يوسف الحسن يكتب:

مُتْعَبونَ من عُروبتنا!

قبل نحو ثلاثة عقود، احتل سؤال «نهاية التاريخ» الذي طرحه فوكوياما، عناوين رئيسية في صحافة ومناقشات مجتمعات دولية كثيرة، وأحدث ذهولاً في مراكز التفكير، رغم أن هذا السؤال، أو ما شابهه، هو قضية فكرية عتيقة، ناقشها مفكرون وأدباء وفلاسفة، وبمناهج متنوعة، وبخاصة الفيلسوف الألماني هيجل، وآخرون من بعده، من أمثال: عالم الاجتماع في جامعة هارفارد، البروفسور دانيال بيل، والذي تنبأ بنهاية الأيديولوجيا، وبولادة مجتمع ما بعد الصناعة، وكذلك المفكر الألماني هربرت ماركوز، والذي قرأنا كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» في مطلع شبابنا، مترجماً إلى العربية، حيث اعتقد أن وسائل الإعلام التقليدي في ستينات القرن الماضي، هي التي نمَّطت الإنسان، وجعلته ذا بعد واحد. ولا أدري، ماذا كان سيقول ماركوز لو كان حيّاً في زمن ثورة الاتصال والمعلومات والتواصل الاجتماعي، وسطوتها وتأثيرها على الإنسان المعاصر.

** ورغم اعتراف فوكوياما بأن الموضوع الذي طرحه، ودرَّ عليه عشرات الملايين من الدولارات، وشهرة في العالم، ليس جديداً، إنما أدخل على القديم بعض التعديلات، فضلاً عن تراجعه الموارب عنه في فترة تالية، إلا أن صدى أطروحته مازال يتردد في فضاءات المحافظين واليمين المتطرف والجديد في الولايات المتحدة الأمريكية.

** لم يتوقف التاريخ، ولم تتوقف معارك الأيديولوجيات، ولم ينته الزمان بانتصار حاسم للغرب، وظلت الحروب الباردة منها والساخنة منتعشة ومقلقة، وكذلك مازال هناك قدر من العنف غير المسبوق، ومن الصراعات التي لا يمكن التكهن بنتائجها!

** اندثرت نظم تسلطية ودكتاتوريات، وبعثت أخرى، وتراجعت ديمقراطيات، وصعدت شعبويات وتنامت عنصريات، وتغيرت أوزان اقتصادية.

** إن التاريخ نفسه لا يُملي على أحد نظامه في الحكم، ويبدو أحياناً أن الحروب والتدافع كسُنّة إلهية، من تعاون واختلاف، وصراع وصدام، هي التي تفعل ذلك.

** مر زمن منذ أن ظن كثيرون أن نموذج الثورة الفرنسية قد ساد العالم، وثبت أن لا نظام في العالم، ولا أيديولوجية، تدّعي لنفسها أنها الخاتمة السعيدة للتاريخ..

** اقتصاديات كثيرة نهضت بدون ديمقراطية، وتآكل قيمي حدث في أجزاء كبيرة من الغرب والشرق، من خلال ازدواجية المعايير في العدالة، وظلت سُنّة التدافع حالة دائمة للنشاط الإنساني باتجاه التدافع الحضاري.

***

** تداعت إلى الذاكرة، وأنا أستحضر السؤال «نهاية التاريخ»، والذي لم يعمر طويلاً، أشباه لهذا السؤال، ترددت خلال العقدين الماضيين، وربما قبلهما أيضاً، تتعلق بشعار تمنى البعض تحقيقه، وهو «نهاية أو موت العروبة»، ونشر أحدهم كتاباً قبل سنوات وعنوانه «في وداع العروبة»، تعبيراً عن حالة ذهنية ثقافية، تنشأ حينما تنهزم الذات العربية في لحظة معينة أو ظرف طارئ.

** تدافعت إلى الذاكرة أيضاً قصيدة نزار قباني «متى يعلنون وفاة العرب؟»، التي كتبها قبل نحو ثلاثين عاماً، وقلنا عنه وقتها، إنه شاعر مارق، وعربي مرتد، ولم نحسب أن نزار قباني آنذاك، كان متعباً بعروبته، مشحوناً بالحسرة والأسى، وهو القائل:

وإذا قسونا على العروبة مرةً

                    فلقد تضيق بكحلها الأهداب.

** العروبة ليست مجرد منطق وجودي وتضامني، بل هي أُفق مستقبلي جمعي بين الشعوب العربية أيضاً، وهي ليست شعاراً، أو ثوباً نخلعه متى أردنا، واستبداله بثوب آخر، بل هي ما هو تحت تحت الثوب، وحتى تحت الجلد، إنها المشتركات والقيم الحضارية والثقافية، والروابط اللغوية والهوياتية، والمصالح المشتركة.

** لم تكن فكرة العروبة يوماً من الأيام فكرة عنصرية أو شوفينية، ولا توجد أدلة تاريخية تثبت أن العروبة، بهويتها الثقافية الجامعة، وبمكوناتها الفرعية الثقافية، كانت منغلقة أو ظلامية، أو أنها كانت منشغلة بأسئلة مقيتة، على غرار: هل كان صلاح الدين الأيوبي عربياً أم كردياً؟ وهل الفقيه الفلاني أو جارك هو شيعي أم سُنِّي أم نصراني أم درزي أم زيدي أم إباضي..الخ؟

** كانت المواطنة هي الأساس في فكرة العروبة، والتضامن والتعاون والتكامل هو الهدف المنشود.

** إن القول ب «موت العروبة» والهروب إلى هويات جغرافية قريبة أو بعيدة، يعنيان حضوراً متصاعداً لكل الهُويات الصغرى، من طائفية ومذهبية وعرقية، وعصبيات جهوية، ومن صراعات بينها.

** لنقل إنها غفوة، ولو عميقة، بفعل إخفاقات عربية متواصلة لمشروعات التعاون والتنسيق والتكامل، وبفعل ضعف الوعي بالانتماء إلى المشترك العام في هذه الأزمنة التي سمتها الكبرى هي الاضطراب والإحباط والكرب الذي سكن النفوس في بلدان عربية كثيرة.

** لماذا نُحمّل فكرة العروبة وزر نظم سياسية، وأخطاء أحزاب سلطوية رفعت شعارات الحرية، ثم غرَّدت بعد أن تقاتلت، خارج سرب العروبة نفسها؟

 ** لماذا نُحملها إشكاليات تكلّس مؤسسات العمل العربي المشترك، وهي الإشكاليات المصنوعة بأيدي نظم عربية، وفي غياب إرادة الفعل الجماعي والمصالح العربية المشتركة؟

***

** متعبون من عروبتنا، ربما صحيح، لكن دعونا لا نقسو عليها، ولا نسعى لرثائها، لأنها هي الهُوية واللغة والوطن الجامع، والنشيد القومي الإنساني.