أديب العيسي يكتب لـ(اليوم الثامن):

المشروع الوطني الجنوبي.. هل تنقذه العدالة من فخ المناطقية؟

على مدار سنوات طويلة، حمل الحراك الجنوبي راية التصالح والتسامح كمشروع سياسي واجتماعي يهدف إلى تجاوز الانقسامات المناطقية وإعادة بناء وطن جنوبي موحد. شعارات الوحدة الوطنية ورفض المناطقية ترددت في ساحات النضال، لكن ما إن اقترب الحلم من التحقق، أو هكذا بدا، حتى ظهرت تناقضات عميقة تهدد جوهر المشروع الجنوبي. فبدلاً من ترسيخ نهج الشراكة والعدالة، عادت المناطقية والمحسوبية لتطفو على السطح، مُعيدةً إنتاج ذات الأمراض التي ثار ضدها الجنوبيون. هذا المقال يسعى لتقديم تحليل معمق للتحديات التي تواجه المشروع الوطني الجنوبي، مع التركيز على جذور المناطقية كعامل تهديد رئيسي، واستكشاف الأسباب التي تحول دون تطبيق الحلول المقترحة، إلى جانب اقتراح رؤية عملية لتصحيح المسار.

المناطقية، كما تتجلى في توزيع السلطة والموارد على أساس الانتماء الجغرافي، ليست مجرد انحراف إداري، بل هي أزمة بنيوية تهدد أسس المشروع الوطني الجنوبي. عندما تُمنح المناصب والامتيازات بناءً على الولاء المناطقي بدلاً من الكفاءة والجدارة، يتحول المشروع الوطني إلى شبكة مصالح ضيقة تُقصي الكفاءات وتُهمش الطاقات الحقيقية. تفضيل منطقة على أخرى يزرع بذور الشك والضغينة بين مكونات المجتمع الجنوبي، مما يُضعف الشعور بالانتماء المشترك ويُعيق بناء هوية وطنية جامعة. كما أن المناطقية تُعيد إنتاج ذات الأنماط التي أدت إلى انهيار تجارب سابقة، حيث كانت المحسوبية والإقصاء سبباً في تفكك المؤسسات وفقدان ثقة المواطنين. وعندما تُدار المؤسسات بناءً على الولاءات المناطقية، تفقد فعاليتها وتتحول إلى أدوات لخدمة فئات محددة بدلاً من المصلحة العامة.

تستمر المناطقية لأسباب عميقة، أبرزها غياب الإرادة السياسية الحقيقية لتطبيق مبادئ العدالة والمساواة. رغم الإجماع النظري على رفض المناطقية، يستفيد القادة السياسيون منها لتعزيز نفوذهم الشخصي. كذلك، تلعب الانتماءات القبلية والمناطقية دوراً كبيراً في تشكيل العلاقات الاجتماعية والسياسية في الجنوب، مما يجعل تجاوزها تحدياً معقداً. إضافة إلى ذلك، يُسهم ضعف المؤسسات في تفاقم المشكلة، حيث تُتخذ القرارات بناءً على العلاقات الشخصية والمناطقية بدلاً من المعايير الموضوعية.

المحسوبية، كوجه آخر للمناطقية، تُفاقم الأزمة عبر تحويل السلطة إلى غنيمة تُوزع على الأقرباء والمعارف. هذا النمط لا يقتصر على إقصاء الكفاءات، بل يُدمر أيضاً ثقة المواطن في العدالة والمساواة. المحسوبية تحول المؤسسات إلى أدوات لخدمة الأفراد بدلاً من المجتمع، مما يؤدي إلى ضعف الأداء الحكومي وتفشي الفساد. كما أنها تُحبط الكفاءات الشابة، التي تُعد ركيزة أساسية لبناء الدولة، وتدفعها إلى الهجرة أو الانزواء. وعندما يرى المواطن أن المناصب تُمنح بناءً على العلاقات وليس الجدارة، يفقد الثقة في النظام السياسي، مما يُهدد استقراره. تستمر المحسوبية بسبب ثقافة الولاء التي يعتمد عليها القادة لتعزيز سلطتهم، وغياب آليات محاسبة فعالة، إلى جانب الصراع على الموارد المحدودة التي تُحول المناصب إلى وسيلة لتعزيز النفوذ الشخصي والمناطقي.

لكي ينجح المشروع الوطني الجنوبي، يجب مواجهة المناطقية والمحسوبية كتحديات وجودية. هذا يتطلب رؤية شاملة تجمع بين الإصلاحات السياسية، الاجتماعية، والمؤسسية. من بين الخطوات المقترحة: اعتماد معايير موضوعية لاختيار القيادات بناءً على الكفاءة والخبرة، وإنشاء هيئة مستقلة للإشراف على تعيينات المناصب العامة مع ضمان تمثيل عادل لكل المناطق. كما ينبغي تشكيل مجلس استشاري يضم ممثلين عن كل الفئات الاجتماعية لضمان اتخاذ قرارات متوازنة، وإطلاق حملات توعية تُعزز الهوية الوطنية الجنوبية. إضافة إلى ذلك، يجب تفعيل الرقابة والمحاسبة عبر إنشاء هيئات مستقلة تُحاسب المسؤولين، وتعزيز الشفافية بنشر تقارير دورية عن توزيع الموارد والمناصب. وأخيراً، ينبغي تمكين الكفاءات عبر برامج تدريب للشباب وتشجيع المشاركة السياسية للكفاءات المهمشة.

لكن تنفيذ هذه الإصلاحات يواجه تحديات كبيرة. النخب المستفيدة من الوضع الراهن قد تعارض أي تغييرات تهدد مصالحها، وبناء مؤسسات قوية يتطلب وقتاً وموارد في ظل ظروف اقتصادية وسياسية صعبة. كما أن تراكم خيبات الأمل قد يجعل المواطنين ينظرون إلى الإصلاحات بعين الشك. ورغم الإجماع النظري على رفض المناطقية والمحسوبية، فإن هذا الإجماع لا يُترجم إلى واقع عملي بسبب غياب الإرادة الحقيقية، والخوف من التغيير الذي قد يُهدد الأنماط الاجتماعية والسياسية الراسخة، إلى جانب ضعف الثقة الناتج عن تراكم الفشل السياسي.

الجنوب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يؤسس لدولة عادلة تقوم على الشراكة والمساواة، وإما أن يُعيد إنتاج الفشل بأيديه. المشروع الوطني الجنوبي لن ينجح إذا ظل رهينة عقلية الغنائم والانقسامات الضيقة. اللحظة الحالية تتطلب شجاعة في الاعتراف بالأخطاء، وجرأة في بناء نظام سياسي يعكس طموحات الشعب الجنوبي. الجنوب ليس ملكاً لفئة أو منطقة، بل هو وطن لكل أبنائه. بناء دولة عادلة يتطلب التخلي عن المناطقية والمحسوبية، وتبني نهج يقوم على العدالة، الكفاءة، والشراكة. إن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من إرادة حقيقية لتجاوز الأخطاء وتصحيح المسار. فلنكن على قدر التحدي، ولنبنِ معاً جنوباً يليق بتضحيات شعبه.