الابتعاد عن الأضواء..

تقرير: "شاهر عبدالحق".. شخصية يمنية تجمع بين البساطة والغموض

شاهر عبدالحق رجل أعمال يمني محاط بالغموض والصفقات

صالح البيضاني
كاتب وباحث وسياسي يمني، عضو مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، عضو الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.

تجمع شخصية رجل الأعمال اليمني شاهر عبدالحق الذي رحل قبل أيام، بين البساطة والغموض في ذات الوقت. فبقدر حرصه على الابتعاد عن الأضواء، إلا أنه حضر بقوة في أكثر الملفات جدلا وسخونة، حيث أغرى ميله للغياب قرون استشعار الإعلاميين وعيون الصحافة ووسائل التواصل للتنقيب عن تاريخه الحافل بالأحداث والتحولات، وخفايا علاقاته الممتدة عبر القارات.

يجمع الذين عرفوا عبدالحق عن كثب على شخصيته الفريدة، فإلى جانب السمات الشخصية التي لازمته حتى وفاته في أحد مستشفيات ألمانيا، مطلع أكتوبر الجاري، والتي يغلب عليها طابع الرجل الريفي متقد الذكاء، يدرك كل من اقترب من تفاصيل سيرته الذاتية، أنه أمام رجل أعمال من طراز خاص، تردد اسمه كثيرا في دهاليز السياسة رغم أنه لم يكن مولعا بها، بقدر ما حاول تطويعها لخدمة أعماله التجارية وتسييج مصالحه المتشعبة.

قضية تهريب اليهود

ارتبط اسمه بالكثير من القضايا الأكثر إثارة في وسائل الإعلام اليمنية العربية والعالمية، بعض تلك القضايا كان على صلة وثيقة بها، والبعض الآخر ما يزال موضع شك، حيث تردد اسمه في قضية تهريب اليهود “الفلاشا” واليهود اليمنيين إلى إسرائيل وقضية اغتيال الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي، كما ورد اسمه في وثائق ويكيليكس وبنما، و”كوبونات” برنامج النفط مقابل الغذاء العراقي.

لم يكن عبدالحق يبدي توجهات سياسية واضحة تكشف عن خلفياته الثقافية، حيث كان أقرب إلى رجل الأعمال مفرط البراغماتية، ليبرالي النزعة، كما كان صديقا للأنظمة والحكام وأصحاب النفوذ، فيما لم تجمعه كما يبدو من سيرته أيّ علاقة ودّ بالتيارات الإسلامية التي وضعته على قائمة أهدافها الإعلامية في اليمن وألصقت به العديد من التهم التي لم يكن يردّ عليها أو يتفاعل معها، وقد شيعته تلك الحملات التي لازمته خصوصا في السنوات الأخيرة إلى قبره بسيل من الاتهامات، فوصم بأنه رجل أعمال بلا بصمات إنسانية أو خيرية كغيره من رجال الأعمال اليمنيين الآخرين الذين ارتبط اسم بعضهم بالمنظومة الدينية التقليدية في اليمن وأنشطة الجمعيات الخيرية.

وعلى الصعيد الشخصي ارتبط عبدالحق بعدد قليل من المثقفين اليساريين في اليمن، وحافظ على علاقة متينة بالرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح حتى وفاته، كما تجاوزت علاقاته الغامضة النطاق المحلي والإقليمي إلى العالم، فظهر برفقة الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا، وحافظ على علاقة دافئة مع سياسيين وصحافيين وزعماء من مختلف دول العالم.

تشبه بدايات عبدالحق غيره من رجال الأعمال في محافظة تعز التي ينتمي إليها، حيث ولد في العام 1938 وتلقى مراحل التعليم الأولية، قبل أن يؤسس أول شركة تجارية حملت اسمه في العام 1962 وهو العام الذي اندلعت فيه الثورة اليمنية على النظام الإمامي في الشمال.

واستطاع متسلحا بملكاته التجارية الفطرية وإجادته للغة الإنجليزية وشغفه بجمع المال وريادة الأعمال، إضافة إلى قدرته على قراءة الواقع السياسي والتحولات الاقتصادية، وقدرته على نسج شباك العلاقات، أن يصنع مملكته المالية التي توسعت أفقيا وعموديا لتشمل قطاعات جديدة، ومناطق انتشار أوسع تجاوزت اليمن إلى أفريقيا والشرق الأوسط والعالم، لينتهي به المطاف كواحد من أقوى الشخصيات الاقتصادية العربية.

اكتمل شكل إمبراطوريته الاقتصادية “العائلية” التي عملت في مجال النفط والغاز والمعادن من خلال التنقيب في عدد من دول العالم، وأخذ يستحوذ إلى جانب اشتهاره بلقب “ملك السكر” على عدد من الشركات والعلامات التجارية العالمية في مجال المشروبات الغازية التي أصبح وكيلا لأكبر شركاتها “كوكاكولا” في مصر واليمن، عبر تسعة مصانع لتعبئة منتجاتها وتصنيعها وتوزيعها في مصر واليمن.

اقتحم عبدالحق مجال الشركات الصناعية بقوة في العام 1984 من خلال إنشاء شركة الشرق الأوسط لصناعة الزجاجات المستخدمة في تعبئة الأغذية والمشروبات الغازية في مصر، كما يمتلك ثاني شركة اتصالات في اليمن تم افتتاحها في العام 2001 وافتتحت فروعا لها في بعض الدول الأفريقية لتقديم خدمة الهاتف الجوال.

ولا يكاد يغيب قطاع اقتصادي أو صناعي عن أنشطة عبدالحق، الذي امتلك شركات استثمارية للفنادق والبنوك والعقارات ووكالات السيارات، حيث يمتلك على سبيل المثال فندق “تاج سبأ” الذي يعد من أهم وأقدم الفنادق في اليمن وبنك اليمن الدولي، وتستحوذ شركته على وكالة شركة بنز في اليمن و”زيروكس“، وشركة ”فيلبس”، و“ويرلبول” للأدوات المنزلية، كما يمتلك حصة كبيرة في الشركة الوطنية للدخان في إثيوبيا، بوصفها المحتكر الوحيد لصناعة السجائر في إثيوبيا.

الرجل الهدف

خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته على الأقل، تحول شاهر عبدالحق إلى هدف مغرٍ لوسائل الإعلام، نتيجة لحالة الغموض التي ظلت تكتنف شخصيته وتخفي أعماله وأنشطته في الوقت الذي ورد اسمه في أكثر التقارير السرية إثارة للجدل. لقد أصبح هدفاً سياسياً وإعلامياً للمعارضة اليمنية في 2011 بعد انحيازه للرئيس صالح ونظامه، وأشيع حينها أن ثمة شراكة تجارية تربط الرجلين، وأن عبدالحق يقوم بدور يتجاوز صورته النمطية كرجل أعمال تقليدي من خلال قيامه بأدوار أخرى أكثر تعقيدا من بينها نقل الرسائل السياسية، والمشاركة في عقد الصفقات المحلية والإقليمية والدولية، وصولا لاتهامه بتبييض الأموال وتجارة السلاح كأحد الموردين الرئيسيين الذين تعاقدت معهم وزارة الدفاع اليمنية لشراء أسلحة ومعدات عسكرية أوروبية.

وفي سياق الحرب الإعلامية المشتعلة بين النظام والمعارضة في العام 2011 تجددت الحملة الإعلامية على عبدالحق، وأعيد اتهامه إعلاميا بالتورط في اغتيال الرئيس الحمدي عبر دور مزعوم قام به بإحضار فتاتين فرنسيتين وجدتا مقتولتين مع الأخير بهدف تشويه صورته، وهي التهمة التي لم تستند إلى أساس كما تقول العديد من الحقائق التي نشرت حول القضية لاحقا.

وتصاعدت حملة الاستهداف الإعلامي التي طالت الرجل بشكل ملحوظ في أعقاب اللقاء الذي جمعه في مارس 2011 بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، خلال الاحتجاجات التي ضربت عدداً من الدول العربية، من بينها اليمن وليبيا، بوصفه مبعوثا خاصا للرئيس اليمني كما جاء في الخبر الذي بثه التلفزيون الليبي آنذاك، واتّهم بلعب دور ما لاستهداف ما سمّي “الربيع العربي” حينها لصالح “الأنظمة” التي كانت تربطه بها علاقات قوية.

وثائق ويكيليكس ووثائق بنما والملاذات الضريبية، لا تخلو من اسم عبدالحق، ووفقا لتقارير صحافية استقصائية تتبعت اسمه، فإن عائلته تمتلك أكثر من 18 شركة في جزر العذراء البريطانية تم استخدامها كواجهات لإبرام العقود والتهرب الضريبي

ومن أغرب المواقف المرتبطة بعبدالحق والتي ما زالت تفاصيلها وملابساتها غامضة حتى اليوم، بالنظر لعدم انسجامها مع شخصيته، تسريب تصريحات منسوبة إليه تحدث فيها عن اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية خلفاً للرئيس صالح، مرجعاً ذلك إلى ما وصفه “اختلالا في توازن التمثيل داخل السلطة، وكسرا للنموذج الجهوي المفروض في اختيار الحاكم“. وقال مبررا إقدامه على تلك الخطوة “إنني أرمي حجرا كي أحرّك المياه الراكدة وحتى نكسر قداسة ما أصبح واقعا تجذر ليس خلال العقود الماضية وإنما لقرون من سيطرة هذا المركز بحسب ما وصفه أحد القيادات السياسية بالمركز المقدس وهو توصيف اختزل الأسباب التي راكمت الأزمة اليمنية حتى وصلت إلى ما أصبحت عليه اليوم من انسداد ليس سياسياً فحسب وإنما انسداد اقتصادي واجتماعي وحتى أخلاقي في كثير من الأحيان”.

كما ورد اسم عبدالحق مرتبطا بالرئيس صالح في تقرير فريق الخبراء الأممي، حيث تضمن أحد التقارير إشارة إلى قيام إحدى الشركات المملوكة له بإجراء تحويلات مالية لابن الرئيس صالح المشمول بقرار العقوبات الصادر عن مجلس الأمن الدولي.

كما تردد اسمه في وثائق ويكيليكس ووثائق بنما والملاذات الضريبية، ووفقا لتقارير صحافية استقصائية تتبّعته وعائلته في وثائق بنما المسرّبة، تمتلك العائلة أكثر 18 شركة في جزر العذراء البريطانية تم استخدامها كواجهات لإبرام العقود والتهرب الضريبي.

ملاحقات ومتاعب

لم تخل حياة عبدالحق من المنغصات والمشاكل التي تحولت إلى قضايا إعلامية حيث تناولته أحاديث شعبية وإعلامية متداولة حول ملفات فساد واستخدام النفوذ، كما حدث في السودان عندما منحت شركة البشائر للاتصالات في 2003 ترخيص المشغل الثاني للهواتف النقالة وتحول الأمر إلى قضية رأي عام بعد أن كشفت صحف سودانية عن حصول الشركة المملوكة لعبدالحق على الترخيص من دون أن تتأهل في المرحلة الأولى للمنافسة.

غير أن صوره تصدرت بقوة وسائل الإعلام الدولية بعد اتهام ابنه فاروق باغتصاب الشابة النرويجية مارتين ماغنوسين وقتلها والتي وجدت الشرطة البريطانية جثتها في قبو الشقة التابعة لفاروق، في لندن. 

استثمر عبدالحق كل رصيد علاقاته المحلية والدولية في السنوات الأخيرة الماضية للحيلولة دون تسليم ابنه الذي فر بعد الحادثة مباشرة إلى مصر ومنها إلى اليمن، حيث فشلت كل الجهود والضغوطات التي بذلتها الحكومتان البريطانية والنرويجية لدفع السلطات اليمنية لتسليمه.

وتحولت القضية في بعض المراحل إلى سجال سياسي ودبلوماسي كشف عن النفوذ الذي يتمتع به الرجل بعد أن رفض الرئيس صالح كل الضغوطات التي مورست عليه، وامتد الأثر الذي خلفته إلى مصالحه التجارية بعد المطالبة بإيقاف التعاملات المالية معه من قبل ناشطين غربيين، لكنّه نجح في احتواء كل الضغوط الإعلامية والسياسية والاقتصادية التي تعرّض لها في تلك الفترة.

وقد استمرّت الامتيازات التي كان يحصل عليها حتى بعد رحيل صديقه صالح من السلطة ثم من الحياة، حيث استطاع خلال سنوات طويلة أن يبني شبكة علاقات هائلة في اليمن لم تتأثر كثيرا بالتداعيات السياسية المتسارعة التي شهدتها البلاد، وتمكّن من حماية استثماراته الداخلية في اليمن بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، مستخدما وسائل عدة من بينها توسيع دائرة شراكاته لتشمل قيادات ونافذين في الجماعة.

جانب مشرق

لم يوفر اسم عبدالحق فرصة للتواجد في وثائق سرية أميركية تعود لمطلع الستينات في اليمن، تم رفع السرية عنها في وقت سابق، ما يشير إلى دور مبكر من خلف الأضواء أيضا، حيث تتناول وثيقة أميركية إشارة إلى مخصصات مالية شهرية كان يقدمها الشاب اليمني لأول رئيس جمهورية في اليمن عبدالله السلال منذ قيام الثورة. كما يرد اسمه في وثيقة أميركية أخرى صادرة من البعثة الأميركية في تعز إلى وزارة الخارجية في واشنطن تتحدث عن التحضيرات لمؤتمر ”حرض“ الذي عقد عام 1965 ويتوقع فيها عبدالحق بصفته مقربا من الرئيس السلال فشل المؤتمر الذي كان يتم التحضير فيه لعقد صلح بين الملكيين والجمهوريين في اليمن.

المعارضة اليمنية تتهم عبدالحق على ضوء انحيازه للرئيس صالح ونظامه، بأن شراكة تجارية كانت تربط بين الرجلين، وأنه يقوم بما يتجاوز صورته النمطية إلى القيام بأدوار أخرى أكثر تعقيدا، من بينها نقل الرسائل السياسية وعقد الصفقات المحلية والإقليمية والدولية

وبحسب مقرّبين منه فإن شخصية عبدالحق كانت تنطوي على جانب إنساني خفي، ينسجم مع طبيعته الغامضة، وفي حين ترافقت أنباء وفاته نتيجة مرض السرطان، مع حملة تبناها ناشطون من التيارات الإسلامية في الغالب تحدثت عن غياب أيّ دور إنساني أو اجتماعي أو خيري له، ويروي البعض أنه كان يفضّل ممارسة دور إنساني ولكن بطريقته الخاصة وبعيدا عن الجمعيات الخيرية التي يهيمن عليها التيار الإسلامي.

ويتردد أنه تكفل بنفقات دراسة الكثير من الطلاب اليمنيين في الخارج، كما أسس داراً لرعاية اليتيمات في صنعاء، إضافة إلى تمويله لنشاط جمعية خيرية لإعالة الأسر الفقيرة، ومؤسسة الحق لمساعدة المحتاجين، إلى جانب تكفله بعلاج المئات من الحالات المرضية المستعصية.