إيهاب مادبو يكتب لـ(اليوم الثامن):
انهيار السردية الرسمية في السودان.. بين الميدان والشاشة
في مشهد يتكرر بتفاصيله المملة عقب كل انتكاسة ميدانية، ينبري الإعلام الموالي للحرب بضجيجه المعتاد، ويُخرج "علفًا" دعائيًا جديدًا، محاولًا تغليف الفشل ببهلوانيات لفظية والتلاعب بعقول أنهكها الحصار والتضليل. وآخر ما تفتّقت عنه عبقريات هذا الإعلام المأزوم هو الزعم بأن استهداف قوات الدعم السريع لميناء بورتسودان بالطائرات المسيّرة سببه "هزائمها" المتلاحقة.
يا لسخرية هذا المنطق! كيف يُعقل لمن يزعم انتصارات متواصلة أن يبرر الضربات المؤلمة على آخر الموانئ الاستراتيجية الخاضعة للحكومة بأنها صادرة عن طرف "منهزم"؟ وهل يصدر فعلٌ ميداني منظم، دقيق، وموجّه إلى شريان الدولة الاقتصادي من قوة في حالة انكسار؟ الواقع على الأرض يفنّد هذه الأوهام، والحقائق لا تُكذّب.
الدعم السريع لم يُهزم كما يزعمون، بل يواصل تحقيق تقدّم مطّرد في مناطق ذات أهمية استراتيجية؛ استولى على النهود والخوي، ولا يزال الجيش محاصرًا جنوب أم درمان، وعاجزًا عن تأمين النيل الأبيض، بينما يتزايد التهديد لمدينة الأبيض، عاصمة شمال كردفان. فأين "الانهزام" في هذا المشهد؟ أهو جهلٌ بالميدان، أم حالة إنكار جماعي يعيشها دعاة الحرب بعد أن فشلوا في تحويل الهزيمة إلى نصر إعلامي – ولو زائف؟
ولله الحمد، فقد بدأ إعلام الفلول – على استحياء – يتحدث عن ضرورة الجلوس إلى طاولة التفاوض، بعد أن باعوا لأنفسهم وأتباعهم أوهام الحسم العسكري. لا يفهمون إلا بلغة الردع، ولا يفيقون إلا على صفعات الواقع. والأعجب أن بعضهم، كالمأفون الطيب لعوتة، بات يدعو للتدخل الأجنبي تحت لافتة "الاستعانة بجهات أخرى"!
والأغرب أن حكومة "بورتوكيزان" تستنجد بحكومة المملكة العربية السعودية لإطفاء حرائق مستودعات بورتسودان، بينما تتجاهل دعوات الرياض ذاتها لإطفاء نار الحرب كلها عبر مفاوضات منبر جدة. مفارقة لا تخفى إلا على أعين أُطفئت عمدًا.
فاستهداف الميناء ليس عبثًا ولا جنونًا، بل رسالة عسكرية واقتصادية دقيقة: لا خطوط حمراء في حرب فرضها تحالف السلطة والسلاح. ومن يملك زمام المبادرة ويضرب بهذا المستوى لا يُوصف بالمهزوم إلا في قاموس إعلام مفلس، فقد البوصلة، واحترامه لعقول الناس.
حكومة "بورتوكيزان" تنهار تحت وقع الضربات؛ إذ لم يجد وزير الطاقة والنفط ما يقوله سوى أن الضربات جاءت من "البحر الأحمر"، متجاهلًا أن العدو لا يطرق الأبواب، بل يكسرها. أما الانهيار الحقيقي فليس بسبب المسيّرات، ولا بسبب قرار محكمة الجنايات الدولية برفض شكوى السودان ضد الإمارات، بل بسبب إعلام خاوٍ، يزوّر الحقائق ويعجز عن مواجهة الواقع.
لقد أصبح إعلام دعاة الحرب خنجرًا مسمومًا في خاصرة الدولة؛ لا يحسن سوى التبرير والتضليل، لا يرى إلا بعين واحدة، ويهلل للهزائم كما لو كانت انتصارات. إعلام بلا مهنية، بلا مصداقية، بلا ذرة احترام لمعاناة الناس.
الواقع لا يُخدع، والزمن كفيل بفضح من يبيع الوهم، ويُصرّ على إنكار أن الحرب تُدار بالعقل والشرعية، لا بالجعجعة والدعاية. وأولئك الذين يفرحون بالكذب ويقتاتون على التزييف، فخيبتهم القادمة آتية لا محالة.