نورالدين خبابه يكتب لـ(اليوم الثامن):
الشرق الأوسط الجديد.. من إرث كامبل-بانرمان إلى تحالفات ما بعد 2025
شهدت المنطقة العربية، منذ سقوط الأندلس عام 1492، سلسلة من التحولات السياسية والاستراتيجية التي أعادت رسم خريطتها الجيوسياسية مرارًا. تداخلت عوامل داخلية كضعف الأنظمة السياسية مع تدخلات خارجية ممنهجة، هدفت إلى تفكيك البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدول العربية والإسلامية. هذا المسار لم يكن عشوائيًا، بل ارتبط بخطط ومؤتمرات دولية سعت إلى ضمان الهيمنة الغربية، ومنع نشوء قوى إقليمية صاعدة.
أولًا: إرهاصات التفكيك منذ القرن الخامس عشر بدأت موجة الهيمنة الأوروبية على العالم الإسلامي مع انهيار الأندلس، واستمرت عبر احتلال المدن الساحلية في شمال إفريقيا. شكلت معركة نافارين (1827) نقطة تحول بارزة، مهدت لاحتلال الجزائر عام 1830. هذه الأحداث لم تكن سوى تمهيد لمشروع تقسيمي أكثر اتساعًا، بدأ في التبلور في مطلع القرن العشرين.
ثانيًا: مؤتمر كامبل-بانرمان وإرثه التقسيمي رغم الجدل الأكاديمي حول مدى صحة وثيقة مؤتمر كامبل-بانرمان (1905-1907)، فإن الوثائق الرسمية اللاحقة تؤكد توجه القوى الغربية نحو منع وحدة المنطقة. وجاءت اتفاقيات سايكس-بيكو (1916)، ووعد بلفور (1917)، ومعاهدة سان ريمو (1920)، كأدوات عملية لترسيخ هذا النهج. أعقب ذلك سقوط الدولة العثمانية عام 1922، وما تبعه من تقسيمٍ شامل للشرق الأوسط، وفق مصالح استعمارية بحتة.
ثالثًا: من الاستقلالات الشكلية إلى صراعات ما بعد الاستعمار رغم حصول عدد من الدول العربية على استقلالها منتصف القرن العشرين، فإن الاستقلال لم يكن إلا انتقالًا من الاستعمار المباشر إلى أنماط هيمنة جديدة. في الجزائر، أدى الاستقلال عام 1962 إلى توترات إقليمية، منها صراع الرمال مع المغرب عام 1963، وما تبعه من دعم خارجي لحركات انفصالية، خاصة في منطقة القبائل. أما قضية الصحراء الغربية، فقد أعاقت بناء اتحاد مغاربي فعّال.
رابعًا: محطات التفتيت الحديثة (1975–2006) اندلعت الحرب الأهلية في لبنان (1975–1990)، تزامنًا مع تصاعد الحرب الباردة في أفغانستان (1979–1989)، ثم الحرب العراقية-الإيرانية (1980–1988)، وصولًا إلى العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. في كشمير، ظل النزاع بين الهند وباكستان قائمًا، وهو ما يعكس تكرار النموذج التفكيكي عبر إذكاء النزاعات العرقية والدينية.
خامسًا: السياق المعاصر بعد 2011 أحدثت انتفاضات ما سمي بـ"الربيع العربي" (2011) زلزالًا سياسيًا أطاح بأنظمة استبدادية، لكنه فتح الباب أمام فراغات أمنية، وتدخلات إقليمية ودولية متزايدة. سقطت أنظمة في تونس، مصر، ليبيا، واليمن، بينما دخلت سوريا في حرب مدمرة. وفي الجزائر، اندلع الحراك الشعبي عام 2019 مطالبًا بالإصلاح، لكنه وُوجه بمحاولات لتفجيره من الداخل عبر خطاب الهوية.
سادسًا: التحولات الأخيرة وتحالفات ما بعد 2025 جاءت حادثة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي (2018) لتكشف عن صراعات عميقة في قلب النظام الإقليمي، لا سيما بين تركيا والسعودية. وفي 2024، أثارت تصريحات مسؤولين خليجيين عن نوايا استهداف قيادات المقاومة اللبنانية جدلًا كبيرًا، خاصة بعد ترجمتها إلى محاولات ميدانية. أما في سوريا، فقد أثار صعود أحمد الشرع إلى السلطة عام 2025، بدعم سعودي وأمريكي، تساؤلات حول إعادة تشكيل النظام السياسي وفق تحالفات جديدة، رغم ماضيه المرتبط بجبهة النصرة.
سابعًا: البعد التركي والمغاربي واصلت تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان استثمار الإرث العثماني سياسيًا وجغرافيًا، مع توسيع نفوذها في الشمال السوري والقرن الإفريقي. أما في المغرب العربي، فتبقى ديمقراطية الواجهة هي السائدة، حيث تُستخدم المؤسسات المنتخبة لتجميل مشهد سياسي تهيمن عليه السلطة التنفيذية.
ثامنًا: الصراعات العرقية والطائفية كأدوات تفكيك اعتمدت القوى الدولية على تنشيط الهويات الإثنية والطائفية كوسيلة لإعادة إنتاج الانقسام. يتجلى ذلك في دعم حركات انفصالية مثل "الماك" في الجزائر بقيادة فرحات مهني، أو في تأجيج التوترات الشيعية-السنية في الخليج، وقمع السنة في إيران، واضطهاد الأويغور في الصين. هذا النهج لم يعد محصورًا بالشرق الأوسط، بل امتد إلى مناطق مثل الشيشان، كشمير، وأفغانستان.
تاسعًا: التمدد إلى إفريقيا: من مالي إلى رواندا في إفريقيا، أعادت القوى الاستعمارية إنتاج أدوات التفتيت تحت شعارات مكافحة الإرهاب أو دعم الديمقراطية. في مالي، جاء التدخل الفرنسي عام 2012 لمواجهة تمرد الطوارق، لكنه ساهم في إضعاف الدولة المركزية. في السودان، أدى انفصال الجنوب عام 2011 إلى إعادة إنتاج الحرب الأهلية عام 2023، وسط تدخلات إقليمية متزايدة. كما واجهت جنوب إفريقيا تحديات اجتماعية عميقة رغم تجاوزها نظام الفصل العنصري. أما مذابح رواندا (1994)، فقد كشفت كيف يمكن للهويات المصطنعة أن تتحول إلى محرقة.
عاشرًا: رؤية للحلول والمخارج لا يمكن كسر حلقة التفتيت دون بناء مشروع إقليمي متكامل، يستند إلى إرادة شعبية ومؤسسات شرعية. ينبغي للجامعة العربية أن تُحدث تحولًا بنيويًا يجعلها أكثر تمثيلًا للشعوب لا الأنظمة، مع تأسيس قناة دائمة للمصالحة الإقليمية. كما يجب دعم مبادرات المجتمع المدني العابر للحدود، وتعزيز التعاون الإعلامي والثقافي لتفكيك الخطابات الانفصالية.
خاتمة: من سقوط الأندلس إلى تحولات ما بعد 2025، لم تتوقف محاولات تفتيت الشرق الأوسط ومحيطه الإفريقي والآسيوي. تداخلت المصالح الدولية مع هشاشة الداخل لتنتج نمطًا من الصراعات المستدامة. غير أن إدراك الشعوب لطبيعة هذه السياسات، وبناء مؤسسات بديلة، قد يفتح الباب أمام واقع جديد، يعيد التوازن إلى المنطقة على أسس من العدالة والسيادة والكرامة الإنسانية