عدلي صادق يكتب:
سخرية وغضب من جديد عباس
عل من بين المؤشرات على بؤس السلطة الفلسطينية ورئيسها، أن الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين، بل والأكثر عنصرية وتطرفا في إسرائيل، شاركوا جميعا في هذه الموجة من السخرية، ما يفيد ضمنا، أن رسول عباس إلى ضباط الاحتلال، بدا فاقدا للمنطق ولحساسية المعاني، عندما ظهر على شاشة التلفزة الفلسطينية، لكي يبث بشرى انتصار مؤزر، اندحرت فيه إسرائيل إلى مواضع الخيبة، بعد أن أبلى عباس في المعركة بلاء حسنا. فقد بدت الثرثرة المتلفزة أشبه بعرض مسرحي من صنف اللامعقول، يؤدي فيه حسين الشيخ دور سكير أدارت رأسه الخمر، فتقمص ثوب الحكيم الفطن، الذي ينبئ الغافلين بأنهم قد انتصروا وهم لا يعلمون!
في حقيقة الأمر، كانت لكل طرف شارك في موجة السخرية العارمة، أسبابه الخاصة التي انبثقت عنها بعض الاختلافات في طبائع ردود الأفعال على ما أعلنته السلطة. فقد امتزجت سخرية المواطنين الفلسطينيين بالغضب الشديد الذي لم يكظمه موالو عباس أنفسهم، وأحرجوا منه. فهؤلاء الأخيرون، شعروا أن رئيسهم أوقعهم في المقلب، عندما صدقوا أن التطبيع الإماراتي قد أغضبه إلى الدرجة التي تحسس فيها آلام طعنة نجلاء في خاصرته، بينما كان هو نفسه، وفي الوقت نفسه، يفتش عن طريقة لكي يعود إلى التنسيق الأمني الذي يعده الفلسطينيون جوسسة مجانية، دون مستوى جوسسة المخبرين الذين يتقاضون مالا وتسهيلات مقابل “أتعابهم”.
وفي الحقيقة بذل رسل عباس إلى أجهزة أمن الاحتلال جهودا مضنية لتأمين مخرج لائق له، ولو من خلال رسالة طمأنه من رئيس أركان الجيش، لكن المحتلين لم يتزحزحوا عن السقف الذي حددوه، وهو رسالة من ضابط التنسيق الإسرائيلي المكلف بالاتصال السياسي والإداري مع السلطة، وهو دون حتى المستوى الأمني. فلم يكن هناك شيء يقلق حكومة نتنياهو، لأن جوهر عملية التنسيق لم يتأثر بحرد رئيس السلطة، ولا بإعلانه وقف العمل بالاتفاقيات. فقد كان على عباس أن يفهم ذلك ويتحضر ويُحسن اختيار الطريقة التي يعود بها ولو عن طريق الروس أو الأوروبيين. أما أن يسلم ذقنه لحسين الشيخ، ويبني على ما جاء به الهدهد من صاحبه ضابط الاتصال، فذلك دليل آخر على غباء مطرد، يتفاقم مع الشيخوخة.
الموالون الذين صدقوا أن عباس يتألم مع كل خطوة تطبيعية عربية، يعرفون طبائع رئيسهم، ومن بينها استمراء الكذب؛ إلا أنهم لم يتوقعوا انكشاف حقيقة موقفه قبل أقل من سنة مثلا. معنى ذلك أنه دفعهم إلى هَبّةِ غضب زائد، دون مراعاة ضرورات الحفاظ على العلاقات الطبيعية التاريخية بين الشعوب العربية، والحفاظ على مصالح الجاليات الفلسطينية، بينما فخامته، كان في الوقت يحاول ترتيب أموره حتى مع الإمارات نفسها، مثلما ظهر في تسريب صوتي له، يُعرب فيه عن أمله في استعادة الوداد مع قيادة الإمارات.
وفي وقت تسريب الشريط، تاهت الحقيقة بين الادعاء بقدم الحديث وحداثة الزعيق الهجائي ضد تطبيع الإمارات حصرا. وكان الذين يعرفون الرجل، يدركون أن آلام الطعن الافتراضي، إنما هي مونولوج الهدف منه إرضاء القطريين والأتراك واللعب على التناقضات، خدمة لمصالحه الشخصية. فكيف يتأفف من التطبيع، رجل يفاخر بالتنسيق الأمني ويقدسه؟
أما الفصائل الفلسطينية، كبيرها وصغيرها، وحتى المجموعات المنشقة عن فصائل أخرى كبيرة وصغيرة، التي حاولت حضور مؤتمر بيروت التلفزيوني ورأت فيه شهادة مشروعية لوجودها؛ فقد اعتمدت في سخريتها لغة مريرة، متحسبة من احتمالات تعرضها هي نفسها للغمز واللمز، لطواعيتها وتقبلها لأن يكون عباس هو العنوان الذي يجمع الناس.
وفي الحقيقة، ودونما تجن على هذه الفصائل، نقول إنها قد أوقعت نفسها في منزلق كانت في غنى عنه. فالفصائل تعرف أن أول ما فعله عباس لكي يتفرد، هو تجريف النظام الفلسطيني من السياسة، وملء المشهد بإحداثيات المسألة المالية منحا ومنعا، أعطيات وعقوبات، ثم تجريف المجتمع كله من هذه السياسة، من حيث كونها ضامنة لمكانة الرأي العام وتوجهاته المتعلقة بكل شؤونه الوطنية.
وبالتالي، لا تصح الاستجابة إلى أي دعوة إلى لقاء فصائلي أو وطني، إلا بعد التوافق على لجنة حكماء، تشكل إطارا انتقاليا للتوجيه الإستراتيجي، يضم شخصيات فلسطينية وازنة، من كل الأطياف، مشهودا لها بالرجاحة ومنزهة عن المصالح، تدعو من داخل مؤسسة المجلس الوطني الفلسطيني إلى لقاء تشاوري. ذلك علما بأن عباس يعتبر أي إطار ذي صلاحيات، كابوسا ويحارب أي إطار قيادي انتقالي، ويكره سماع تعبير الأمناء العامين للفصائل إن تجاوزوا أدوار الكومبارس.
لذا كان حريا بالفصائل ألا تصغي لدعوة عباس منفردا. فهي تعرف أنه يكذب وهدفه تطيير الرسائل، ولن يلتزم معها بشيء، وبالتالي لا عذر لها كلها، بل لا شيء يمنع الاعتقاد بأنها جميعا تريد الحفاظ على الوضع الراهن، بهذه الطريقة أو تلك.
ويجدر التنويه إلى أن عباس، في موضوع أموال الضرائب (المقاصة) افتعل معركته مع نفسه. فهو الذي امتنع عن استلام الأموال الفلسطينية، أما كيف قرر استلامها، فقد قيل إن الأوروبيين طالبوا بقوة بأن يستلم أموال شعبه قبل أن يمد يده لطلب المعونة. وهذا كلام ذكرناه في اليوم التالي لرفض استلام الأموال، وقلنا إن الأموال يمكن أن تأتي عن طريق طرف ثالث، إذا كان عباس حقا يقاطع إسرائيل.
وأغلب الظن، أن رفض استلام الأموال كان في حقيقته درسا وقرصة أذن للكادر الوطني، لكي يتذكر أن حياة الموظفين وأسرهم في يده وتحت سيطرته. فقد كان واضحا أن هناك أهدافا أخرى.
لو كانت الذريعة أن الأموال تصل ناقصة؛ يمكن التحرك سياسيا لاسترجاع الناقص، وعندئذ لن يسخر العرب والأوروبيون وغيرهم من قرار العودة إلى الاستلام، من خلال ضابط اتصال، وبطريقة تشمل العديد من الفوائد المجانية لإسرائيل، وأخطرها الفتك بالإجماع الفلسطيني الهش على مواجهة الحلال الإسرائيلي بمسمياته الكثيرة، وسد الطريق أمام محاولات إنهاء الانقسام، لأن حماس حتى لو كانت راغبة، فإنها ستتحاشى الفضيحة، طالما جرى الإعلان عن العودة إلى التنسيق الأمني، وإهداء إسرائيل نظاما سياسيا فلسطينيا يتشكل من حلقة ضيقة من الحاشية، وبلا مؤسسات دستورية، لتصبح الخسارة الفلسطينية من عودة الحردان، أفدح من حردِه!