشغيل محطة لواندا متعددة الأغراض باستثمار مبدئي 251 مليون دولار، ما يجعل هذه المحطة عقدة حيوية للتجارة الأفريقية. كما تعمل شركات إماراتية على تطوير وإدارة مرافق لوجستية حيوية، بما يعزز من قدرة أنغولا على استقطاب التجارة الدولية ويخدم سلاسل الإمداد الإقليمية.

التكنولوجيا والابتكار: شملت التعاون مذكرة تفاهم في مجال الذكاء الاصطناعي لتبادل الخبرات الرقمية، وأطلقت الإمارات مبادرات لبناء بنية تحتية رقمية حديثة في أنغولا. فقد مولت أبوظبي إنشاء مراكز بيانات ومنصة للحوسبة السحابية بقيمة 445 مليون درهم، كما تواصل الإمارات دعم برامج التعليم الرقمي في المناطق الريفية (مثل مشروع «المدرسة الرقمية») لنشر التعلم الإلكتروني. وتفتح هذه الجهود أفاقاً لتوظيف تقنيات الثورة الصناعية الرابعة في القطاعات الزراعية والصحية والتعليمية.

 

تؤشر هذه الزيارة إلى الالتزام الإماراتي بتعزيز دورها التنموي في إفريقيا. فقد أظهرت دراسات دولية أن الإمارات باتت لاعباً متوسّط التأثير نشطاً في القارة، حيث وسعت منذ 2020 استثماراتها نحو الدول الإفريقية الأفقر موارداً بهدف تنويع مصادرها الاقتصادية. كما ركزت أبوظبي على تسويق نموذج انتقالٍ أخضر في القطاعات الحيوية لمواكبة تطلعات الدول الإفريقية لتحقيق تنمية مستدامة. وتعكس تصريحات الشيخ محمد بن زايد التركيز على بناء «شراكات فعّالة» تعود بالنماء والازدهار للجميع، بما يعزز التزام الإمارات بدعم مشاريع التنمية المشتركة. ويأتي توقيت الزيارة متزامناً مع رئاسة أنغولا الحالية للاتحاد الأفريقي، مما يتيح فرصة لتعزيز التنسيق حول القضايا الإفريقية المشتركة ودعم المبادرات الإقليمية في ظلِّ تنافس دولي متصاعد على النفوذ في القارة.

 

تظهر الأبعاد الاستراتيجية للزيارة في توسيع نطاق التحالف الإماراتي–الأنغولي إلى شراكة طويلة الأمد. فدعم مشاريع الطاقة المتجددة والزراعة والتقنية يعزز قدرة البلدين على مواجهة تحديات التنمية ويتيح لأبوظبي تنويع مصادر طاقتها الغذائية والطاقية. وفي الجانب الجيوسياسي، تكسب الإمارات من هذه الشراكة موقعاً أوسع في جنوب وغرب إفريقيا، بما يتوافق مع توجهها نحو تكوين شبكة علاقات اقتصادية متوازنة بعيداً عن الأساليب التقليدية. وقد أكّد كلا الطرفين أن الزيارة تمثل انطلاقة جديدة لعلاقات تستهدف تنمية مستدامة مشتركة؛ فقد صرّح الرئيس لورينسو بأن الاتفاقيات الموقعة ستخلق فرص عمل وتفتح آفاقاً للتعاون في الطاقة المتجددة والزراعة والخدمات اللوجستية وغيرها. ويخلص المراقبون إلى أن هذه الشراكة التنموية الواعدة قد تشكل نموذجاً لتعزيز التكامل الاقتصادي بين ضفتي القارة، مستندة إلى مصالح استراتيجية بعيدة الأمد والتزام مشترك بالتنمية.