قصة قصيرة..

عبور المستحيل (2-2)

جانب من مستشفى جدة بالمملكة العربية السعودية - أرشيفية وتعبيرية

د. علوي عمر بن فريد
كاتب وباحث تاريخي جنوبي يكتب لدى صحيفة اليوم الثامن

د. وليد شاب طموح حديث التخرج انتقل من مدينة جدة للالتحاق بالمستشفى وقدم على مضض إلى هذه المدينة التي تتوسد أطراف الربع الخالي .. وشتان بينها وبين مدينته العريقة " جدة " افتقد وليد ..البحر والمنتزهات .. افتقد الأهل و الأصدقاء .. الأسواق التجارية العامرة بكل جديد ..المطاعم , كل شي , فهي مدينة لا تنام ..
أما هنا فيعود من عمله متعباً في التاسعة ليلاً ولا يخرج من سكنه البسيط وهو ابن المدينة المترف المدلل ودائرة أصدقائه ضيقة ولم يحاول أن يوسعها ..
وفي دوامه الصباحي أعاد له العامل الهندي عشر صفحات مليئة بالأخطاء وبعد مراجعتها أعادها للتصحيح إلى سكرتاريا أحد الأقسام الأخرى و تكررت نفس الأخطاء من جديد ..
ثم اضطر د. وليد الذهاب إلى المكتب الذي وصفه زميله , وفوجئ أن هناك ثلاثة شبان خارج المكاتب و عندما شاهدوه انبرى احدهم يسأله :
_إلى أين ..؟ فرد عليه قائلاً : لدي بعض الأوراق أبحث عن مكتب الآنسة " مها"
و بسرعة فائقة قال له : هات الأوراق أنا أوصلها ..
فقال له : ولكنني أريد أن أوضح لها بعض النقاط ..
لم يمهله الشاب و أخذ الأوراق من يده في تطفل واضح وتمالك نفسه و تبعه , ودخل إلى مكتب " مها " وهناك شاهدها لأول مره .
لم يكن يتوقع أن تكون " مها " بهذا الجمال , شابة طويلة ممشوقة القوام بيضاء البشرة محجبة لا يظهر منها إلا العينان و البنان .. سبحان الله .. عقدت الدهشة لسانه ثم أخذ يشرح لها ما يريد , و خرج مصدوماً مما رأى .
أصبح د.وليد أسيراً مكبلاً يحب " مها " رغم أنه لم يتأكد تماماً من مشاعرها نحوه ولكنه خرج من عزلته و الشعور بالوحشة و الغربة بعيداً عن مدينته الصاخبة ..
و " مها " من جانبها لم تتمادى في علاقتها مع د. وليد خوفاً على سمعتها ولكنها في أعماق نفسها أصبحت تؤمن أنها تتقاطع معه في كثير من قضايا المرأة و المجتمع فهو ابن المدينة وهي جمعت بين المدينة والريف , فهي من ناحية تجد أن مستقبلها العلمي و طموحاتها في الدراسة قد تتحقق مع شاب مثل د. وليد عندما تحن إلى طفولتها وبداية مراهقتها التي قضتها في مدينة " الخبر " وهي مدينة ساحلية فيها من التمدن و العمران الكثير, وجده أكثر تطوراً منها و لربما تحقق ما تطمح إليه.
أما د. وليد من جهته فهو رجل مثقف تخطى بخبرته وعلمه كل الحواجز التقليدية التي يضعها المجتمع عادة بين أفراده , لا يأبه للمذهبية ولا للعصبية القبلية ولا غيرها فرحابة صدره وسعة خاطره و ثقافته أكبر من كل العوائق المصطنعة..
كما أنه يختلف عن زملائه الشباب الذين يسعون للتسلية و خوض تجارب مع الفتيات هدفها المغامرات و التفاخر بينهم أي منهم يحرز نقاطاً أكثر من زملائه ..
و يمتعض د. وليد من تصرفاتهم عندما يتباهون مع بعضهم عن علاقتهم ببعض الفتيات الساذجات اللاتي ينجرفن مع مشاعرهن مع هؤلاء العابثين ..
حتى " مها " لم تسلم من ألسنتهم وهذا أشد ما يضايقه عندما ينبري لهم ويقول :كذبتم والله " مها " أشرف من الشرف ..وهذه المغامرات لا توجد إلا في خيالاتكم المريضة ..
لقد أصبح يغار على " مها " بل و يغضب عندما يسمع أحد يذكرها ..
ولكنه لا يتمادى كثيراً في ذلك حتى لا يلفت نظرهم .. و يرغب أن يتم التواصل المباشر مع " مها " بوسيلة أكثر فاعلية للتفاهم و التقارب بينهما فبيئة العمل لا تسمح بذلك ووسيلة الاتصال و التبادل عبر العامل قد لا تستمر وهي غير مأمونة .. كما أن هاتف العمل هو الآخر مراقب و بالإمكان كشف أسرارهما عن طريق عامل السنترال ..
و د. وليد يحرص على سمعة " مها " أكثر من أي شيء آخر ,ولكنه يطمح إلى أن تكون بينهما وسيلة تواصل أفضل كالجوال أو البريد الإلكتروني حتى يقرآن أفكار بعضهما أكثر و يبنيان معاً علاقة متينة و راسخة .. ولكن " مها " بقيت مترددة في التقدم نحوه ..
إنها بحق جوهرة ثمينة , ولكن د.وليد شعر بالمرارة في حلقه من تصرف الشاب الساذج ..
حاول د. وليد أن يلجم مشاعره , ولكنه لم يستطع .. منذ ذلك اليوم وهي تتجسد أمامه يشاهد خيالها في الماء الذي يشربه .. في جدران مكتبه .. في كأس الشاي .. يرن صوتها الناعم في مسامعه .. خيالها لا يفارقه لحظة واحدة ..
أخذت الغيرة تنهش صدره عندما سمع د. أحمد زميله في المكتب وهو يكلمها بالهاتف في بعض الأعمال ..
يكاد يجن عندما يراه يصعد إلى مكتبها يحمل أوراقاً للطباعة ..
إلا أن د. وليد أخذ يتحكم في مشاعره , ولكنه وجد من الصعب أن تغيب عنه لحظة واحدة..
أخذ د. وليد يسأل نفسه :هل يفاتح مها .. أم يلزم الصمت .؟
وجد د. وليد عدة عقبات تقف عائقاً أمامه ..
تحول إعجابه بمها إلى حب هادئ .. ثم إلى حب أخذ يعصف بكيانه ..
هذه " مها " يحاول أن يرى عينيها .. سبحان الله يرددها في نفسه ما أجمل عيناها تأسران لبه يقف أمامها كالطفل المسالم الوديع ..
يبحر في عينيها ولكن مراكبه تغرق .. وتصل إلى الأعماق وهو مستسلم لها ..
إعجابه وحبه لمها يزداد يوماً بعد يوم.. ولكنه لا يستطيع أن يفاتحها لعدة أسباب
د. وليد شاب رومانسي .. طموح.. خلوق ,, حساس ,,يجيد التعامل برقي مع الجميع ولعله أكثر تقدميه من غيره ..فمن حق المرأة أن تقود سيارتها بنفسها .. ما المانع في ذلك .. ؟
ولكن المجتمع هنا لا يؤمن بهذه الأشياء ولا يقر بها ..
هناك تقاطعات يلتقي فيها د. وليد ومها حول المرأة و العمل, و عندما شعرت "مها" بذلك تأكدت أنها تقترب من الرجل الذي رسمت صورته في مخيلتها ..
وبصورة تلقائية بدأت تستجيب بداية كمعجبة بشخصية د. وليد .. ولكنها شعرت بأنها تسير في اتجاه واحد لا رجعه منه ..
و أخذ يرسل شحنات متقطعة من قلبه كوميض سحري يلهب مشاعر " مها " و تطورت علاقتهما في محيط العمل رغم العيون التي تراقب كل صغيرة وكبيرة فكان الساعي الهندي هو وسيلتهما الوحيدة حتى يبعدا عنهما الشكوك على الأقل في المرحلة الأولى ..
ولا شك أن " مها " شجعت د. وليد على تطوير علاقتهما فرغم العادات و التقاليد في المجتمع و حتى في محيط العمل التي تعتبر الحب خطاً أحمر إلا أن " مها " شعرت أن د. وليد يختلف عمن حوله فهو مغرم بها ويعشقها و بنى أحلامه و آماله على الارتباط و ليس التسلية و إقامة علاقات عابرة ..
إن طموحات د. وليد كبيرة و تتخطى المستحيل فما زال يحلم باليوم الذي يقترن فيه بمها و يرتبط بها ..وعندما يجلس مع نفسه تتوارد الخواطر أمامه و يسأل نفسه :
ما الذي دفعه للتعلق بمها ..؟ هل هو الإحساس بالغربة وهو بعيد عن أهله و أصدقائه ومدينته التي عاش فيها ؟.. وهل مها هي خياره الوحيد ..؟
و تعود الأسئلة تتوارد إلى ذهنه , ما الذي جعله يصر على " مها " علماً أن في جده عشرات الفتيات لا يقل جمالهن عنها ان لم يفقنها جمالاً ..؟
د. وليد اقتنع أخيراً بمها .. و ألمح لها أنه سيتقدم لخطبتها وقد أعطته الضوء الأخضر رغم خوفها و ترددها ..
ذهب وليد إلى والد مها مع بعض كبار السن من أهل المدينة المرموقين لطلب يد " مها " و استقبلوا في مجلس والدها العامر بأعمامها و أقاربها وبعض الشخصيات و طرحت العديد من الأسئلة في الجلسة حول د. وليد و أسرته و نشأته الخ .. ..
وبعد التكريم و واجب الضيافة انفض الجمع على أن يتم التواصل معهم وإبلاغهم بالرد النهائي ..وبعد انصراف الضيوف تعرض والد " مها " لسلسلة من الانتقادات و عاصفة من الغضب من أقاربه حيث لم يشاورهم في الأمر قبل وصول ضيوفه..
وفي ختام الجلسة قرر مجلس العائلة رفض الصهر الجديد لأنه حضري و ليس قبلي فهو ابن مدينة وليست له جذور مثلهم ..
في حين كانت " مها " و أمها تقفان خلف الباب تسمعان جدال وصخب الرجال حول زواجها و عرفت أنها مقموعة كغيرها من آلاف النساء و أن مصيرها ليس بيدها وحدها ولا حتى بيد أبيها أحياناً كهذه الحالة وسألت نفسها :
كيف سأقوم بالدفاع عن النساء في مجتمعي و أنا نفسي مقموعة فيه .. وليس لي حتى تقرير مصيري وحياتي الخاصة ..
وفي مجلس الرجال أخذت الأصوات تعلو و تلاسن القوم فيما بينهم و كادوا أن يشتبكوا ..
و طرحت مشكلة عدم تكافؤ النسب كبند رئيسي لاعتراض الأسرة .. و أسقطت كل المميزات والدرجات العلمية التي يحملها د. وليد الذي صدم عندما علم بالنتيجة و على الفور تحطمت أماله وهو يعرف أنها واهية سلفاً كخيوط العنكبوت , و قدم استقالته من عمله و غادر إلى جدة بعد عجزه عن الفوز بقلب " مها " و فشله في عبور المستحيل ..
---------------------------------------
 اقرأ المزيد من اليوم الثامن : "عبور المستحيل".. حكاية من واقع الحياة (1-2)