تاج الدين عبد الحق يكتب:

القضية الفلسطينية بين الفوبيا والازدواجية

هل تضع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الدول حدًّا لما كان بينها من نزاعات وخلافات؟، أو هل تمنع مثل تلك العلاقات أي خلافات تستجد بينها مستقبلا؟.

التاريخ البعيد والقريب يقول، إن الاتفاقيات بين الدول ليست نصوصًا منزلة، ولا وصفات سحرية، وهي -بالتأكيد- لا تقدم ضمانات نهائية، ولا تضع حدًّا حاسما للصراعات والخلافات، ولا حلولا كاملة تحول دون انفجارها، أو تجددها، إما بشكلها القديم وإما بأشكال جديدة، وأساليب مختلفة.

وكما في تجارب التاريخ الإنساني العديدة، التي أصابت نجاحًا حينًا، وفشلا أحيانًا، لم تَحُلْ الاتفاقيات التي وقعت بين إسرائيل والدول العربية دون استمرار الخلافات بين الطرفين، حول نقاط جوهرية فجرت أحيانًا صدامات كبيرة، كادت تطيح بتلك الاتفاقيات، وتعيد الأطراف الموقعة عليها إلى نقطة الصفر.

وما يُحكى عن سلام بارد بين الدول العربية وإسرائيل، هو في الحقيقة، تعبير عن أن خلافات كثيرة لا زالت قائمة مع الدولة العبرية، وتأكيد عملي على أن السلام بمعناه الشامل لم يتحقق بعد. ولو لم تكن تلك الخلافات موجودة لقطعت العلاقات أشواطا أكبر وطرقت مجالات أوسع. لكن هذا لا يعني أن الاتفاقيات بحد ذاتها كانت سببًا في تفاقم الخلافات مع إسرائيل وتزايد حِدتها، وزرع مزيد منها في ساحة الصراع.

في تجربتنا مع إسرائيل أخذت المقاربة السلمية بعدين:

الأول فوبيا مبالغ بها، إزاء أي جهد سلمي، مهما كانت دوافعه ومبرراته والشك المستمر بجدوى الحلول السياسية، بأي صيغة، وتحت أي عنوان، وبالتالي الامتناع عن أي اتصالات أو مبادرات لفترة طويلة، للدرجة التي فوتت على الجانب العربي، فرصًا سياسية، كانت توفر حلولًا للقضية الفلسطينية أفضل بكثير مما يتوافر لها الآن.

وفيما كانت إسرائيل تتحرك سياسيًّا بمرونة كاملة على الساحة الدولية، وتقدم نفسها، كساعية للسلام وحريصة عليه، ظلت الصورة التي نقدمها نحن، للطرف الآخر أو للوسطاء الذين حاولوا تقديم مبادرات، وبذلوا مساعي، صورة سلبية أو غائمة ومشوشة في أحسن الأحوال. والنتيجة أن إسرائيل نجحت في فرض زيفٍ على أنه حقٌّ وحقائق، فيما فشلنا في إثبات حقٍّ له دلائل في التاريخ، وشواهد قائمة على جغرافية الأرض.

أما البعد الثاني الذي ساد مقارباتنا السلمية مع إسرائيل، فهو التباين الكبير بين الطرح السياسي والخطاب الإعلامي. ففي الوقت الذي بدأنا نتحدث فيه مع محاورينا، عن السلام كخيار إستراتيجي، وأخذنا نقدم المبادرات السياسية الدالة على ذلك، ظلَّ الخطابُ الإعلاميُّ أسيرَ اللغة التي سادت في مراحل الصراع الأولى، والتي كانت تستهدف كسب تأييد شعبي زائف، أو التمكن من سلطة مغصوبة.

هذه الازدواجية لم تؤد إلى فشل جهودنا في التوصل إلى سلام يعيد حقوقنا، وينصفنا في مطالبنا فقط، بل أدَّت -أيضا- إلى ارتداد ذلك الفشل، وتحوله إلى شكلٍ من أشكال الإحباط القاتل، الذي سرعان ما أخذ شكل نزاعات أهلية، وحروب عربية عربية، بل وفتح الباب أمام تدخلات من داخل وخارج الإقليم، ناهيك عن هدرٍ متواصلٍ في الموارد والفرص.

التباين في النظرة للسلام وفي آليات تحقيقه ليس جديدًا، والذين أقدموا على خطوات في هذا الاتجاه لم يفرّطوا بحقوق مكتسبة أو بالثوابت المعروفة المتوافق عليها، بل كانوا يحاولون تغيير الأسلوب، والتفكير خارج الصندوق المعروف، واحتواء التدهور المتواصل في الموقف العربي، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حتى لو بدا أن ما يسعون إلى إنقاذه مصالح ذاتية، وعبر اتصالات ثنائية.

والذين رفضوا هذا الشكل من الاحتواء، وهذا النوع من الاتصالات لا يملكون البديل، في وقت باتت فيه ظروف المنطقة ظروفًا ضاغطة لا يتوافر فيها ترف الوقت لدرجة باتت فيها مصالح الأفراد مهددة بشكل مباشر، بعد أن تبددت مقدرات دول وتفسخت مؤسسات، ومُسِخت شعارات ومبادئ، يحتاج إنقاذها وترميمها، إلى سنوات طويلة يفوق عددها كل السنوات التي وضعتنا اليوم كدول، على حافة الفشل، وكشعوب، عند حد الفقر والتشتت.