يوسف الحسن يكتب لـ(اليوم الثامن):

الفلسفة «المورغانية» وترامب

سيحتاج الحزب الجمهورى الأمريكى إلى سنوات لمحو ما سببته سلوكيات وسياسات الرئيس السابق ترامب من فوضى وعبث وقرارات طائشة فى السياسة والمجتمع، وفى تقاليد انتقال السلطة الرئاسية.


صحيح أن مجلس الشيوخ، وليس القضاء، قد برأ ترامب، وفى إطار الثنائية الحزبية الحاكمة للعملية الديمقراطية الأمريكية، إلا أن هذه التبرئة معيبة، وحملته مسئولية أخلاقية.


حوكم ترامب خلال ولايته مرتين، بهدف العزل، وأثار قاموسه المستفز الكثير من الزوابع والأزمات، وأدار علاقات أمريكا الدولية بالتغريدات الفجة، واتخذ قرارات بلا حصافة ولا دراية، وأطلقها كقطار سريع بلا مكابح، ولعب مع الغاضبين والعنصريين وجماعات الضغط المتطرفة، ألعابا خطرة، ولم يغادر المكتب البيضاوى بهدوء أو انصياع للنظام الانتخابى ونتائجه، تشبث بالمكتب والأختام. وبحالة إنكار ذميم للخسارة.


جاء ترامب إلى السياسة، من بوابة ثقافة «الإغارة» المتجذرة فى بيئة الأعمال والتجارة، والتى تمارسها الشركات العملاقة للسيطرة على السوق، وهى ثقافة جسورة، تتجسد فى الاستيلاء «العدائى» على المنافسين.


***


ولعل ترامب وهو يوجه الغاضبين، ومجموعات يمينية شبه ميليشاوية، تتبنى العنف وحمل السلاح، مثل حراس القسم، للإغارة على مبنى الكونجرس، وأثناء انعقاده، كان يستدعى٬ ما فى ذاكرته وخبراته، من فلسفة لقرصان ذكى شهير فى القرن السابع عشر، هو (الكابتن مورغان)، من أصول إنجليزية، والذى كان يرابط فى جزر نائية فى وسط المحيط الأطلسى والكاريبى، ليغير على سفن القراصنة الآخرين فى عرض البحر، العائدين من غزواتهم، والمحملين بالغنائم والكنوز، والمجهدين من الإغارة والقتل، فيسلبهم حمولاتهم (صناديق الاقتراع فى حالة ترامب).


ذاع صيت هذا القرصان، وصال وجال، واستولى على جزر ومدن، فى بيرو وبنما وجمايكا وغيرهم، واعتبره المجتمع البريطانى بطلا قوميا، حينما حارب سفن الإسبان، ومنحه الملك تشارلز الثانى لقب فارس، وترك تأثيرا فى الثقافة الشعبية الغربية فى تلك الأزمنة، حينما كانت الشمس لا تغرب عن الإمبراطورية البريطانية، (لكى لا يهرب قراصنتها فى جنح الظلام)، وورثت أسرته وأحفاده ثروة هائلة، أسست بها البنك الأشهر فى العالم (مورغان ستانلى) فى نهاية القرن الثامن عشر فى نيويورك.


***


تنامت التيارات الشعبوية والعنصرية والمتطرفة فى فترة تولى ترامب للرئاسة، وحضرت بقوة فى السياسة والمجتمع والمؤسسة الحزبية الجمهورية، وصعدت معها القوى الإنجيلية المسيحية، والتى دفعت بقيادات من أتباعها لشغل مناصب تنفيذية وتشريعية وقضائية مهمة حول الرئيس، بدءا من نائبه بنس، ووزير خارجيته بومبيو وآخرين، ويمكن القول إن هذا الصعود هو الموجة الثالثة لليمين المحافظ الجديد والأصولى، وكانت الموجة الأولى فى عهد الرئيس الأسبق ريجان، والتى توجت بانهيار الاتحاد السوفيتى، والثانية فى عهد بوش الابن، ورءوس ساخنة من حوله، والتى غارت على العراق واحتلته، تحت ذرائع واهية، وفتحت بواباته لإيران، سداحا مداحا. ومن غير أن تطلق إيران رصاصة واحدة.


وقد رأت هذه التيارات الشعبوية والأصولية المتطرفة، فى شخصية ترامب الصدامية أكثر من اللازم، زعيمًا وقائدا لخياراتها السياسية والاقتصادية والهوياتية البيضاء الأنجلوسكسونية البروتستانتية (الواسب). وشكلت هذه التيارات تحالفا مع قوى عنصرية لها جذورها وقواعدها فى الولايات الريفية والجنوبية، وتؤمن بتفوق العرق الأبيض، ومدعومة من قطاعات نيوليبرالية متوحشة، وجمعيات شبه ميليشياوية، كانت تحمل السلاح وتتنقل بين عدد من الولايات قبيل الغارة على الكونجرس.


وقد اكتسبت هذه التيارات الشعبوية الديماغوجية، زخما غير مسبوق، وانتشرت فى وسط قواعد الحزب الجمهورى، ووسائط إعلامية غير تقليدية، مما عزز ثقل وأعداد الناخبين لترامب، خاصة إذا علمنا أن عدد المنتمين للتيار الإنجيلى المسيحى المتطرف يصل إلى أكثر من سبعين مليون عضو، فى بلد يذكر الرب فى قسم الولاء، ويعفى الدين من الضرائب، وتشكل التيارات الإنجيلية الأصولية قوة انتخابية وسياسية يحسب حسابها، وهى فئة منظمة ومسيسة وثرية. وتشارك بكثافة فى العمليات الانتخابية.


***


حسنا.. أُخرج ترامب من البيت الأبيض، مرغما ومنكرا لخسارته فى الانتخابات، لكن لم تخرج القوى الشعبوية والعنصرية والإنجيلية المتطرفة من السياسة أو من المجتمع، أو حتى من الحزب الجمهورى. ولم تتبخر منظومات قيمية وأيدولوجية تتبناها هذه القوى.


صحيح أنها خسرت معركة، لكنها حفرت توجهات وعززت مفاهيم متطرفة، فى مقابل بزوغ مخاوف مضادة فى الضفة الأخرى.


أما ترامب، كرئيس سابق، وبحكم طبيعته «المورغانية»، فلا يتوقع أن يخلد إلى الراحة، ويعتكف فى مزرعته، أو فى منتجع للعب الجولف، أو التفرغ لتربية كلب أليف، على طريقة بوش الابن، أو تأسيس مؤسسة خيرية على غرار الرئيس الأسبق كارتر، أو إلقاء محاضرات مثل كلينتون.. إلخ.


وأزعم أن صاحبنا، سيظل شخصا مثيرا للجدل، ولن يتقاعد من السياسة، بل سيبقى فى المشهد العام، كما فى بيئة الأعمال، ومن خلال قاعدته من الغاضبين والإنجيليين ومن داخل الحزب الجمهورى، مستخدما قدراته فى تمويل الحملات الانتخابية، وبخاصة أن الحياة الانتخابية الأمريكية، تتسم بأنها ذات طبيعة مستدامة، نصفية كل عامين للنواب والشيوخ، وأربع سنوات للرئاسة، ولمئات من الوظائف العليا الفدرالية.


سيبقى ترامب فى المشهد العام، وسيسعى لتشكيل كتلة جمهورية، وربما يؤسس مشروعا إعلاميا مثيرا، لكن من الصعب أن ينشئ حزبا، بحكم وجود النظام الثنائى الحزبى، وفقا للنظام السياسى الأمريكى، ولعله يسعى أن يكون فى موقع صانع للألعاب، أو صانع للرؤساء.


ومن المفارقات المدهشة، أن العالم وهو يشاهد ترامب، منكرا هزيمته، ومتشبثا بالبيت الأبيض، شاهد أيضا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهى تحزم حقائبها بهدوء، وتغادر إلى شقتها، لم تتفوه بكلمة نابية، طوال ثمانية عشر عاما من قيادتها لبلدها، ولم يسجل ضدها أى تجاوزات، ووقف الشعب الألمانى كله لعدة دقائق مصفقا لها ومودعا.


لو واصلت أمريكا الإنصات لتغريدات وتقلبات ترامب، فإنها لا محالة، سيرشح العرق من جبينها خجلا، ولصارت أخطر قضايا حقوق الإنسان مطروحة على أرصفة العالم.


لكن ستبقى أمريكا، قادرة على احتمالات الفشل، وتخطيه.