يمينة حمدي تكتب:
التعليم المشروط
تكلف الدروس الخصوصية العائلة التونسية في المتوسط ما يعادل ثلاثمئة دينار شهريا (حوالي 100 دولار)، فيما يبلغ الحد الأدنى للأجور في القطاعين الصناعي والفلاحي نحو 403.104 دينار (133.7 دولار) شهريا.
هذه المفارقة، تكشف عن واقع محزن في أوساط التعليم، ليس في تونس فحسب بل وفي العديد من الدول العربية، وخصوصا بالنسبة للأطفال الذين يولدون في بيئات أسرية فقيرة، بل تعطي صورة واضحة عن حجم المعاناة التي يمكن أن يواجهها أولياء هؤلاء الأطفال في سبيل تدبير شؤون وشجون تعليم أبنائهم، وكل ذلك مرتبط بأسباب تتعلق في معظمها بالمال.
تكاليف الدروس الخصوصية جعلت معظم الأسر بين كفي كماشة، أو هي كالمستجير من الرمضاء بالنار، بعد أن دفع غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار البعض من المدرسين إلى التخلي عن “البوصلة الأخلاقية” لرسالة التدريس، وأصبحت هذه المهنة بالنسبة إليهم بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا.
من الطبيعي، أن يطمح جميع الأولياء إلى حصول أبنائهم على أفضل الدرجات العلمية، وذلك لأن طبيعة العملية التعليمية في معظم البلدان تقيس أداء وذكاء التلاميذ بناء على ما يحصلون عليه من درجات في الاختبارات، لكن حتى وإن حصل بعض التلاميذ على درجات سيئة، فإن المال أصبح قادرا على أن يشتري لهم أعلى الدرجات، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء المذاكرة.
وفي الوقت الذي لا يعتبر فيه التعليم من الأمور التي يمكن شراؤها وإنما من الحقوق الأساسية، فإن ذلك قد بات ممكنا إذا كان لدى أسرة ما المال، لتدفع للمعلمين كلفة الدروس الخصوصية التي أصبحت إجبارية لضمان تفوق ابنها.
والعكس صحيح كذلك، فإذا لم يتوفر لأسرة ما المال الكافي، فعليها أن تفكر من أين ستأتي به لسداد مصاريف الدروس الخصوصية، وإلا حصل ابنها على علامات أقل من زملائه، وقد يخسر العام الدراسي بأكمله، إن لم تتدبر أسرته المال.
وهذا الأمر يسبب القلق والضغط والتوتر والأرق وحتى اليأس، وبالنسبة للأسر محدودة الدخل التي غالبا ما تعيش صراعا ماليا يوميا بين ميزانية محدودة من جهة ودروس خصوصية ومصاريف الأبناء التي لا تنتهي وتكاليف المعيشة المشطة من جهة أخرى، ولا يجب الاستخفاف بهذه الصعوبات، كونها تؤثر وبشكل كبير على فرص حياة الأطفال الذين يولدون فقراء.
عندما زرت تونس العام الماضي، تفاجأت بقصص كثيرة أثارت فيّ الكثير من الأسى والسلوى لذلك الزمن الذي كان فيه المعلم مدفوعا بحبه للتدريس ويبذل قصارى جهده لمساعدة تلاميذه على تحقيق الأفضل، لكن يبدو أن هذا الزمن قد رحل ولم يبق منه غير الذكرى، التي نعزي بها النفس عما وصل إليه حال التعليم في هذا العصر.
من الطبيعي، أن يطمح جميع الأولياء إلى حصول أبنائهم على أفضل الدرجات العلمية، وذلك لأن طبيعة العملية التعليمية في معظم البلدان تقيس أداء وذكاء التلاميذ
حدثتني أختي وجارتنا وزوجة أخي عن الدروس الخصوصية التي اقتحمت المنازل بدلا من الحصص المدرسية، وكيف تحول التعليم إلى ما يشبه المقايضة، فمعظم المدرسين أصبحوا يخضعون النجاح في الامتحان إلى عملية شرطية قوامها الدروس الخصوصية، وإن لم ترضخ الأسر لذلك، فإن أطفالها سيكونون من أكبر الخاسرين، وإن لم يعلنوا ذلك صراحة فإن العبرة بالنتيجة النهائية للعام الدراسي.
الأسوأ أن هناك من الأسر من تستعين بمدرسين خصوصيين لأبنائها الذين مازالوا في المراحل الدراسية المبكرة بتعلة أنهم ليسوا جيدين في بعض المواد، وهي لا تدرك أن أطفالها لا يزالون، من ناحية التكوين البدني والنفسي أطفالا، وهم بحاجة للعب بدلا من شحن أدمغتهم بالمعلومات التي قد تضرهم أكثر مما تنفعهم، وفي واقع الأمر، يظهر عدد كبير من الأدلة العلمية أن العامل المؤثر في تحسين قدرات الأطفال الصغار، لا يتمثل في تكثيف الدروس عليهم بشكل سلبي، أو في عدد المفردات التي تتناهى إلى مسامعهم، وإنما في ما يمكن تسميته “انخراطهم في المحادثات الجيدة”، وهي التي يكون الحديث فيها متبادلا، أي أن يكون في صورة أخذ ورد بالتناوب بين التلاميذ والمدرسين.
لا شك أن الدروس الخصوصية لا توفر فرصا متكافئة لكافة التلاميذ، لأنها عبارة عن سوق سوداء غير مراقبة، تجعل التلاميذ والأسر عرضة للاستغلال والانتهاكات، وكونها تقع خارج منظومة التعليم الرسمية الخاضعة للوائح المنظمة، ولا يمكن قياس مدى تأثيرها على أداء التلاميذ.
مع الأسف، معظم المدرسين الذين يشعرون أن الدروس الخصوصية المشروطة تتعارض مع قيمهم ومبادئهم يدركون أن “ترك بصمة في المجتمع” هو في النهاية قرار، لا يقدر على اتخاذه إلا من كان لديه من المال ما يكفيه.
وفي ظل وجود فشل سياسي حكومي، فإن الآمال في إرسال منظومة تعليمية أفضل للمعلمين والتلاميذ تبقى معلقة على الأجيال القادمة.