أسامة رمضاني يكتب:

لا أحبك ولا أصبر عليك

بالنسبة إلى معظم العائلات التونسية تبقى مشاهدة المسلسلات التلفزيونية عادة لا محيد عنها بعد مائدة الإفطار خلال شهر رمضان.

فهي تؤثث جانبا كبيرا من السهرة التي تمتد ساعات طويلة. تبدأ من السابعة مساء وتنتهي أحيانا عند موعد السحور.

تصبح المسلسلات التلفزيونية أحيانا بعد تناول طعام الإفطار مكملا للقهوة والحلويات. ولكنها تتحول في تونس في الكثير من الحالات أيضا إلى مصدر للجدل. وتصبح في الواقع مرآة لتناقضات المجتمع.

أعداد كبيرة من المشاهدين حولت وجهتها نحو المسلسلات العربية، وخاصة منها المصرية والسورية. لكن هناك أعدادا أكبر تستقر على مشاهدة الأعمال التلفزيونية التونسية، وهي أعمال نادرا ما يكون فيها الجديد خارج شهر رمضان. إذ لا زال إنتاج الأعمال التلفزيونية الجديدة خلال سائر أشهر السنة طلبا صعب المنال نتيجة شح التمويل وضعف القدرة على جذب الإشهار خارج شهر الصيام.

لكن ترحيب التونسيين بالمسلسلات التلفزيونية لا يضاهيه إلا انتقادهم لها.

وهذا ليس جديدا. لم تتوقف أبدا مضامين المسلسلات عن إثارة ردود الفعل المتباينة.

ونادرا ما تغيب الأصوات الرافضة للرسائل الاجتماعية والأخلاقية التي يرونها مستفزة لمشاعرهم وغير مستجيبة لأذواقهم. والمشاعر والأحاسيس تصبح مرهفة إلى حد كبير خلال شهر رمضان!

آخر الأمثلة على ذلك كان مسلسل “براءة” الذي تعرضه هذه السنة إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة. أثار المسلسل حفيظة الكثير لأن أحد أبطاله، وهو شخص متزوج في العقد السادس من عمره، ارتبط مع معينته المنزلية بزواج عرفي جعله يعيش معها تحت سقف نفس البيت الذي يتقاسمه وزوجته.

ليست كل الأعمال الفنية أعمالا ملتزمة بالقضايا الاجتماعية والسياسية. والكثير من المبدعين لا يرون الفن بالضرورة "كمؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية"

مشهد كان غريبا على الكثير من التونسيين لأن الزواج العرفي وتعدد الزوجات محظوران في البلاد بمقتضى القانون، وذلك منذ التصديق على قانون الأحوال الشخصية، بعد أشهر قليلة من الاستقلال سنة 1956. يسمح ذلك القانون بنوع واحد من الزواج بين الرجل والمرأة بمقتضى عقد كتابي يسجل في دفاتر الحالة المدنية. كما يمنع القانون بتاتا تعدد الزوجات ويجعل قرار الطلاق حكرا على المحاكم.

ردود الفعل لم تكن فقط من النقاد الصحافيين والمعلقين المنتشرين ليل نهار على المنصات الإلكترونية، بل شملت عددا من الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية. راضية الجربي، رئيسة الاتحاد التونسي للمرأة، أثارت المسألة مع رئيس الجمهورية الذي عبر عن معارضته المبدئية لكل ما يمس حقوق المرأة التونسية أو يمثل خرقا للقانون. الجربي اعتبرت أن إثارة موضوع “الزواج العرفي” في مسلسل تلفزيوني هو “عملية تمييع وتبسيط وتهيئة الناس لقبول مثل هذه الظواهر التي ناضلت النساء من أجل القضاء عليها وعلى تعدد الزوجات”.

حتى وزارة المرأة التونسية دخلت على الخط للتذكير بأن “الزواج العرفي” يخالف الصيغ القانونية ويتعارض مع الإرث الإصلاحي للبلاد. ثم تلتها وزارة الشؤون الدينية للإشارة إلى نفس الموقف.

كانت الضجة التي أحدثها المسلسل واسعة، وكأنما الأمر كان يتعلق “بدعوة للزواج العرفي” جاءت في تصريح رسمي لمسؤول حكومي أو في مشروع قانون ولم ترد فقط في سيناريو خيالي لمسلسل تلفزيوني.

وبسرعة استثنائية تم إخراج محتوى العمل الفني من إطاره التلفزيوني. أصبح المحتوى المثير للمسلسل قضية اجتماعية وسياسية.

بعض الأصوات التقدمية والنسوية المحتجة رأت في الأمر محاولة “للتطبيع” مع سلوك مجتمعي (أي الزواج العرفي) يضرب حقوق المرأة وسعيا وتجسيدا لرغبة بعض الأوساط الرجعية في الترويج لممارسات عفا عليها الزمن أو يكاد في تونس.

شمل الامتعاض أيضا شرائح واسعة نشأت على رفض تعدد الزوجات وأشكال الزواج غير القانونية. تبعا لما عاشته البلاد خلال العشرية الماضية وتسرب أفكار السلفيين وغيرهم من المتشددين الدينيين، عبر قنوات مختلفة، أصبح حس الحداثيين مرهفا لما يشتم منه محاولة النكوص عن حقوق المرأة وجر المجتمع إلى سلوكيات تتناقض وتلك التي دأب عليها منذ الاستقلال.

وذلك يعكس حالة من التوجس لدى المدافعين عن منظومة القيم الحداثية مما يرونه تهديدا لهذه المنظومة ولمقومات الدولة المدنية.

كانت هناك أيضا المدرسة الأخلاقية التي يظهر دعاتها على الساحة في كل المناسبات ليعربوا عن خشيتهم من تسرب مظاهر الجنوح والإجرام والسلوكيات الناشزة. تغفل هذه المقاربة الطهورية وجود هذه الظواهر في المجتمع، مثلما تشهد على ذلك الآلاف من قضايا الاتجار بالمخدرات والعنف والجنوح بالإضافة إلى المئات من حالات الزواج العرفي المعروضة على المحاكم.

ويبدو أن سامي الفهري منتج مسلسل “براءة” قد تعود منذ مواسم عديدة على مواجهة تهمة الترويج لسلوكيات تناقض أنماط السلوك المحمودة منذ ظهرت في إنتاجاته ظواهر استهلاك المخدرات والعلاقات خارج الزواج وغيرها. ولكن النجاح التجاري لأعماله قد يكون هون عليه كل الانتقادات.

غريب أن يحاول البعض فرض قواعد أخلاقية لما يجوز ولا يجوز على أعمال تلفزيونية وإن كان يتعامل معها بأريحية غريبة في حياته العادية

في حالات عديدة يبدو المجتمع من خلال ردود فعله وكأنما يريد من منتجي الأعمال التلفزيونية عدم التعرض إلى ما يعتبرها سلوكيات صادمة ومتعارضة مع القيم الأخلاقية التقليدية، حتى وإن كانت منتشرة في كل مناطق البلاد وطبقاتها منذ زمان.

 وغريب أن يحاول البعض فرض قواعد أخلاقية لما يجوز ولا يجوز على أعمال تلفزيونية وإن كان يتعامل معها بأريحية غريبة في حياته العادية. وكأنه يخاف من الأعمال الفنية والإعلامية التي تكرس تداعي القيم التقليدية وانحسار تأثير العائلة أكثر من خوفه من الظواهر المجتمعية نفسها.

إنه مجتمع يريد أن يبدو محافظا حتى إن كانت سلوكيات أناسه تناقض ذلك.

قد يبالغ صاحب العمل الفني أحيانا في إبراز السلوكيات الصادمة ولكنه في الواقع يستلهمها ولو جزئيا من مجتمعه، وإن كان أحيانا بمبالغاته يسقط في الإسفاف وسوء الذوق. حتى بعض من دافعوا عن مسلسل “براءة” لم يستسيغوا تضمنه لمشاهد عنف دامية ضد المرأة. وزاد الطين بلة هذا العام غياب أية برامج ترفيهية أو كوميدية على القنوات التونسية.

ليست كل الأعمال الفنية أعمالا ملتزمة بالقضايا الاجتماعية والسياسية. والكثير من المبدعين لا يرون الفن بالضرورة “كمؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية” مثلما طالبتهم وزارة المرأة التونسية. هذا الدور يمكن أن يلعبه الفن ولكنه لا يمكن أن يصبح بالضرورة وظيفته. يبقى هذا الدور مفتوحا على جميع الفاعلين ومن بينهم الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني ومختلف مؤسسات الدولة.

يتذكر التونسيون عبدالعزيز العروي، أحد رواد العمل الإذاعي في الستينات، عندما كان يقول لمنتقديه “بيناتنا فلسة” (بيننا زر). أي بإمكان المستمع أن يغير موجة البث إن لم يعجبه ما يسمعه في الإذاعة.

المتفرجون يعرفون أن لديهم الاختيار بين أكثر من عشر قنوات تلفزيونية محلية إضافة إلى الآلاف من القنوات المقرصنة وغير المقرصنة على الأقمار الصناعية، حتى وإن كانت القناة التلفزيونية التي عرضت المسلسل موضوع الجدل من أكثر القنوات مشاهدة. ولكنهم يريدون التصرف أحيانا مع قنواتهم التلفزيونية المحلية، عمومية كانت أو خاصة، وكأنما هي منطقة حظر أخلاقي وذوقي شامل.

والأعمال التلفزيونية التي تتعرض لمختلف الانتقادات تفوز عادة بأعلى مستويات المشاهدة وإقبال المعلنين.

فرغم انتقاده لها يواصل المشاهد التونسي وفاءه للمسلسلات التي تزعجه ولسان حاله المثل التونسي القائل “لا أحبك ولا أصبر عليك”.

ويبقى الحل بالنسبة إلى من لا يرغب في التعايش مع هذه التناقضات الهروب إلى المسلسلات القديمة المعادة أو اللجوء إلى تلفزيونات المشرق العربي إلى حين ينقضي مهرجان المسلسلات في رمضان.

أما بالنسبة إلى من يرى في حقوق المرأة في تونس مكسبا هشا يمكن أن يهدده مسلسل تلفزيوني فلعله يجد في الضجة حول “براءة” جرس إنذار من أجل الوقوف إلى جانب قيم الحداثة والمساواة. وتلك المعركة أكبر من مجرد إظهار الانزعاج من مسلسل.

مقالات سابقة