يوسف الحسن يكتب:

قصة فلاديمير الأول

في رحلة لي برفقة الأسرة قبل نحو عقد ونصف العقد إلى روسيا وفي متحف «هيرميتاج» الشهير في مدينة سانت بطرسبيرغ الروسية، وقفت طويلاً أمام لوحة فنية لرسام روسي، تجسد صورة زيتية للأمير فلاديمير الأول، وهو يختار ديانة جديدة لروسيا الوثنية في العام 988م.

كان هذا الأمير، والمعروف باسم «أمير كييف» زعيماً للشعوب الروسية في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا والتي تشكل دولة واحدة، وعانت هذه الدولة الكثير من الصراعات، وهجمات الشعوب المنتشرة في سهول آسيا الوسطى، وكانت القبائل السلافية الروسية وثنية، وتعبد الظواهر الطبيعية.

تقول الرواية التاريخية الموثقة، إن فلاديمير الأول، ولأسباب سياسية واقتصادية، فكر في اعتناق إحدى الديانات المنتشرة في تلك الأزمنة، فاستقبل مبعوثين من بلاد الخزر من أتباع الديانة اليهودية كما استقبل مبعوثين مسلمين من بلاد البلغار والتتار، مثلما التقى مع ممثلين للنصارى من إيطاليا وألمانيا، ليستمع من هؤلاء إلى شرح وافٍ عن دياناتهم، فأما يهود الخزر (وكانوا قد اعتنقوا اليهودية مؤخراً) فقد ردّهم على أعقابهم بعد أن قال لهم «إن ربهم قد نبذهم وشتتهم في أرجاء الأرض، ولو أحبهم لما شرَّدهم».

وأضاف أيضاً: «لا أريد أن يكون مصير روسيا مثل مصيرهم» وفي مناقشته مع مبعوثي بابا روما، لم يعجبه تفسيرهم للعبادة، في حين أعجبه حديث مسلمي البلغار والتتار عن الدنيا والآخرة والجنة، ولكن لم يرضه تحريم لحم الخنزير وشرب الخمرة.
لم يكتف فلاديمير الأول بتلك اللقاءات، فأرسل مبعوثيه إلى القسطنطينية، كما أرسل آخرين إلى بلاد البلغار المسلمين، على ضفاف نهر «الفولغا»، وكانوا قد أسسوا لهم دولة أو إمارة في القرن السابع الميلادي، وكان هدفه من إرسال هذه البعثات، الحصول على مزيد من المعلومات عن طقوس العبادة وأماكنها وطبيعتها.
وحينما عاد المبعوثون، قدموا تقاريرهم للأمير، وحينما سألهم عن موقف الدين الإسلامي تجاه الزواج، أعجبته الإجابة، باعتبار أنه كان مولعاً بالنساء، ولديه العديد من الزوجات والمحظيات، في حين أن الديانة النصرانية صارمة في مسألة الطلاق.
وأثار إعجاب الأمير وصف مبعوثيه لكنائس القسطنطينية بمعمارها الجميل ونظافتها، وطقوس الفرح فيها، ومظهر المصلين، وأناقة المنشدين الدينين.
وعلى عكس ذلك، كان وصف مبعوثيه لمساجد مسلمي البلغار، والتي كانت فقيرة في معمارها، وحزينة في صلواتها، وسمعوا فيها بكاءً كثيراً، ولمسوا فقراً وبؤساً بين الناس.
وحينما سألهم الأمير عن مسألة شرب الخمر والنبيذ، أخبره المبعوثون أنهم تذوقوا نبيذاً مميزاً في عدد من الأديرة النصرانية، في حين أن البلغار يجتنبونه تماماً، ويعاقبون من يتناولونه.
عندها قال الأمير مندهشاً: «وكيف يمكن للروس العيش في هذا المناخ البارد والصقيع والثلج من غير نبيذ أو خمر؟».
وفي المحصلة، ولعوامل أخرى، اختار الأمير النصرانية، كفرع لبطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية.
**
هل يمكن أن نتخيل كيف سيكون مسار التاريخ الأوروبي، لو اختارت روسيا في أواخر القرن العاشر، الدين الإسلامي؟
وفي القرون التالية لتَنصُّر روسيا، كانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، محوراً أساسياً في حياة الدولة الروسية وقياصرتها، وحروبها الجيوسياسية مع الدول المجاورة، وبخاصة مع العثمانيين، ومواجهة الغزوات المغولية، وانتقال العاصمة إلى موسكو في الربع الأول من القرن الرابع عشر.
وقد استقلت الكنيسة الروسية في منتصف القرن الخامس عشر، بعد سقوط مركز الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في القسطنطينية، في العام 1453، ونال قيصر روسيا آنذاك، لقب بطريرك الكنيسة، واضعاً نفسه بمرتبة بطاركة القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية والقدس، واعتبرت روسيا نفسها هي الوريث الحقيقي لعرش الإمبراطورية الأرثوذكسية البيزنطية، وحماية الأرثوذكس. ويذكر التاريخ كيف تقاسم العثمانيون والروس شعاري بيزنطة، فأخذ العثمانيون شعار «الهلال» والذي كان يمثل العذرية ورمزاً فلكياً للقمر وللأنوثة في المعتقدات الرومانية واليونانية القديمة، وشعار «النجمة» البيزنطي، في حين أخذ الروس الشعار البيزنطي الآخر، وهو «النسر ذو الرأسين المطلين على الشرق والغرب».
تمازجت الثقافتان السلافية والبيزنطية في روسيا، وعاشت في تعددية عرقية وثقافية، وأجرت في القرون التالية إصلاحات في النظام الكنسي، لتشكل ملامح عميقة للثقافة والهوية والتطلعات الروسية.. وقد استمر هذا الوضع إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، وقيام الثورة البلشفية والحكم الشيوعي، والذي ألغى هذا الدور الكنسي، وقمع الأديان وأغلق الكنائس والمعابد والمساجد، حتى سقوط الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وولادة روسيا أخرى ومغايرة، للكنيسة فيها دور، ولأحياء الإمبراطورية الأوراسية دور، وللحيلولة دون شراهة التوسع ل «الناتو» في الجوار الروسي دور، ولمنع انشقاق الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن بطريركية موسكو دور (والذي تم في لحظة حرجة في العام 2018، وبدعم غربي، وتأييد من القومية المتطرفة الأوكرانية، والتي أعلنت انتهاء علاقة كنسية مع موسكو استمرت أكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن).
للكنيسة الأرثوذكسية الروسية حضور بارز خلال العقود الثلاثة الماضية في المشهد السياسي الروسي، وعادت اليوم لتشكل رباطاً قوياً للهوية الوطنية الروسية.
لنتذكر دوماً أن النزاع الروسي الأوكراني ليس مفاجئاً، إن له أسبابه وجذوره والأسوأ لم يأتِ بعد.
**
ويسألونك عن النظام الدولي المتوقع، والمضائق والغاز «وعلف البهائم» وأحفاد الخزر والنووي ونجوم الكوميديا، وسر جمال العرق السلافي الشرقي، وثقافة الفايكنغ، والكلمات المتقاطعة في السياسات الدولية..الخ، ويتذكر أحدنا فجأة أن إحدى زوجات السلطان العثماني سليمان القانوني كانت أوكرانية وهي ابنة قس أرثوذكسي روسي، وقد اختطفت أو أُسرت، وبدأت جارية في القصر، ثم تحولت إلى الإسلام، وتزوجها السلطان.
**
«إن الدب الذي لا تستطيع قتله.. لا تجرحه»، مثل روسي قديم