"التوازن المتوتر"..
ورقة تحليلية ترصد مستقبل العلاقات السعودية – الإيرانية: "صراع بنيوي أم هدنة تكتيكية؟"
"إيران لا ترى في نفسها مجرد دولة إقليمية، بل مرجعية شيعية كونية؛ والسعودية لا تكتفي بمكانتها السياسية، بل تنطلق من شرعية دينية عالمية.. هذا ما يجعل الخلاف وجوديًا أكثر من كونه خلاف مصالح"

في الشرق الأوسط لا خصومة تنتهي: السعودية وإيران بين سرديات الهوية ومتغيرات الجغرافيا السياسية - اليوم الثامن

قالت مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات إن الصراع بين إيران والسعودية ليس مجرد تنافس تقليدي بين دولتين في الإقليم، بل هو صراع بنيوي ممتد، تشكله محددات مذهبية وتاريخية، وتحكمه توازنات جيوسياسية معقدة، يتداخل فيها الثابت بالعقائدي مع المتحول السياسي والاقتصادي والدولي.
وأكدت المؤسسة في ورقة بحثية أعدها الباحث د. صبري عفيف، أن العلاقات بين الرياض وطهران خلال الفترة من 2015 إلى 2025 اتسمت بطابع "التوازن المتوتر"، حيث بقيت النزاعات الإقليمية حاضنة للتوترات، رغم المحاولات الدبلوماسية المتكررة للتهدئة، وآخرها الوساطة الصينية في عام 2023، والتي أعادت فتح القنوات بين البلدين بعد سبع سنوات من القطيعة.
لكن الدراسة شددت على أن الانفراج الذي حدث هو أقرب إلى "هدنة تكتيكية" فرضتها اعتبارات ضاغطة، أكثر من كونه تحولًا استراتيجيًا في بنية العلاقة.
وتستند الورقة إلى منظور تحليلي مزدوج يقوم على دراسة "الثابت والمتحول" في العلاقات الثنائية، كمفتاح لفهم مسارها وتعقيداتها.
إذ لا يمكن اختزال العلاقة بين السعودية وإيران في مجرد أزمة دبلوماسية متقطعة، بل ينبغي قراءتها من زاوية الصراع العميق على الشرعية الدينية، والنفوذ السياسي، وإعادة تعريف موقع كل دولة داخل منظومة الشرق الأوسط.
فالسعودية، بحسب الدراسة، لطالما رأت في نفسها حاملًا للهوية السنية الجامعة، وراعٍ لمركزية الحرمين الشريفين، بما يمنحها شرعية دينية وسياسية واسعة داخل العالم الإسلامي، فيما تقدم إيران نفسها باعتبارها "مرجعية شيعية كونية"، تسعى لتوسيع نفوذها من خلال شبكات دعم سياسي وعسكري تمتد من العراق إلى لبنان، ومن اليمن إلى سوريا.
وترى الدراسة أن لحظة الانفجار الكبرى في العلاقة كانت في عام 2016 عقب إعدام رجل الدين الشيعي "نمر النمر"، واقتحام السفارة السعودية في طهران، وهي الحادثة التي كشفت هشاشة "إدارة الخلاف" بين الطرفين.
ومع تزايد انخراط إيران في دعم الحوثيين في اليمن، وتعزيز وجودها في سوريا، وتصعيد تدخلها السياسي في لبنان والعراق، أصبح الصراع أشبه بـ"حرب باردة إقليمية" تُدار بالوكالة، ولا تعتمد على المواجهة المباشرة بقدر ما تستند إلى استنزاف الطرف الآخر.
وتقدم الورقة تفسيرًا نظريًا متماسكًا لهذه العلاقة من خلال دمج ثلاث مدارس رئيسية في العلاقات الدولية: المدرسة الواقعية، التي تفسر سلوك الدول انطلاقًا من مصالحها وأمنها القومي؛ والبنائية، التي تركز على الهوية والدين والطائفة كمحركات للفعل السياسي؛ والليبرالية، التي ترى إمكانية لخلق فرص تعاون حتى في ظل التوتر.
ومن هذا المنظور، توضح الدراسة أن التنافس بين الرياض وطهران ليس صراعًا على المصالح فقط، بل هو أيضًا صراع هويات متجذّر، يغذّيه تباين سرديات كل دولة عن نفسها وعن الآخر، مما يجعل أي تقارب دائم بين الطرفين مشروطًا بإعادة تشكيل سرديات الدولة والهوية، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
ورغم سوداوية المشهد، لا تغفل الورقة التحولات الظرفية التي فرضت نفسها على الطرفين، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية في إيران جراء العقوبات الأمريكية والاحتجاجات الداخلية، وكذلك التغير الجذري في السياسة السعودية تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان، الذي أعاد توجيه بوصلة السياسة الخارجية نحو مزيد من "البراغماتية الهادئة"، بحثًا عن استقرار إقليمي يمكّن من إنجاح رؤية 2030.
وفي هذا السياق، شكل اتفاق بكين في 2023 لحظة تحول مهمة، ليس فقط بسبب عودة العلاقات الدبلوماسية، بل لأن الصين قدمت نفسها كفاعل دولي جديد قادر على كسر احتكار واشنطن لملف أمن الخليج.
كما تلفت الدراسة إلى أن ساحة الصراع لم تكن واحدة، ففي اليمن مثلًا، يتجلى الصراع في أشد صوره، حيث تدعم إيران الحوثيين بالسلاح والدعاية، بينما تتزعم السعودية تحالفًا إقليميًا لدعم الحكومة الشرعية.
وفي سوريا، يختلف موقع السعودية بين الحذر والدعم الرمزي، في حين انخرطت إيران عسكريًا بعمق.
أما في لبنان والعراق، فقد أصبحت الدولتان جزءًا من المعادلات الداخلية الهشة، حيث تتصارع رؤى الدولة الطائفية مع مشاريع النفوذ الخارجي.
وتخلص الورقة إلى أن استمرار هذا النمط من التنافس الإقليمي يعني أن أي تهدئة لا بد أن تكون مشروطة بصفقة إقليمية أوسع تشمل ترتيبات أمنية جديدة، لا تقتصر على وقف إطلاق النار أو التمثيل الدبلوماسي.
وترى ورقة مؤسسة "اليوم الثامن" للإعلام والدراسات أن فرص التهدئة، رغم ضيقها، قائمة في حال توفرت إرادة سياسية صادقة، وإعادة نظر في أولويات الأمن القومي لكل طرف، وربط ذلك بمصالح اقتصادية مشتركة تفرض على الطرفين التعايش في بيئة إقليمية أكثر هدوءًا.
وتشير الدراسة إلى أن التعاون في ملفات الطاقة، وأمن الممرات البحرية، ومحاربة التطرف، يمكن أن يشكل أرضية انطلاق نحو حوار أوسع، شريطة أن يترافق مع خطاب إعلامي عقلاني، وتفكيك للهويات الصراعية التي غذت العداء طوال العقود الماضية.
واختتمت الدراسة بالإشارة إلى ضرورة كسر نمط "التهدئة الظرفية والتصعيد البنيوي"، عبر تبني رؤية استراتيجية شاملة تعيد ضبط العلاقات السعودية – الإيرانية وفق أسس أمنية واقتصادية ودبلوماسية متكاملة، لا تختزل العلاقات في الأمن فقط، ولا تتجاهل عمق التناقضات الفكرية والهوياتية.
و"اليوم الثامن للإعلام والدراسات"، هي مؤسسة أبحاث وإعلام مستقلة تعنى برصد وتحليل تطورات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من خلال دراسات معمقة وتقارير ميدانية ومواد إعلامية متخصصة. تسعى المؤسسة إلى تقديم محتوى مهني يقوم على "الدقة في الرصد والعمق في التحليل"، ويواكب التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.
كما تُصدر المؤسسة شهرياً مجلة بريم المتخصصة في دراسة قضايا الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن.
للقراءة والتنزيل| الثابت والمتحول في العلاقات السعودية – الإيرانية للفترة 2015- 2025 دراسة تحليلية