سعيدة الشيبة تكتب لـ(اليوم الثامن):

جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.. حلم المساواة الذي يقاوم النسيان

في خضم التحديات التي تعصف باليمن، حيث تتردى الخدمات الأساسية، وتغيب الدولة كمؤسسة فاعلة، وتتلاشى الآمال وسط صراعات النخب وتقلبات المصالح، يرتفع صوت الكثير من اليمنيين، خصوصاً في الجنوب، معبرين عن إحباطهم العميق قائلين: "سئمنا من وضعنا الحالي". هذا الصوت ليس مجرد تذمر عابر، بل هو تعبير عن شعور بالخسارة وقلق من مستقبل غامض. في هذا السياق، يعود الحنين إلى "الزمن الجميل" في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ليس كهرب أعمى إلى الماضي، بل كاستحضار لمرحلة تميزت بقيم المساواة، العدالة، حضور الدولة، وتمكين الإنسان. هذا المقال يحلل هذا الحنين، ويستعرض الفجوة بين الماضي والحاضر، ويتساءل: هل يمكن استعادة تلك القيم في سياق اليمن اليوم؟

 

في فترة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، كانت الدولة في الجنوب رمزاً للحضور المؤسسي. التعليم المجاني كان حقاً مكفولاً من الروضة إلى الجامعة، مع توفير السكن الجامعي والبعثات الدراسية للطلاب. المدارس كانت مجهزة بالمعلمين المؤهلين والمستلزمات التعليمية، والمناهج التعليمية صيغت لتعزز الوعي الوطني والجماعي. هذه السياسات لم تكن مجرد وعود، بل كانت واقعاً ملموساً ساهم في بناء جيل متعلم وواعٍ.

في المقابل، يعاني اليمن اليوم من انهيار منظومة التعليم. الأسر باتت تتحمل أعباء تعليم أبنائها من قوت يومها، حيث أصبحت الدروس الخصوصية بديلاً عن التعليم الرسمي المتدهور. الجامعات تحولت إلى مؤسسات ربحية، والفساد الإداري ينخر الكفاءة والجودة. هذا التراجع ليس مجرد انهيار خدمي، بل هو خسارة للاستثمار في الإنسان، الذي كان يُعد ركيزة أساسية في "الزمن الجميل".

 

في تلك الحقبة، كان خريجو الجامعات والمعاهد يجدون وظائفهم فور تخرجهم، حيث كان القطاع العام قوياً وداعماً للكفاءات. هذا النظام وفر استقراراً اقتصادياً واجتماعياً، وساهم في بناء مجتمع متماسك. أما اليوم، فالبطالة أصبحت واقعاً قاسياً، حيث يعاني الشباب المؤهلون من غياب فرص العمل، وسوق العمل أصبح رهينة الوساطات والمحسوبية. غياب الحد الأدنى للأجور والضمان الوظيفي دفع العديد من الشباب إلى الهجرة بحثاً عن حياة كريمة، مما أدى إلى نزيف العقول والكفاءات.

 

كانت المرأة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية شريكة فاعلة في المجتمع. شغلت مناصب قيادية، بما في ذلك الوزارات، وتم سن قوانين تحميها من العنف والتمييز. اتحاد نساء اليمن كان منصة قوية للدفاع عن حقوق المرأة وتعزيز مشاركتها في اتخاذ القرار. لكن اليوم، تتراجع مكانة المرأة بشكل ملحوظ. استُبعدت من المشهد السياسي، وأصبحت ضحية لممارسات رجعية، بما في ذلك العنف المنزلي والتمييز، في ظل غياب قوانين رادعة. هذا التراجع ليس مجرد خسارة لنصف المجتمع، بل هو تهديد للتنمية الشاملة.

 

كانت الرعاية الصحية في تلك الحقبة نموذجاً يُحتذى به. المستشفيات العامة كانت مجهزة بالأطباء والأدوية، وتقدم خدمات مجانية مع نظام وقائي فعال يغطي الريف والمدن. أما اليوم، فالرعاية الصحية تحولت إلى عبء على الفقراء. المستشفيات الحكومية تفتقر إلى أبسط الإمكانيات، والمستشفيات الخاصة تفرض رسوماً باهظة، مما يجعل المرضى عرضة للاستغلال. النساء والأطفال يدفعون الثمن الأكبر، حيث تزايدت الأوبئة وسوء التغذية نتيجة انهيار النظام الصحي.

 

في "الزمن الجميل"، سعت الدولة إلى تقليل الفوارق الطبقية عبر تأميم الممتلكات الكبيرة وإعادة توزيعها لخدمة الصالح العام، مع سن قوانين تحمي العمال والفلاحين. هذا النهج عزز التماسك الاجتماعي وقلل من التفاوت الاقتصادي. لكن اليوم، تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل مخيف. النخب النافذة تتراكم ثرواتها، بينما تكافح الغالبية لتأمين لقمة العيش في ظل اقتصاد هش وفساد متفشٍ.

 

الحديث عن "الزمن الجميل" لا يعني الدعوة إلى استعادة الماضي بحذافيره، فكل مرحلة لها سياقها وتحدياتها. لكنه استحضار لقيم المساواة، العدالة، والكرامة التي كانت سمة تلك الفترة. اليمنيون اليوم لا يطالبون بالمستحيل، بل بدولة تحترم مواطنيها، وتضمن حقوقهم الأساسية في التعليم، الصحة، العمل، والمشاركة السياسية. إنه طموح مشروع لاستعادة مفهوم المواطنة، حيث يعيش الرجل والمرأة بكرامة، بعيداً عن الفساد والتفاوت الطبقي.

 

إن صرخة "سئمنا من وضعنا الحالي" ليست مجرد تعبير عن الإحباط، بل هي دعوة للتغيير. الحنين إلى "الزمن الجميل" يعكس يقيناً بأن بناء دولة عادلة ومتساوية ليس مستحيلاً، فقد تحقق في الماضي ويمكن أن يتحقق مجدداً. المطلوب هو إرادة سياسية ومجتمعية لإعادة الاعتبار للإنسان، واستعادة قيم المواطنة والعدالة. إن التغيير ممكن، إذا آمنا بأن أحلامنا ليست مستحيلة، وأن اليمن يستحق أن يعيش شعبه بكرامة، كما كان في ذلك الزمن الجميل.