د. صبري عفيف يكتب لـ(اليوم الثامن):
التماثل العنيف.. كيف تكرّس النزاعات المسلحة تجاوزات الدول والمليشيات على حد سواء؟
في خضم النزاعات المسلحة المعاصرة، لم يعد من الممكن رسم حدود فاصلة وواضحة بين سلوك الدول والفاعلين غير الحكوميين كالميليشيات المسلحة، خصوصًا فيما يتعلق باحترام قواعد القانون الدولي الإنساني. فقد شهدت السنوات الأخيرة أنماطًا متشابهة من العنف الموجه ضد المدنيين والأعيان المدنية من كلا الطرفين، وسط تصاعد لافت في استخدام القوة المفرطة، وتبرير الانتهاكات بذريعة الضرورات الأمنية أو الأهداف الاستراتيجية.
هذا التشابه لا يعكس فقط أزمة أخلاقية في إدارة النزاعات، بل يكشف عن خلل عميق في منظومة الردع والمحاسبة الدولية، التي باتت عاجزة عن كبح جماح الانتهاكات، سواء كانت صادرة عن دول تملك اعترافًا دوليًا أو جماعات مسلحة تتصرف خارج إطار القانون.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل مظاهر هذا التشابه المقلق، من خلال استعراض نماذج من النزاعات في اليمن وسوريا وغزة وأوكرانيا والسودان، مع التركيز على خرق مبادئ التمييز والتناسب، والآثار المترتبة على مصداقية القانون الدولي الإنساني. كما تُختتم الورقة بجملة من التوصيات التي تهدف إلى تعزيز آليات المحاسبة واستعادة مركزية القانون في زمن الحروب المتوحشة.
تشابه سلوك الدول والمليشيات
في العديد من النزاعات المسلحة الحديثة، يتضح تشابه مثير للقلق بين سلوك الدول والمليشيات المسلحة فيما يتعلق بانتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني، خصوصًا تلك المتعلقة بحماية المدنيين والأعيان المدنية. فكلا الطرفين – رغم تباين شرعيتهما ووضعيتهما القانونية – غالبًا ما يستخدمان القوة المفرطة ويبرران انتهاكاتهما بذريعة الدفاع عن النفس أو تحقيق أهداف استراتيجية.
فرغم أن الدول تخضع رسميًا لاتفاقيات دولية مثل اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية، إلا أن الواقع يظهر تجاوزات جسيمة، تُمارس أحيانًا بذات الأساليب التي تنتهجها المليشيات الخارجة عن القانون، والتي غالبًا ما تعمل في بيئات تفتقر للرقابة والمحاسبة الدولية. يتقاسم الطرفان كذلك الاستفادة من الإفلات من العقاب، حيث يصعب مساءلة الدول بسبب نفوذها السياسي والعسكري، بينما تُفلت المليشيات بحكم ضعف مؤسسات الدولة وغياب سلطة مركزية فعالة.
أولًا: حرب الناقلات بين إيران والعراق (1980–1988)
مثّلت حرب الناقلات بين إيران والعراق نموذجًا مبكرًا لانتهاك الدول لمبدأ حماية الأعيان المدنية. فقد تعرضت خلال هذه الحرب أكثر من 340 سفينة تجارية للهجمات، منها 11 سفينة غرقت بالكامل، وأدى ذلك إلى مقتل وجرح أكثر من 320 شخصًا وتدمير قرابة 30 مليون طن من البضائع. انتهكت كل من إيران والعراق المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف التي تحظر مهاجمة الأعيان المدنية غير المستخدمة لأغراض عسكرية.
ثانيًا: الحرب في اليمن (2015–الآن)
تشهد اليمن منذ عام 2015 انتهاكات واسعة النطاق من قبل التحالف العربي بقيادة السعودية، ومن قبل جماعة الحوثي المسلحة، وامتد ذلك لاحقًا ليشمل المياه الإقليمية والدولية تكشف النزاعات المسلحة المعاصرة عن تشابه ملحوظ بين سلوك الدول والجماعات المسلحة في انتهاك القانون الدولي الإنساني، خصوصًا فيما يتعلق باستهداف البنى التحتية المدنية مثل المطارات والموانئ. فرغم أن الدول تمتلك التزامات قانونية واضحة بموجب اتفاقيات جنيف، إلا أن سلوكها على الأرض لا يختلف كثيرًا عن الممارسات التي تنتهجها المليشيات المسلحة غير النظامية. ففي الحالة اليمنية، استُهدفت المطارات والموانئ مرارًا من قبل التحالف بقيادة السعودية، ومن قبل الحوثيين، ومن ثم الولايات المتحدة وإسرائيل، ما أدى إلى تعطيل تام لحركة المساعدات والإمدادات الحيوية، وتفاقم الوضع الإنساني في بلد يعاني أصلًا من أسوأ الأزمات الإنسانية عالميًا.
مثل هذه الانتهاكات، سواء صدرت عن دول أو فواعل مسلحة من غير الدول، تمثل خرقًا لمبدأ التمييز ومبدأ التناسب، وهما من المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني.
سوريا: منهجية القصف واستهداف البنية التحتية المدنية
في سوريا، لا يختلف سلوك النظام السوري السابق المدعوم من روسيا عن سلوك الجماعات المسلحة من حيث الضربات العشوائية والمنهجية للأعيان المدنية، حيث وثّقت تقارير أممية ومنظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"الشبكة السورية لحقوق الإنسان" آلاف الهجمات على المستشفيات والمدارس والأسواق، خصوصًا في إدلب وحلب والغوطة الشرقية. النظام السوري اعتمد سياسة "البراميل المتفجرة" والطيران الحربي لاستهداف مراكز طبية وملاجئ، فيما مارست فصائل المعارضة المسلحة وقوات "داعش" انتهاكات مماثلة بحق مناطق مدنية في أوقات سيطرتها.
النتيجة واحدة: تدمير ممنهج للبنية التحتية، نزوح ملايين، وسقوط أكثر من 500 ألف قتيل منذ عام 2011، نصفهم تقريبًا من المدنيين. تتشابه هذه الأفعال من حيث اللامبالاة الصارخة بالقانون الدولي، مع وجود عجز دولي مستمر عن تفعيل مبدأ المحاسبة، مما يرسّخ منطق الإفلات من العقاب، سواء ارتُكبت الانتهاكات باسم "الحرب على الإرهاب" أو "التحرير من النظام".
وعلى المنوال نفسه سار النظام السوري الوليد في العنف وإدارة الصراع وفقا قاعدة الانتقام من الخصوم السياسيين.
غزة: القوة التدميرية الإسرائيلية
في قطاع غزة، اتبعت إسرائيل خلال جولات التصعيد المتكررة، لا سيما في 2021 و2023، استراتيجية عسكرية ركّزت على تدمير المرافق المدنية الحيوية بشكل مباشر. استهدفت الأبراج السكنية، مراكز الإعلام، المستشفيات، والمدارس التابعة للأونروا التي كانت تأوي نازحين. في المقابل، أطلقت فصائل المقاومة الفلسطينية، مثل حماس والجهاد الإسلامي، صواريخ عشوائية تجاه مدن إسرائيلية، دون تمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية، ما يُعد خرقًا للقانون الدولي أيضًا.
تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 37 ألف فلسطيني قتلوا وجُرح أكثر من 75 ألفًا منذ أكتوبر 2023، معظمهم من النساء والأطفال، فيما قُتل مدنيون إسرائيليون أيضًا نتيجة الضربات الصاروخية. هذا التوازي في استسهال استهداف المدنيين، سواء من قبل دولة أو فاعل غير دولتي، يعكس تآكل المبادئ الإنسانية الأساسية في الصراع، في ظل غياب رادع قانوني فعال وازدواجية المعايير الدولية في المحاسبة.
أوكرانيا: القصف الروسي المكثف وردود غير منضبطة من أوكرانيا
منذ اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية في فبراير 2022، برز استهداف البنية التحتية المدنية كتكتيك حربي رئيسي. القوات الروسية شنّت هجمات ممنهجة على شبكات الكهرباء والمياه، والمستشفيات والمدارس، خاصة في كييف وخاركيف ودنيبرو، في محاولة لإضعاف صمود الجبهة الداخلية الأوكرانية. الأمم المتحدة وثّقت أكثر من 30 ألف ضحية مدنية حتى مطلع 2025، فيما نزح قرابة 10 ملايين داخل البلاد وخارجها.
في المقابل، اتُّهمت القوات الأوكرانية باستخدام بعض المناطق المدنية كثكنات عسكرية أو لإطلاق النار، ما عرض السكان لخطر الانتقام الروسي، ويمثل خرقًا لمبدأ الحياد الإنساني. كما أن بعض الضربات الأوكرانية على مناطق حدودية في روسيا لم تميز بدقة بين الأهداف المدنية والعسكرية.
"
النزاع السوداني.
دخلت أطراف جديدة في هذه الدائرة الخطيرة من انتهاك القانون الدولي الإنساني. منذ بداية النزاع في أبريل 2023، تعرض المدنيون في السودان لهجمات عشوائية وأعمال عنف متزايدة من قبل القوات العسكرية المختلفة، بما في ذلك القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما أدى إلى مقتل وجرح الآلاف من المدنيين، ونزوح الملايين داخل البلاد وخارجها.
لقد شهدت هذه الحرب تصاعدًا كبيرًا في استهداف الأعيان المدنية والمرافق الحيوية مثل المستشفيات والمنازل والبنى التحتية الأساسية. كما تشهد تقارير متعددة توثيقًا لانتهاكات صارخة لمبادئ التمييز والتناسب، حيث يتم استهداف المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر في سياق الهجمات الجوية أو البرية.
في هذا السياق، يُلاحظ أن الأطراف المتنازعة، بما في ذلك الجيش السوداني و"الدعم السريع"، تتبنى استراتيجيات حربية مدمرة لم تميز بين الأهداف العسكرية والمدنية، وهو ما يعكس استمرار تدهور مبادئ حماية المدنيين التي نص عليها القانون الدولي الإنساني. وعلى الرغم من التحذيرات الدولية، فإن الوضع في السودان يبقى في دائرة الإفلات من العقاب بسبب غياب المحاسبة الفعالة.
إن دخول السودان إلى هذه الدائرة الخطيرة يضيف تحديًا جديدًا أمام المجتمع الدولي في التفاعل مع النزاعات المسلحة. يتطلب ذلك تعزيز الجهود الدولية لفرض المحاسبة، وتقديم الدعم اللازم لحماية المدنيين، ومراقبة الامتثال للقانون الدولي الإنساني في هذا السياق المتصاعد.
النتائج
1- تكشف هذه الانتهاكات المتبادلة أن كلاً من الدول والفاعلين غير الحكوميين يمكن أن يتورطوا في تجاوزات ممنهجة، حتى في ظل الرقابة الإعلامية والدولية العالية، مما يضعف مصداقية النظام الدولي الإنساني ويفرض تحديات حقيقية أمام آليات المحاسبة.
2-تظهر النزاعات المسلحة المعاصرة أن الفارق التقليدي بين سلوك الدول والمليشيات المسلحة آخذ في التلاشي، لا سيما في ما يتعلق بانتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني. فقد بات من الواضح أن كليهما يمارس أنماطًا متشابهة من العنف الموجه ضد المدنيين والأعيان المدنية، سواء بشكل مباشر أو عبر تبريرات استراتيجية لا تصمد أمام المعايير القانونية الدولية.
3- ما تشترك فيه هذه الأطراف، رغم تفاوت مكانتها القانونية والسياسية، هو الاستهتار بالمبادئ الأساسية كـ"التمييز" و"التناسب"، والتصرف في كثير من الأحيان وكأن الإفلات من العقاب هو القاعدة لا الاستثناء. فالدول، بما تمتلكه من نفوذ، تعرقل المحاسبة الدولية، فيما تستفيد الجماعات المسلحة من هشاشة الدولة أو غيابها لتمارس انتهاكاتها بعيدًا عن الرقابة والمساءلة.
3-إن هذا التماثل في السلوك لا يؤدي فقط إلى تكريس معاناة المدنيين، بل يهدد أيضًا مصداقية القانون الدولي الإنساني برمّته. فحين يصبح خرق القانون أمرًا شائعًا لدى جميع الأطراف، تضعف أدوات الردع والمساءلة، وتُترك الشعوب تحت رحمة منطق القوة. وعليه، فإن المخرج لا يكمن فقط في توثيق الانتهاكات، بل في إصلاح جذري لمنظومة العدالة الدولية، بحيث لا تُستثنى أي جهة – دولة كانت أو جماعة – من المحاسبة العادلة والملزمة. فقط حينها يمكن استعادة هيبة القانون، وتأكيد مركزية.
توصيات ختامية:
1. تعزيز آليات المحاسبة الدولية: ضرورة إصلاح مجلس الأمن الدولي وهيئات الأمم المتحدة لضمان عدم عرقلة محاسبة أي طرف على الانتهاكات، بما في ذلك الدول الكبرى والفاعلين ذوي النفوذ.
2. دعم توثيق الانتهاكات بشكل مستقل ومحايد: تشجيع تمويل ودعم المؤسسات المستقلة التي تقوم برصد وتوثيق جرائم الحرب والانتهاكات، لتكون أداة ضغط قانوني وأخلاقي على مرتكبيها.
3. ربط المساعدات الدولية بالامتثال للقانون الدولي الإنساني: اشتراط احترام قواعد القانون الدولي كأحد معايير منح المساعدات أو التعاون العسكري والأمني مع أي جهة فاعلة.
4. تمكين منظمات المجتمع المدني المحلية: دعم قدرات الفاعلين المحليين في النزاعات المسلحة للقيام بدور رقابي وتوعوي، بما يحد من الانتهاكات ويعزز ثقافة احترام القانون الدولي.
5. تطوير أدوات استجابة قانونية مرنة وسريعة: العمل على إنشاء محاكم خاصة أو آليات تحقيق فورية في النزاعات التي تشهد انتهاكات صارخة ومستمرة، لتجاوز بطء وقيود القضاء الدولي التقليدي..