هيثم الزبيدي يكتب:

دبلوماسية النفط السعودية: لكم نفطكم ولي نفط

يذكّر وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، بأجوبته الدقيقة والحاسمة وردوده على الاتهامات الموجهة لبلده، خصوصا بعد قرار أوبك+ الأخير، بسرعة بديهة وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل. السعودية ليست غريبة على الانتقادات والهجمات السياسية والإعلامية. تاريخها المعاصر، وخصوصا منذ حرب عام 1973 والحظر النفطي، كان سلسلة من هذه المواجهات. بعد الحظر النفطي وتغير معدلات أسعار البترول عالميا لصالح المنتجين، كانت الصورة المروّجة في الإعلام الغربي هي لسعودي بدشداشته وعباءته وغترته وعقاله يمسك بيده ماسورة مضخة محطة الوقود في بلدة أميركية. هذه صورة نمطية تربى عليها الأميركي، المواطن العادي والسياسي المحترف.

كان لافتا دائما حجم الفجوة بين السعودية والولايات المتحدة على الرغم من عمق العلاقات بين البلدين وتشعبها. حدثت اختراقات كثيرة بأيدي سفراء سعوديين، لكنها اختراقات مركّزة على أعلى دوائر صنع القرار وعلى مراحل متقطعة. بقي الكونغرس بيئة سياسية معادية للسعوديين. أما الإعلام الأميركي، فحدّث ولا حرج. حتى عندما كانت القوات الأميركية تقاتل جنبا إلى جنب مع القوات السعودية في حرب الكويت، ظلت الصحافة الأميركية على عدائها للسعودية والسعوديين.

في منطقة ملتهبة مثل الشرق الأوسط، كان الحضور الدبلوماسي السعودي لافتا. الأمير سعود الفيصل تصدى على مدى عقود لكل أنواع الانتقادات التي وجهت لبلاده. لم يكن من السهل على السعودية أن تجتاز أزمات الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت وهجمات سبتمبر والصراعات العربية البينية وصولا إلى حرب غزو العراق عام 2003، من دون دبلوماسية رشيقة. لا شك أن هذا النوع من الدبلوماسية يتعزز عندما يكون البلد المعني ثريا وقادرا على عقد صفقات سلاح بعشرات المليارات من الدولارات، وأن يساير في الكثير من الأحيان رغبات الغرب في وضع أسعار النفط ضمن المدى المعقول، ومن ثمّ إعادة تدوير العائدات في شراء ما تحتاجه السعودية، أو فيما تستثمره في الغرب عموما والولايات المتحدة على سبيل الخصوص.

العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية كانت مدا وجزرا. يأتي الديمقراطيون فتتعقد العلاقة، ثم يعقبهم الجمهوريون ليرمّموا ما يمكن ترميمه. تم احتواء تداعيات هجمات سبتمبر في العلاقة الشائكة، لكن ما لم يتم احتواؤه هو غزو العراق. دخلت إيران عاملا أساسيا في هذه العلاقة، مرة بدعمها غير المباشر لسلطة الاحتلال الأميركي بتوفير السلطة البديلة في بغداد بكل علاقاتها المصيرية مع طهران، ومرة بالإيحاء بأنها تساعد القوات الأميركية على الخروج من العراق ومن ثمّ تسليمه لحكومة موالية لإيران، ومرة بقتالها من خلال المستشارين والميليشيات الموالية لداعش، بقوة جوية –للمفارقة – هي القوة الجوية الأميركية. الاتفاق النووي الغربي – الإيراني كان من هدايا الغرب لإيران على دورها في العراق. كل مفردات هذه العلاقة، وصولا إلى سيطرة الحوثيين على اليمن واشتعال الحرب فيه، كانت على حساب العلاقة السعودية – الأميركية.

النفط كان عاملا حاسما دائما في العلاقة. السعودية أكبر منتج للنفط في العالم إلى حد وقت قريب. قررت الولايات المتحدة الاستثمار في النفط الصخري، وأصبحت المنتج الأول. ضغط إنتاج النفط الصخري على الأسعار ومرت الدول النفطية بضائقة حقيقية. واشنطن لم تكن تفكر إلا بمصالح شركاتها وأسعار البنزين في محطات الوقود. ولو جردنا القرارات السعودية من البعد السياسي المرتبط بإيران، فإن رد فعلها بزيادة قدرتها الإنتاجية والتحرك لتوسيع كارتل أوبك ليشمل روسيا وانطلاقة كارتل أكبر وأخطر هو أوبك+ هو رد الفعل الطبيعي، وأن تصبح تلك القرارات من باب المصلحة المقابلة. لكم نفطكم ولي نفط.

حرب أوكرانيا صفحة جديدة في العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة، لكنها تستكمل صفحات سبقتها. التذمر الأميركي من أوبك+ وقدرة الترتيبات الجديدة على التحكم بالأسعار أكثر من قبل، لم يكن ليروق لواشنطن. وزاد من تعقيد الأمر أن دولا منتجة مهمة ظلت بعيدة عن أوبك، انضوت بحكم الحاجة والضرورة في الترتيب الجديد. أوبك+ من يتحكم الآن بحجم الإنتاج العالمي وأسعاره. أضف حرب أوكرانيا إلى المعادلة، فيتحول التذمر الأميركي إلى اتهامات مباشرة للسعودية بدعم المجهود الحربي الروسي عبر تمويله بأموال أكثر من مبيعات النفط. غفلت عين واشنطن عن تسديد أثمان مبيعات الغاز الروسي لكل أوروبا.

في قلب هذا الصراع، كانت شخصنة العداء تنحصر بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. القرار السعودي المستقل غير مرحب به في واشنطن. ومع أول فرصة برزت، وكانت قتل الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول، انطلق العداء السافر ضد السعودية وقيادتها. كانت الولايات المتحدة، بغياب ملموس للوعي، تساعد السعودية على المسير أبعد على طريق تنويع علاقاتها مع القوى الصاعدة في العالم. ولم تزد عنجهية تصريحات إدارة جو بايدن السعودية إلا عنادا.

تصدى مسؤولون سعوديون للانتقادات الأميركية. لا شك أن الحضور الإعلامي للأمير تركي الفيصل مهم. ولكنه شخصية واحدة أمام حملة مترامية. لا يستطيع الأمير تركي أن يكون على كل القنوات التي تناقش أزمة العلاقة مع السعودية. تراجع حضور وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير، وخفت صوته. وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان نشيط، لكنه ليس وجها معروفا في الإعلام الغربي. صورة السفير السعودي الأمير بندر بن سلطان يجلس على حافة الكنبة مرتديا بنطلون جينز أمام الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، أصبحت تراثا يذكر بالنفوذ السياسي السعودي المؤثر على الإدارة الأميركية. صار واضحا حجم الثغرات التي تركها الحضور الإعلامي السعودي في الغرب. السعودية قوة إعلامية مهمة في العالم العربي. لكنها بالتأكيد تحتاج إلى الكثير من العمل والنشاط في الغرب. حين بدأت الحملة الأخيرة، لم تكن السعودية مستعدة بالكامل لمواجهتها إعلاميا. واستفرد المسؤولون الأميركيون بالمشهد وتوجيه اللوم والتهديد بالعواقب.

التضامن الذي حظيت به السعودية من بقية أعضاء أوبك+ كان أقل من المستوى المنتظر. لا أحد يريد أن يدخل في نزاع مع الولايات المتحدة وهي في حالة حرب غير مباشرة مع روسيا. حتى الإخراج كان ضعيفا عندما بدأت برقيات التأييد من وزراء النفط في أوبك+ تتوارد في وقت واحد. في عالم الأنباء، يحتاج الأمر إلى زخم، وهذا لا يتحقق بسلسلة بيانات تخرج في وقت واحد، ثم يطويها النسيان.

أوكلت مهمة التصدي للحملة إلى حد كبير للأمير عبدالعزيز بن سلمان. كان وزير الطاقة السعودي قد سجل حضوره الإعلامي مبكرا. فمنذ توليه الوزارة، بعد سنوات طويلة من العمل وكيلا لوزير النفط، دمج الأمير عبدالعزيز بين التعليق السياسي والتفسير الاقتصادي. إذا كان واردا تسمية “الدبلوماسية النفطية” كمصطلح، فإن هذا ما مارسه الوزير السعودي منذ انطلاقة أوبك+. النفط في قلب السياسة في العالم. لا يوجد كلام عن الإنتاج فقط وحجمه من دون ربطه بالسياسة.

كانت تعليقات الأمير عبدالعزيز لافتة. المسؤولون الأميركيون، ابتداء من الرئيس بايدن، كانوا متحمسين للربط بين سعر النفط وإغراق السوق في خلال الحرب (أو الاستعداد للانتخابات النصفية للكونغرس – لا فرق). لم يحاول أيّ منهم الاستماع إلى التفسير السعودي عن المصلحة الذاتية. لكن التقاطة ذكية من الأمير عبدالعزيز بن سلمان كانت مفيدة. أوبك+ تغيّر من مستوى الإنتاج فينعكس ذلك على الأسعار. أوبك+ مذنبة. ولكن ماذا يمكن أن تسمي الضخ من الاحتياطي الإستراتيجي الأميركي بعشرات الملايين من براميل النفط و”إغراق” السوق لدفع الأسعار إلى الهبوط؟ الالتقاطة لم تمر دون تعليق يكشف الجانب الآخر من الحكاية من وجهة النظر الأميركية. نضخ اليوم من الاحتياطي لندفع الأسعار إلى نطاق 60 – 65 دولارا، ثم نعيد ملء الخزانات من جديد بالرخيص. الرهان الأميركي – بل المقامرة – يقوم على أن الأسعار تنزل بسرعة لكنها ترتفع ببطء كبير. في هذه الفسحة الزمنية، تتم المقامرة، وتتزامن مع الانتخابات النصفية. حرب أوكرانيا وربح وخسارة روسيا عائدات إضافية مسألتان جانبيتان.

مما يزيد من أهمية الدبلوماسية النفطية للأمير عبدالعزيز بن سلمان، أنها تصدر عن وزير هو ابن العاهل السعودي وأخو ولي العهد وأخو وزير الدفاع. هذه حلقة من السلطة ترسخ الانطباع بأعلى درجات التنسيق في فرع الملك سلمان من الأسرة المالكة. لو يتمعن المسؤولون الأميركيون في هذه الحقيقة، سيسهل عليهم فهم حجم التغير الذي حدث في السعودية مع وصول الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى العرش. زمن إقطاعيات السلطة الذي ساد بعد رحيل الملك فيصل بن عبدالعزيز في السبعينات، انتهى مع بداية عهد الملك سلمان.

خلال أيام ستنتهي الانتخابات النصفية للكونغرس. لا نعرف إلى أيّ مدى سيخسر الديمقراطيون. ولكن من المؤكد أن ثمة عودة للإدارة الأميركية إلى التفكير في العلاقة مع السعودية. سنسمع الكثير من التعليقات على لسان وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان. لن تكون هذه التعليقات مريحة لفريق بايدن.