رئيس التحرير يكتب:

مزق الخطاب يا عوض

يقعد في مقصورة كبار الشخصيات في الرحلة نحو تونس للمشاركة في قمة وزراء داخلية العرب، بدأت عليه علامات عدم الرضى، ولسان حاله يقول "هذه هي أخر قمة اشارك فيها كوزير للداخلية، لا شك انا خارج من المعادلة، في كل الاحوال".
تمتم لنفسه "هي أخر فرصة أقول فيها كل ما في قلبي، ولو تركت الوزارة سوف اعيش في أعين الشعب بطلاً، بس هذا غير مجدٍ، ما الذي سيفيد بعد ان اترك السلطة، لا بد أن استغل هذه القمة لترميم العلاقة مع السعودية، فهي صاحبة القرار واذا رضت عني بقيت في السلطة وربما أصبح رئيسا للحكومة، رضى الرياض هو السبيل ليس للبقاء ولكن للمستقبل".
كان يفكر كثيرا ويدرك كافة الخيارات المتاحة، كيف سيكون موقفه أمام الحلفاء الأخرين، قطر وتركيا، وفي هذه اللحظة، قطعت المضيفة صمت الوزير، وناولته وجبة افطار شهية "تفضل سيدي".
نظر في عينيها، بابتسامة مصطنعة، وشكرها على ذلك، وطلب منها "كأس قهوة"، لعله يعدل مزاجه وافكاره المضطربة.
قبل ان يشرع في التهام الوجبة، ادار وجهه صوب عوض الذي يجلس في الكرس المجاور، وحاول ان يبتسم له ابتسامة ثقة، لكنه اخفق، ليبادر عوض بالقول "بالهناء معالي الوزير".
لم تمض الا دقائق معدودة، حتى انتهاء معاليه من كل الوجبة وكأس القهوة رغم مرارته، عاد لتعديل الكرسي ليستريح قليلا، هكذا قال في قرارة نفسه، قبل ان يعود للتفكير مجدداً.
وصل إلى قناعة ان قمة تونس هي أخر فرصة للعودة إلى حضن الرياض أو البقاء في حضن أنقرة والدوحة، وممكن "يتحول إلى بوق إعلامي" يقدم التصريحات التي لا تحقق أي شيء على الأرض.
 قال في نفسه متحسرا "سأتحول إلى معارض للجميع، وقد أخسر الجميع".
تذكر الوعود التي قدمت له عقب انسحابه من عدن، ظن أن الجميع خدعه وتركه في مواجهة خاسرة، فكر ما هي المكاسب ان هو استمر في هذا الموقف، سأل نفسه "ماذا لو عدنا إلى عدن، ما مستقبلنا في ظل متغيرات قادمة قد تطيح بالجميع، نحن لا نضمن ما قد نكون عليه مستقبلاً، هل الخطأ الذي سنرتكبه نستطيع معالجته مع الشعب في الجنوب، ماذا عن الاهانة التي تلقاها الرئيس هادي في صنعاء، هل سيقبل هؤلاء ان يحكم الرئيس مدى الحياة، بالتأكيد لا، نحن إلى أين نذهب.
لا بد من حل، وقبل ان يفكر في الحلول، كان كابتن الطائرة، جعل عوض يصحو من غفوته، فيما الوزير لا يزال شارد الذهن، "نتجه نحو المطار رجاء ربط احزمة الأمان".
هبطت الطائرة بسلام، فيما كان عوض ومعاوني الوزير ينتظرون وصول "الحقائق"، كان حينها يتجه نحو صالة كبار الضيوف، ومن الصالة اقلتهم حافلة إلى الفندق المخصص للإقامة.
في الريسبشن طلب معاليه، من عوض ومعاونيه ان عليهم الاستعداد لاجتماع هام بعد ساعتين، كان الجميع يشعر بإنهاك شديد جراء الرحلة، والاجتماع بعد ساعتين في الجناح المخصص له.
ساعتان مرت على الوزير كأنهما شهرا، يتحدث عبر الهاتف الداخلي "ألو عوض معك الوزير، بلغ الشباب اجتماع عندي في الجناح، حضر الجميع متثاقلين، وهناك وجدوا معاليه بملابس النوم، فتح باب الجناح، وتركهم يدخلوا ثم اتجه نحو الحمام.
عاد وقد وجدهم ينتظرونه بحالة ترقب وقلق، ابتسم لهم ابتسامة مصطنعة ثم اخذ مكانه امامهم :" أهلا بكم في تونس الخضراء والحمدلله على السلامة، نحن اليوم هنا من أجل تمثيل اليمن وليس وزارة الداخلية، وقد اخبرني مسؤولي الدولة المستضيفة للقمة ان الخطابات يجب ان تكون معدة مسبقا لعرضها على رئاسة القمة قبل تدشين اعمالها بعد غداً الأحد، وانتم تعرفون اننا اتينا إلى هنا ونحن نحمل هم وطن وقضية في ظل مطامع احتلالية واضحة من السعودية وحلفائها.
وادار بوجه نحو عوض "انا اقترحت بعض الافكار لوضعها في الخطاب، فنحن نريد ان نظهر بمظهر مشرف امام شعبنا اليمني الحر والكريم والصابر".
تبسم عوض قليلا "أنت تأمر معالي الوزير".
قاطعه "لم أنهِ حديثي بعد، يجب ان تكون عبارات رنانة تحمل معاني وطنية صادقة معبرة عن مشروع اليمنيين في الحياة الكريمة، ووضع النقاط على الحروف امام وزراء داخلية العرب، وامام الرئيس التونسي الذي سيكون حاضرا في القمة كما اخبروني.
استراح بظهر على المقعد "هذا ما احببت اطلعكم عليه، الآن تفضلوا ارتاحوا، تقدروا تطلبوا طعام من المطعم في الفندق متى ما تريدوا، ولنا لقاء ان شاء الله.
نهض الجميع للانصراف :"مع السلام
معاليه :"مع السلامة
عاد لفتح هاتفه الخلوي وقال في نفسه :"الآن في راحوا القطريين، هؤلاء معاملتهم مملة جداً".
الرسائل التي بعثها وهو في سلطنة عمان، لم يتم الرد عليها، ما هذه الاساليب الوقحة.
اغلق الهاتف، وذهب ناحية السرير، وهو يعيد التفكير في الفرصة التي أمامه وكيف اقتناصها، وحين وضع ظهر على السرير، وصلته رسالة من الوزير الأخر :"كيف حالك معالي الوزير، الحمدلله على السلامة".
نظر للرسالة على شاشة الجوال، دون ان يفتحها، ثم ذهب في نومة عميقة جداً، بينما عوض وشخص أخر يكتبون خطابات تلو الخطابات، مضت نحو ثلاث ساعات دون ان يتوصلوا إلى صيغة خطاب مقنعة "كلمات رنانة تحمل معاني وطنية، نظهر بها بمظهر مشرف امام شعبنا اليمني العظيم".
في صباح السبت، اجتمع معاليه مع المرافقين، وسلمهم قصاصات بالعبارات والافكار التي يجب ان يتضمنها البيان، بينما كان عوض يستعد لتسليم صيغة خطاب استقروا عليها عند ساعات فجر الجمعة.
قرر عوض تمزيق الخطاب وكتابة خطاب جديد يتضمن المقترحات والافكار المقدمة من معاليه.
عند الواحدة ظهرا كان الجميع قد اتفق على الصيغة النهائية للخطاب الذي يحمل عبارات منددة بالاحتلال والعدوان السعودي على اليمن واحتلال المهرة وتدمير الشعب اليمني ونهب خيراته وثرواته.
احد المرافقين لم يكن مقتنعا ببعض ما في الخطاب، فقد حمل الخطاب عبارات شديدة اللهجة، ضد السعودية ووجه لها اتهامات بتقسيم "بلاده"، ومحاولة مد انبوب نفط عبر محافظة المهرة "رغما عن انف اليمنيين"، وأنها ترفض منح قوات مأرب الضوء الأخضر للسيطرة على خليج عدن وباب المندب؛ ضمن مساعي تحالف قطر وتركيا وإيران للسيطرة على الممر الدولي.
مرافقو الوزير المثير للجدل، بعد ان انتهوا من مراجعة الخطاب وتنقيحه، طلب منهم تحويله بصيغة pdf وارساله إلى هاتفه الخلوي، ليقوم بتحويله إلى سفير المملكة العربية السعودية لدى اليمن، محمد آل الجابر، وكتب له "سنقول في القمة موقفنا الرافض لاحتلال قواتكم لمحافظة المهرة وتدنيس اليمن".
وعلى الفور أدرك "آل جابر"، ما يريده الرجل المتناقض، وان ارسال الخطاب له، ما هي وسيلة ابتزاز قديمة، ليخبر "ماذا تريد، أمرنا ونحن ننفذ".
شعر معاليه بالإهانة لكنه سرعان ما استجمع قواه وقال "أنتم دخلتم تحالف عربي لمحاربة ايران والان تحاربونا نحن الشرفاء".
نحن لا نقبل ما تمارسه قواتكم في بلادنا وعليكم مراجعة مواقفكم معنا، نحن الحكومة الشرعية التي لولاها ما كان هناك حاجة اسمها تحالف.
السفير: "هدي اعصابك معالي الوزير، هل اغضبك شيء، ماذا حصل، انا حسب علمي انك قد توصلت بالسلامة إلى تونس".
اغلق الوزير الهاتف وعاد للنوم مجدداً، بينما كان الخطاب في طريقة إلى رئاسة القمة، لتنزعج وتخبر السعوديين والحكومة اليمنية ان القمة مخصصة لمكافحة الارهاب، وليس لمناقشة قضايا سياسية، وان على الوزير اليمني تعديل صيغة الخطاب بما يتناسب ومواضيع القمة المعلنة والمدرجة في جدول الاعمال.
وزير داخلية مصر كان قد عرف بالتفاصيل وكلف بالمهمة، اجتمع مع الوزير وابلغه ان رئاسة القمة تطلب منه تعديل صيغة الخطاب بما يتناسب واعمال القمة، لكنه عبر بحزن عن جملة من المطالب التي نقلها الوزير المصري للجانب السعودي.
وصباح الأحد الأول من مارس، مع بدء مراسيم انعقاد القمة، كان معاليه قد ضحى برفيقه وقدمه ككبش فداء للعودة إلى حضن الرياض، بشرط عدم تناولها في أي تصريح صحفي، والتوقف عن القيام بأي مواقف تنال من التحالف العربي الذي اصبح سعوديا خالصاً.
قبل الدخول إلى القاعة، كان عوض يحمل ملفا فيه عدة نسخ من الخطاب، فيما معاون أخر يقول لعوض "هذه أول مرة يقرأ خطابا مكتوب وليس ارتجاليا كما تعود".
في المكان المخصص للوفد اليمني، كان عوض يهم بمناولته نسخة من الخطاب، لكن ادار رأسه نحو بالقول "مزق الخطاب ياعوض مزق الخطاب يا عوض"..
وانتهت المسرحية.
#صالح_أبوعوذل