دولة الإخوان تأبى الاعتراف بالواقع الجديد..

تقرير: محاولة اغتيال حمدوك.. دولة الإخوان العميقة في السودان

لا لإجهاض الثورة

الحبيب الأسود

يتوفر السودان على ملمح فريد يميزه عن غيره من الأقطار العربية، وهو أن الدولة العميقة هي منجز إخواني على خلاف كل أقطار الربيع العربي. وكانت ثورة ديسمبر 2018 ضد نظام عمر حسن البشير، في مواجهة تنظيم عقائدي قديم نجح في الهيمنة على كل مؤسسات الدولة وهياكلها، ولذلك لم يكن مستغربا أن تواجه الطبقة السياسية الجديدة صعوبات كثيرة في محاولة القطع مع منظومة الإخوان في الحكم.

 محاولة الاغتيال التي تعرض لها الاثنين الماضي، رئيس الحكومة الانتقالية في السودان عبدالله حمدوك، لم تفاجئ أيّا من المراقبين، فالتحولات الكبرى التي تشهدها البلاد منذ الإطاحة بنظام الكيزان، تهدد مصالح قوى تحكمت في الشأن العام وثروات البلاد وفي توجيه المجتمع إلى مشروعها الأيديولوجي لمدة 30 عاما، وأصبحت لها مصالح وحسابات ومواقع لن تقبل بسهولة التنازل عنها.

علينا أن نتفق أوّلا على أن نظام عمر حسن البشير كان نظاما عقائديا مرتبطا بمشروع الإسلام السياسي، وقد نقل عقيدته من الحزب والمنظمات إلى البناء الهيكلي للدولة، بما في ذلك المؤسسات الأمنية والعسكرية، واقتحم كل المجالات بدءا من الصيرفة والاقتصاد، وصولا إلى التعليم والإعلام والرياضة والثقافة، وبالتالي فإن الدولة العميقة في الحالة السودانية تحولت خلال العقود الثلاثة الماضية إلى كيان مؤدلج غير قابل للتفكيك بسهولة.

خلال السنوات الماضية تعرضت أنظمة عقائدية في المنطقة إلى تدخل خارجي مباشر لتفكيكها عبر تفكيك مؤسسات الدولة ذاتها، وهو ما حدث في العراق وليبيا، وكاد أن يحدث في سوريا، لكن الأمر في السودان يختلف. فثورة ديسمبر 2018 كانت عفوية قادها الفقراء والجياع بدرجة أولى، بسبب فساد النظام وعزلته الإقليمية والدولية التي استفاد منها الإسلاميون لنهب الثروات والانفراد بها على حساب الشعب المحروم، ولا يمكن الحديث عن تدخل خارجي في تلك الثورة، ولا عن دور للقوى الكبرى أو لمجلس الأمن الدولي، فالشأن كان داخليا وكان على الحل أن يكون سودانيا محضا، وعلى علاج الأزمة أن يأتي من إرادة السودانيين أنفسهم.

يشير المراقبون إلى أن الدولة العميقة في السودان هي دولة الإخوان التي شكلها عمر البشير عبر منظومته العقائدية التي قادها عدد من رموز الحركة الإسلامية. فبعد انقلاب عام 1989 قاد النظام معركة أمنية لترسيخ هيمنته، سرعان ما دعمها بالسيطرة على النظام المصرفي، ثم التركيز على التعليم والاقتصاد، وربط مصالحه بخلاياه المنتشرة في كل مكان، كما استغل الإخوان الوضع لتنفيذ سياسة التمكين في قطاع الخدمة المدنية، وفي مختلف مؤسسات القطاع العام، ومن خلال ابتزاز القطاع الخاص.

وأصبح الارتباط بالنظام يوفر لأصحابه امتيازات مهمة كالحصول على الوظائف والأراضي والمساكن والقروض المصرفية، بينما تم استغلال نسبة مهمة من السودانيين من الطبقات المحرومة والمهمشة بوهم الدولة الثابتة على القيم الدينية، والنظام المدافع عن عرين الإسلام، والرئيس المؤمن المصلح عمر البشير صاحب القرارات والمواقف المقتبسة من صحيح الدين.

وعندما أطاحت الثورة الشعبية بالنظام في السودان، أدرك الإسلاميون أنهم خسروا مقاليد الحكم لكنهم لم ييأسوا من استردادها، فتاريخ البلاد أثبت في مناسبات عدة، أن الإسلام السياسي متغلغل في مؤسسات الدولة، وكذلك بين فئات المجتمع، ما يجعله يتجه في كل مناسبة إما لافتكاك الحكم، أو للتسلل إليه منذ أن انضموا في العام 1977 إلى نظام جعفر النميري في إطار ما سمي آنذاك بـ”المصالحة الوطنية” بعد عام من محاولة الانقلاب العسكري التي قادها العميد محمد نور سعد بدعم من نظام القذافي، وبمشاركة مسلحين تدربوا في ليبيا من بينهم من كانوا ينشطون تحت قيادة حسن الترابي.

وعندما شكل الترابي الجبهة الإسلامية القومية عام 1986 كان هدفه الأبرز هو أسلمة المجتمع وتأسيس حكم الشريعة الإسلامية في السودان، ليتمكن لاحقا من اختراق البرلمان والحكومة والجيش والمنظمات المحلية والإقليمية ومنظمات رعاية المرأة والشباب، وقامت الجبهة بإنشاء منظمات الرعاية الخاصة بها مثل شباب البناء ورائدات النهضة، كما أقامت الحملات التعليمية لأسلمة المجتمع. وفي نفس الوقت نجحت في السيطرة على مؤسسات إسلامية خيرية من أجل الترويج لأفكارها في المجتمع.

كان أهم ما يمكن التأكيد عليه آنذاك هو أن الإسلاميين بزعامة الترابي استفادوا من مشاركتهم للرئيس النميري من 1979 حتى 1985 في التمكين الاقتصادي والاجتماعي، وفي التغلغل في مفاصل الدولة، ليسيطروا بعد ذلك على المصارف الإسلامية الناشئة عبر توظيف كوادرهم، ثم لتمويل مشاريع عناصرهم.

لم تكن الانشقاقات المتتالية في صفوف الإخوان خلال تلك المرحلة سوى تبادل للأدوار، فالترابي انتخب عام 1969 أمينا عاما لجماعة الإخوان، وعندما انخرط تياره في الحكم عام 1977 حل التنظيم بسبب منع الأحزاب في فترة حكم النميري، ثم أسس بعد الانقلاب على النميري عام 1985 الجبهة الإسلامية القومية على أساس أنها لا تعبر عن الإخوان الذين بقي لهم تيارهم تحت مسمى تنظيم الحبر يوسف نورالدائم، وبعد انقلاب 1989 حصل ائتلاف بين حزب الأمة والجبهة الإسلامية القومية، وعلى إثره تم تعيين حسن الترابي في منصب نائب رئيس الوزراء. إلا أن الجبهة سرعان ما استقالت من الحكومة بعد أن دخل الصادق المهدي في محادثات سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان تم بموجبها اتفاق بين الحكومة والحركة الشعبية على وقف إطلاق النار، تبعه إلغاء قانون الشريعة وحل حالة الطوارئ، وإبطال الأحلاف العسكرية مع مصر وليبيا. ولكن وفي الثلاثين من يونيو من نفس العام تم إسقاط حكومة صادق المهدي بعد انقلاب قاده عمر البشير، حيث قامت الحكومة الجديدة بحل البرلمان والأحزاب السياسية ونقابات العمال.

لم يتأخر البشير كثيرا في إعلان هويته العقائدية، حيث أعلنت حكومته انتماءها للجماعة الإسلامية في السودان وظهر الأمر أكثر بعد إطلاق سراح الترابي وتقلده لمناصب مهمة في الدولة كان آخرها رئيس المجلس الوطني. ومن التصريحات المهمة التي أدلى بها البشير أن “الإنقاذ الوطني لا تعرف الفصل بين الدين والسياسة والموضوع غير قابل للنقاش”، وكتب النيل أبوقرون (قيادي بارز بالحركة الإسلامية آنذاك) أن “النظام الإسلامي هو الأمثل.. والأحزاب سبب كوارث السودان، والحزبية شرك بالله”.

تحول السودان في عهد البشير إلى حاضنة للإسلام السياسي والجماعات الإرهابية ولإخوان المنطقة، وحليف للتيارات المتشددة، وصاحب قوانين مثيرة للجدل تتعلق بتطبيق الشريعة والتضييق على الحريات العامة والخاصة باسم الدين، حيث لم يخرج من جلباب الترابي رغم انقلابه عليه والزج به في السجن عام 1999، وانقسام الحزب الحاكم إلى شقين أحدهما المؤتمر الوطني بزعامة الترابي، والثاني هو المؤتمر الوطني بزعامة البشير وتحت قيادة نائبه علي عثمان طه.

وفي كل تلك الظروف تحول السودان إلى مخبر متواصل للإسلام السياسي باختلاف مسمياته، وكانت مفاصل الدولة مخترقة من الجماعات الإخوانية التي كانت لديها القدرة على تغيير مفرداتها وفق الوضع السياسي العام، إلى أن كانت الثورة التي أطاحت بالبشير، والتي لم يستسلم الإخوان لأحكامها، وإنما عملوا على اختراقها سواء بالانقلاب على النظام السابق واعتباره نظاما دكتاتوريا لا يمتُّ بصلة للمشروع الإسلامي، أو بالتجييش ضد الثوار والقوات المسلحة، والعمل على الانقلاب عليها كما حدث في يوليو 2019 عندما أعلن الجيش السوداني إحباط محاولة انقلاب عسكري واعتقال مجموعة من كبار الضباط وبعض أعضاء الحزب الحاكم السابق، مشيرا إلى أن من بين المعتقلين بتهمة التخطيط للانقلاب، رئيس أركان الجيش الفريق أول هاشم عبدالمطلب أحمد، وعدد من ضباط القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني كما احتُجز قيادات من الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني، ويجري التحقيق معهم لمحاكمتهم.

وأكد البيان أن “الانقلاب يهدف إلى إجهاض الثورة وعودة نظام البشير الذي أطاح به الجيش في أبريل بعد أشهر من الاحتجاجات”، وأن “الانقلاب أراد قطع الطريق أمام الحل السياسي المرتقب الذي يرمي إلى تأسيس الدولة المدنية”.

خلال الأشهر الماضية شهد السودان الكثير من الأحداث المهمة التي أشرت إلى سعي للقطع مع حكم الإخوان، واجتثاث منظومتهم من مفاصل الدولة، لكنهم واصلوا تحركهم بدعم قطري تركي وبتخطيط قوى داخلية وخارجية، مستفيدين من التحريض الإعلامي والأيديولوجي، فكل ضربة توجه لمراكز نفوذهم يعتبرونها اعتداء على الإسلام، وكل خطوة للانفتاح على العالم يعتبرونها تحالفا مع أعداء الدين، مستغلين بالخصوص فتح جسور التواصل مع الولايات المتحدة، واجتماع رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى جانب استمرار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وإلغاء القوانين المنبثقة عن الشريعة والتي اعتمدها نظام البشير لتقييد الحريات، ومنها حرية النساء في ما يتعلق باللباس والتنقل والعمل والدراسة، واعتماد الجَلد في معاقبة المخالفين، مستغلين ذلك في محاولات التحريض على النظام الجديد، لتكون محاولة اغتيال عبدالله حمدوك إحدى نتائج ذلك التحريض.