سالمة الموشي يكتب:

لماذا لم تقد النساء السعوديات السيارة في يونيو

كانت المسافة الفاصلة بين عام 1990 وعام 2018، بالنسبة للسعوديات، بمثابة تاريخ حقيقي شهد الكثير من التغيرات والأحداث التي طالت مطالبات النساء بحق قيادة السيارة، وهي أيضا المسافة التي امتدت ما يقارب الثلاثين عاما حتى جاء يوم 26 سبتمبر 2017 حيث أصدر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز بيانا أعلن السماح للمرأة السعودية بالقيادة، وباتت العبارة الشهيرة التي تضمنها القرار الملكي “للنساء والرجال على حد سواء”، أي التساوي في حق القيادة وشروطها، العبارة الأشهر على الإطلاق في ما يتعلق بقيادة المرأة للسيارة.

بدت المسافة بين مرحلتين وبين حياتين كلوحة مرسومة بعناية قريبة وواضحة وذات مشهد سريالي شكل فارقاً بين مشهدين لحدثين ومسافتين مؤثرتين، منذ أن قامت نساء السادس من نوفمبر 1990 بأول مطالبة لقيادة السيارة، حين بادرت أكثر من 47 امرأة سعودية بالسير في شوارع الرياض معلنات رغبتهن بقيادة السيارة فيما واجهن الرفض والمقاومة آنذاك.

كان يوم 24 يونيو الماضي، يوم رفع الحظر عن قيادة السيارة، يوما مختلفاً بالنسبة للمرأة السعودية، وبدا وكأن كل شيء يتجه إلى مكانه الصحيح بحيث أعيد ترتيب قطع البازل واكتمال اللوحة المرسومة بعناية، كما أعطى القرار الملكي الحرية التامة لمن أردن قيادة سيارتهن لم يكن الأمر إلزامياً ولا مشروطا بحال من الأحوال، وكان للجميع حسب النظام حق القرار في هذا الأمر، ولكن لماذا لم تقد النساء ولم تخرج السعوديات بأعداد كبيرة أو حتى بأعداد مقاربة لعدد النساء اللواتي ظهرن في نوفمبر 1990 حينما أقدمت 47 امرأة على القيادة في شوارع مدينة الرياض دفعة واحدة. ما الذي حدث؟

لمَ لمْ تٌغادر الطيور الأقفاص حين فتحت لها الأبواب؟ أكان ما حدث مشهدا سرياليا آخر، أو وجها آخر لحقيقة أخرى أو كما قال نبيل فاروق أنه “حتى الطيور الحبيسة لفترة طويلة لا تغادر أقفاصها، عندما تفتح لها بابه فالقهر مثل الحرية، اعتياد”.

كان من الجميل في هذا الحدث أن احتفت وسائل الإعلام بتصوير ولقاء سيدات من هنا وهناك قمن بقيادة سيارتهن، بينما ضج في الوقت نفسه الكثير من العامة ومحدودي التفكير بالتفسيرات السلبية والمضللة والبعيدة كل البعد عن حقيقة الأمر، حيث روج للأمر كونه رفضا من النساء لقيادة السيارة، وبأنه رفض لقرار الدولة بالسماح بالقيادة أو أن للأمر علاقة بالحجاب وبالتدين وغير ذلك من الاعتقادات غير الحقيقية.

وإن كان هناك البعض منهن فهن من تلك الطيور التي رأت في القفص اعتيادا. بينما بعيدا عن كل هذا التصور يبقى في الخلفية أسباب خفية وصور لم تعرض وحكايات لم تذكر. نعم هذا ما يحدث في خلفية الصورة لحقيقة عدم قيادة السعوديات في شهر يونيو الماضي.

قيادة المرأة للسيارة سمحت به الدولة باعتباره حقاً طبيعياً من حقوق المرأة كمواطنة لها حق التجول وحق امتلاك السيارة، ولكن هل تمتلك النساء السعوديات حق القرار في القيادة؟

من الذي يمتلك حق السماح لهن بالتجول وقيادة سيارتهن؟ بالتأكيد ليس الدولة بشكل ما، حيث أن السماح بالقيادة كقرار ساري النفاذ لا يعني أن المرأة نالت حق القرار في القيادة، فكل امرأة وبحكم السلطة الدينية على النساء لا تمتلك حق القرار بالقيادة إلا بموافقة “ولي الأمر”، والذي يكون على الدوام الأب والزوج والأخ والابن والعم. نعم لم تبادر النساء بالقيادة إلا قلة قليلة من اللواتي حظين بموافقة أوليائهن، بينما ظل الأمر عالقاً كخطيئة لا تغتفر، وكندبة لجرح قديم غائر، جرح تاريخي عميق لم يلتئم بعد.

سنوات التغييب عن القيادة تحتاج إلى وقت كاف للخروج منه بشكل تدريجي ومنطقي وطبيعي. ولذلك فإن الأحداث المتتالية والتاريخية سوف تنصف المرأة السعودية

إن الذين يبالغون في تجريم هذا الحق الطبيعي للنساء، وإبداء تخوفهم تجاه قيادة النساء للسيارة وتشويه الأمر وتحميله حمولات دينية، إنما يُخفون حقيقة أن الأمر هو خوف على سقوط سلطتهم على النساء في ما يتعلق بقيادة السيارة والاستمرار بالزج بالنساء تحت اعتقاد كونهن أقل ذكاء وأقل أهلية في العناية بشؤونهن، وربط هذا بأنه معصية للرب وخروج على الدين.

النساء السعوديات لم يرفضن القيادة لأسباب دينية، ولكن لم يستطعن القيادة لأسباب عديدة منها وأكثرها سطوة وقوة وجود ما يعرف “بالولاية على المرأة “والتي مرجعتيها دينية وليست تشريعية، حيث أن الولاية ليست تشريعاً وإلزاماً إلا في مسألة الزواج، وغير هذا فالولاية قصرا على المجنون والصغير لحاجته لها، ومن هنا كان واقع الأمر وفي حقيقته مربكاً اجتماعيا وبحاجة للتغيير وترتيب الأوراق.

عدم اندفاع النساء السعوديات للقيادة هو نصف الحكاية، أما النصف الآخر من الحكاية فهو أن قرار النظام بالسماح لا يعني لهن إلا القليل من الامتياز في ظل استمرار سلطة القوامة على النساء في أغلب وأهم شؤونهن العملية، مثل العمل والدراسة والسفر وقيادة السيارة.

إن سلطة ولي الأمر والتي ساهمت في منع الغالبية العظمى من النساء من قيادة السيارة لم تكن الأمر الوحيد لتفسير عدم مبادرة النساء بالقيادة، ولكنها كانت السبب الأقوى بلا شك وكل هذا يعود إلى قوة منظومة الولاية على المرأة ومدى نفاذها في حياة النساء لكونها السلطة الأكثر سطوة عبر التاريخ والتي تمارس على المرأة وتتوارث عبر الأولياء عليها وتجد ما يغذيها ويبررها دينيا.

بالإضافة إلى عدة أسباب عملية وواقعية حيث لم يكن هناك العدد الكافي من مدارس تعليم القيادة، واقتصرت العاصمة الرياض على مدرسة واحدة فاق عدد المتقدمات لها أكثر من 54 ألف امرأة متقدمة بالكاد حظين بفرصة تدريب.

يضاف إلى ذلك أيضا أن الوقت منذ صدور قرار السماح لم يكن كافياً بالقدر المتوقع ليكون هناك مراكز ومدارس لتعليم النساء القيادة نظامياً في كافة المدن. وفي الوقت الذي تطالب الأنظمة المرورية النساء بالالتزام بقوانين القيادة وأنظمتها، فإن تطلع النساء إلى تحقيق النظام وإثبات الذات والالتزام بالقوانين كان دافعاً لهن لأخذ الوقت الكافي للحصول على رخص قيادة نظامية وتدريب جيد.

يضاف إلى الحاجة للتدريب على القيادة، فإن العديد من النساء لا يملكن المال الكافي لشراء سيارة خاصة. ولذلك فإن قلة قليلة من النساء ظهرت في شوارع العاصمة السعودية وانعدم الأمر أو كاد ينعدم في مدن الأطراف. نعم لم يكن الأمر مجرد انتقال المرأة من المقعد المجاور في السيارة إلى مقعد القيادة فقط، فالمسافة بين المقعدين بعيدة وبينهما يقف العرف الاجتماعي وسلطة الولي وكسر التابو الذي غرس في لا وعي وفي عقل النساء في ما يخص قيادة السيارة.

يظل السؤال الأهم قائما؛ ما الذي سيحدث أن قادت النساء السعوديات؟

ما سيحدث هو التغيير الاجتماعي والاقتصادي، وسيكون نتيجة طبيعية لتوجه الدولة بوعي كبير لمنح النساء حقوقهن وإلى جعلهن جزءا حيويا وهاما من الاقتصاد السعودي، إذ ينطلق قرار السماح بالقيادة للنساء من المصلحة الوطنية التي تخطط لها الدولة بحيث لا يكون نصف المجتمع معطلا وغير فاعل، إذ سيكون هناك العديد من الوظائف المستحدثة للنساء وستزدهر أعمال تجارية واقتصادية كثيرة تتعلق بهذا الشأن.

قدرت وكالة بلومبرغ المالية أن قرار السماح بقيادة السيارة للنساء سيساهم في إضافة 90 مليار دولار إلى الناتج الاقتصادي السعودي بحلول العام 2030. وتوقعت شركة “برايس واتر هاوس كوبرز” للاستشارات أن عدد السعوديات اللواتي سيمتلكن رخص قيادة بحلول عام 2020 قد يصل إلى ثلاثة ملايين.

في نهاية الأمر إن سنوات من التغييب عن حق القيادة تحتاج إلى وقت كاف للخروج منه بشكل تدريجي ومنطقي وطبيعي. ولذلك فإن الأحداث المتتالية والتاريخية سوف تنصف المرأة السعودية ولن تعود ذلك الكائن المجهول والمعطل.