يوسف الحسن يكتب:

المتغطي بالولايات المتحدة الأمريكية "عريان"

كشفت لحظة أحداث الحادى عشر من سبتمبر، قبل عشرين عاما، عن أنماط مبتذلة فى العلاقات الدولية، وسلوكيات شديدة الفجاجة، والغطرسة والأنانية واللاقانونية فى تفاعلات الدول وتعاملاتها.

 

ويمكن القول، أن إرهاصات هذه السلوكيات والسياسات، قد ظهرت مبكرة فى حرب فيتنام، لكنها صارت صارخة قبل لحظة أحداث سبتمبر الإرهابية، بنحو عشرين عاما، حينما بدأ الإعداد الشيطانى لبناء نظام عالمى جديد. وشرق أوسط جديد، وتوفير بيئة دولية صراعية شديدة الفوضى، تسمح بتمرير سياسات هيمنة مشينة وفجة، وتعرقل جهود سلمية لتسوية الصراعات، وتستغل أزمات الآخرين لخلق فرص ومصالح ضيقة، وتستخدم «الوكلاء» فى مناطق الأزمات، وتعزز إشعال الخلافات، وترفع منسوب حدتها، بغض النظر عن أوجاع البشر، وأكلاف الحروب وويلاتها.

إنها وقائع عاشتها شعوب هذا الإقليم الكبير، الممتد إلى ما وراء الهضبة الإيرانية باتجاه آسيا، وصولا إلى أفغانستان، ويجاور شعوبا ودولا فى أفريقيا، ساحلها وقرنها وما وراء صحرائها الكبرى. نتذكر وقائع الحرب العراقية الإيرانية فى الثمانينيات، والتى وصفها الإعلام الأمريكى «بالحرب المنسية»، واستمرت ثمانى سنوات، وولدت حربا أخرى بعد ثلاث سنوات، فسخت الجسم العربى وعطبت روحه، وأثمرت مرارات ممتدة، وسرابا سموه «سلاما»، مازال راقصا بابتذال، و«لا يسمن ولا يُغنى من جوع».

 

وفى الثمانينيات أيضا، أشعل أصحاب السلوكيات والأنماط المشينة فى العلاقات الدولية، حروب (المجاهدين الأفغان) ضد النظام الأفغانى الشيوعى والسوفييت فى أفغانستان، مستخدمين (مقاولين) من عرب وبعض مسلمى ذلك الزمان، ومن تنظيمات إسلاموية سياسية، وفى مكان آخر من الإقليم، كان جيش «إسرائيل» النووية، يحتل أول عاصمة عربية ــ بيروت، وتدمر طائراته الحربية، مفاعلا عراقيا (تموز) قيد الإنشاء، وفى الوقت ذاته كانت إيران، تستعد لاستئناف برنامجها النووى، الذى بدأته فى زمن الشاه، بمساعدة من فرنسا وألمانيا وأمريكا.

نتذكر أيضا، وقائع نهج التهور والغطرسة والسياسات الهوجاء، فى العلاقات الدولية، أثر سقوط الاتحاد السوفييتى، وتوقف الحرب الباردة، وتنامى مناخ النزعات الشعبوية، والأيديولوجيات المتطرفة، واليمين المتطرف الجديد فى أمريكا، وغلبة المصالح الانتهازية والمرتبطة بالأضرار بمصالح الآخر، وتراجع إلزامية القرارات الدولية، والقانون الدولى.

  • ••

فى لحظة أحداث سبتمبر، وهى اعتداءات إرهابية بكل المقاييس، انتعش العنف، وتوالد تطرف مؤدلج جديد، وقوى عنيفة غير دولاتية، آباؤها ورعاتها كثر، وعلى رأسهم أصحاب السلوكيات والسياسات المشينة، وشنت إدارة بوش الابن اليمينية المتطرفة والنزقة، حربين ظالمتين وغير مبررتين على أفغانستان والعراق، كانت وما زالت، لهما أكلاف مادية باهظة، وضحايا بشرية وإنسانية هائلة. ودمار وأخطار جيواستراتيجية هائلة، إن للغازى المحتل أو للدولة المحتلة ومحيطها الإقليمى.

 

خسرت أمريكا حرب فيتنام، وخسرت أرواح نحو ثمانية وخمسين ألف أمريكى، خلال عشرين عاما من الصراع فى شرق آسيا، وانسحبت مهزومة فى نهاية المطاف، وها هو المشهد يتكرر فى أفغانستان، إنه مكر التاريخ وسخريته فى آن، وخيبة أمل تتكرر، ومن أسف، لا أحد يرغب فى سماع مقولة المسرحية المصرية الشهيرة؛ (انتهى الدرس يا غبى)، ولعلهم فى انتظار مشهد ثالث مماثل فى العراق، حينما ينتهى عد السنين إلى العشرين عاما من احتلال أمريكا للعراق، وتدمير الدولة وبنيتها وجيشها، وتسليمه إلى إيران، على طبق من فضة، نعم… ستظل أميركا تعاند وتكابر، رغم فداحة التكاليف، بفعل عوامل القوة (وغرورها) التى تملكها، وبفعل ضغوط وتأثيرات تاريخ هذه الإمبراطورية، على ذهنيتها، وهى التى تأسست بالعنف الجامح، وبه عاشت وما زالت تتعامل به مع العالم.

 

نعم.. هى معادلة معقدة، فتجاهل أمريكا صعب، ومصادقتها أكثر صعوبة، كما أن عداوتها خطر، لكن الخطر الأكبر اليوم هو ألا يقرأ حلفاء أو شركاء أمريكا من العرب، أبعاد ومعانى الأداء الأمريكى الفوضوى فى البيئة الدولية، وبخاصة فى الشرق الأوسط، ونموذجه ساطع فى أفغانستان، فضلا عن سلوكيات مشينة وانتهازية أخرى، فى مراكز صراعية عديدة فى الإقليم، كسوريا وليبيا والعراق وإيران على سبيل المثال.

إن الانكفاء الأمريكى، ولو جزئيا، عن الإقليم، قد يكون بركة للإقليم وجواره، إذا ما أحسنت دولة ملء الفراغ بنفسها وبقدراتها الذاتية، وإدارته بحكمة وعقلانية، وبغطاء من شعوبها، ومن خلال مفهوم الأمن الجماعى، والتنمية المشتركة لا المتنافسة، ومن غير غطرسة أو أوهام «إسبرطة» بالهيمنة.

 

وستظل فى أمريكا، قوى يمينية (حربجية صراعية)، تسعى لمواصلة تنفيذ سيناريوهات الفوضى والانتهازية، وأتباع سلوكيات (الإغارة) المشينة فى البيئة الدولية، وتبنى نظرية (تلزيم) لاعبين: دولا تبحث عن أدوار فى فراغات السياسة الدولية، أو تنظيمات إسلاموية سياسية، فشلت فى القبض منفردة على سلطات مطلقة فى بلادها، أو ميليشيات وأقليات مغرر بها، وتعيش أوهاما دولاتية زائفة، غير قابلة للحياة.

من المبكر التوصل إلى معرفة تأثيرات الإخفاق أو الصدمة، التى تمر بها أميركا فى الوقت الراهن ــ إدارة ومؤسسات ورأى عام ــ وهل ستقوم بمراجعات أساسية لنظرتها لدورها فى العالم، أم سيدفعها هذا الفشل، إلى إظهار «هيبتها» فى أمكنة أخرى، ربما فى الشرق الأوسط، وربما مع الصين، وهل ستفتح هذه التطورات، أبوابا أمام تحولات إقليمية بنيوية، أو توفر مناخات تحفز اللاعبين الإقليميين على التحوط إزاء تداعيات هذه التحولات، أو حتى إعادة التموضع وإجراء مراجعات جذرية، أم مواصلة (الرقص مع الذئاب).

  • ••

أما طالبان، فقيل أنها ستكون طالبان جديدة، لكن لم يقولوا «جديدة» بماذا، صحيح أنها تخلت عن الدراجات النارية فى تنقلاتها وحركتها العسكرية، وركب مقاتلوها عربات مدرعة أميركية، لكن، قلة ــ خارج أفغانستان ــ تدرك كنه الشعب الأفغانى، كشعب مقاتل بشراسة، من أجل قبائله وحكمهم الذاتى القبلى، وما أكثر (الخبراء)، الذين يجهلون تاريخ الشعب الأفغانى وطبيعته، بما فيهم البشتونى، الدبلوماسى والمفاوض الأميركى والأفغانى الأصل، والمولود فى مزار شريف (زلماى خليل زاده).

 

نتذكر اليوم.. مقولة شهيرة للرئيس المصرى الأسبق المرحوم حسنى مبارك؛ (المتغطى بأمريكا عريان)، وكما يقول وزير خارجية مصر الأسبق، والأمين العام الحالى للجامعة العربية (أحمد أبو الغيط) فى مذكراته المنشورة، «إن الشرط الأمريكى لأصدقائها وحلفائها العرب، هو: تشاركوننا فى أعمالنا العسكرية فى أفغانستان، والعراق وسوريا…. فى مقابل صمتنا عن أوضاعكم الداخلية من حقوق إنسان وديموقراطية».

آخر الكلام إن أفضل غطاء هو غطاء الشعب، وقوة الدولة الذاتية، وحكمتها السياسية، المفعمة بالأخلاق والقيم الإنسانية.