المعركة المحتدمة حول المسجد الأقصى..

الجولة الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين: حسابات الربح والخسارة

حماس لا تريد خوض مواجهة مسلحة جديدة في غزة

عريب الرنتاوي

في المعركة المحتدمة حول المسجد الأقصى، المندلعة منذ أسبوعين، والتي لم تضع أوزارها بعد، خسر الفلسطينيون الجولة بـ"النقاط" على الرغم من تضحياتهم الجسيمة، ونجحت إسرائيل، في فرض أمرٍ واقع جديد: التقسيم الزماني للمسجد...وما لم يطرأ ما ليس في الحسبان، من الآن وحتى انتهاء أعياد الفصح اليهودي (مساء السبت 23 الجاري)، فإن حصاد هذه المواجهة، قد بات جلياً. 

بالاستخدام الجائر للقوة المفرطة، حوّلت حكومة بينت الأوقات المخصصة لزيارات السائحين وغير المصلين للمسجد، إلى فسحة لإدخال مئات المتدينين المتطرفين إلى باحات المسجد وساحاته، لأداء الصلوات وممارسة الطقوس الدينية فيه، بعد أن أخرجت بالقوة المصلين والمرابطين في المسجد، موقعة مئات الإصابات في صفوفهم...الفلسطينيون يخشون، بالاستناد لتجارب الماضي القريب والبعيد، من أن يصبح "النجاح" الإسرائيلي في اقتحام الأقصى للصلاة وأداء الشعائر التلمودية، سابقة يُبنى عليها، وأن يجري تخصيص فسحٍ زمنية أكبر لهؤلاء لممارسة طقوسهم، في تقسيم زماني للمسجد، يمهد لتقسيمه "مكانياً" كذلك، كما حدث من قبل في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل. 

لم تكن الخسارة التي سجلها الفلسطينيون، نابعة من نقص في الاستعداد للمواجهة والتضحية، بل ثمرة أفعال وضغوط دبلوماسية، انخرطت فيها بنشاط، أطرافٌ عربية وإقليمية ودولية، تحت شعار "منع الانفجار" الذي لا يريده أحد، فكانت النتيجة، رضوخ أطراف فلسطينية فاعلة، السلطة وحماس، لحملة الضغوط متعددة الأطراف، لتنفيس الاحتقان، ونزع فتيل الانفجار الكبير...إسرائيل، بالمناسبة، لم تكن بعيدة عن حملة الضغوط تلك، بدلالة اضطرارها لاعتماد أساليب أقل وحشية واستفزازاً، مما فعلته في هذا الوقت من العام الفائت، وفي نفس المكان، أضف إلى ذلك، أن حكومة بينت، كانت تدرك وتتحسب، لسيناريو الانفجار الكبير، الذي قد تتطاير شراراته إلى الضفة وغزة وداخل الخط الأخضر، كما حصل من قبل. 

الولايات المتحدة، وبدرجة أقل، بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، لم تكن لديها "مصلحة" في حدوث ما يمكن أن يصرف انتباهها عن "المعركة الكونية" الدائرة في أوكرانيا وعليها، ولقد وضع الوزير بلينكن في جولته الأخيرة في المنطقة، وفي جملة الاتصالات التي أجرتها الخارجية الأمريكية ونظيراتها الغربيات، هدفاً مركزياً واحداً لحراكها: منع الانفجار، وطُلِبَ إلى حلفاء الغرب في المنطقة، وكل من موقعه، بذل كل جهد ممكن لتحقيق هذا الهدف، فانصبت المطالبات والضغوط على السلطة وحماس، لمنع الانزلاق إلى أتون مواجهة تعيد انتاج سيناريو "انتفاضة القدس وسيفها" العام الفائت، في حين تولت واشنطن إدارة الضغط على إسرائيل لـ"ضبط النفس"، باعتبار أنها وحدها من يمتلك القدرة على إقناع إسرائيل، أو إرغامها، على لجم اندفاعة المستوطنين والحد من غلواء المتطرفين الدينيين. 

الأردن ومصر، وضعا هدف "إنقاذ التهدئة" في صدارة أولويات حراكهما الدبلوماسي، ثمة مصالح خاصة بالبلدين، لفعل ذلك...عمّان تريد تفادي انتقال "شرارات الانفجار الكبير" إلى الداخل الأردني المحتقن بأزماته الاقتصادية والاجتماعية، وبحالة التوتر في العلاقة بين الدولة وقطاع واسع من مواطنيها...ومصر تخشى انجرار قطاع غزة للمواجهة، مع كل ما قد يستجلبه ذلك، من انهيارات أمنية تطاول الوضع الهش في سيناء، وترتد بأوخم العواقب، على محاولاتها ترميم ذيول وتداعيات حرب العام الفائت على قطاع غزة...وكلا البلدين، لديه من القدرة وأدوات التأثير على السلطة في رام الله، وحماس في غزة، ما يمكنه من احتواء مواقف هذه الأطراف ودفعها للانخراط في ممارسة "ضبط النفس" وكبح جماح "القوى المتفلتة" هنا أو هناك. 

ولم يتطلب الأمر عناء وجهداً كبيرين لإقناع طرفي الانقسام الفلسطيني بالحاجة لـ"ضبط النفس"، فالسلطة في المقام الأول، كانت تدرك أن "انفجاراً كبيراً" للأوضاع في القدس، قد ينذر بإطلاق مفاعيل "مبدأ الدومينو"، ليطاول مختلف مدن وأرياف ومخيمات الضفة الغربية، وقد تكون من نتائجه، انهيار السلطة ذاتها، واتساع مساحات المناطق الخارجة عن نفوذها وسيطرتها...جُل ما كانت ترجوه السلطة، هو ممارسة قدر من الضغوط العربية والدولية، على حكومة بينت، للحد من "عربدة" المستوطنين والمتدينين واستفزازاتهم، لتمكينها من تمرير فكرة "استعادة الهدوء" بأقل الكلف الممكنة. 

أما حماس، فقد بدا جلياً، أنها ليست بوارد الزج بقطاع غزة في المواجهة الدائرة حالياً، حتى أن بعضاً من قادتها الكبار، تحدثوا بذلك علناً، واقترحوا بدلاً عنه، إشعال الضفة وتطوير "مقاومتها المسلحة"...حماس لم تبرأ بعد من ذيول وتداعيات الحرب الأخيرة على غزة، والأخيرة، ما زالت تنتظر بفارغ الصبر، نهاية الحصار وجهود إعادة الإعمار المعطّلة. 

لحماس، وحكومة الأمر الواقع في قطاع غزة، مصلحة في تثبيت التهدئة، لكن ذلك لا يمنع الافتراض بأن لحماس مصلحة في "التصعيد المحسوب"، غير المفضي للانفجار، هي تخشى الانفجار وتسعى في تفاديه ما أمكن، لكن التصعيد، يعيدها إلى قلب دائرة الاتصالات والتحركات الدبلوماسية، وهذا من شأنه تخفيف أطواق العزلة المضروبة حولها...هي معادلة محفوفة بالمخاطر، بيد أنها تضرب على وتر حساس عند بقية الأطراف ذات الصلة. 

مقابل تثبيت التهدئة في قطاع غزة، لحماس مصلحة في إشعال الضفة الغربية، جماهيرياً وعسكرياً، فتضرب عصفورين بحجر واحد: مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكسب السباق مع فتح والسلطة، فكل تصعيد في الضفة من شأنه أن يضعف خصومها ويعزز من نفوذها وشعبيتها، وتلكم استراتيجية قديمة للحركة، لكنها تجد اليوم فرصة لترجمتها جراء تآكل مكانة السلطة وتفاقم التعديات والانتهاكات الإسرائيلية. 

أضف إلى كل ما سبق، أن حماس تواجه تحديات إضافية هذه المرة، ناجمة عن تبدل أولويات حلفائها الإقليميين: تركيا الذاهبة بحماس للتطبيع مع إسرائيل، لا ترغب في تصعيد يحرج قيادتها أمام الرأي العام التركي، وتدفع بها لاتخاذ مواقف غير مرغوبة حيال إسرائيل، وتعطل رهانات الرئيس أردوغان على صفقة أنبوب الغاز الإسرائيلي التي تشكل أحد أهم دوافع "هرولته" نحو التطبيع...أما الدوحة، فثمة حدود لما يمكن أن تفعله دعماً لحماس، سيما بعد الاستدارات الواسعة في المواقف القطرية الأخيرة. 

لكل هذه الأسباب مجتمعة، لم يجد الوسطاء والموفدون صعوبة فائقة في إقناع الأطراف الفلسطينية الفاعلة بالابتعاد خطوة أو خطوتين عن حافة الهاوية، فالبحث الإقليمي والدولي مع الفلسطينيين تركز حول كيفية وشروط منع الانفجار، وليس حول أي شيء آخر. 

وبحسابات الربح والخسارة، يمكن القول أن المساعي الدولية والإقليمية، نجحت في وقف التدهور نحو مواجهة شاملة، حتى الآن على الأقل...حكومة بينت وائتلافه الهش، يريدان البقاء بأي ثمن، وقد أمكن إقناعها باعتماد وسائل أقل وحشية واستفزازاً في التعامل مع المصلين والمرابطين في المسجد الأقصى بالمقارنة مع أداء الحكومة السابقة...لكن الثمن الذي تقاضته الحكومة هذه المرة، هو تمكين التيارات الدينية الأكثر تطرفاً، من اقتحام المسجد الأقصى والصلاة فيه، بحماية ورعاية رسميتين، وبقبول دولي "متواطئ"، وبصورة تفتح الباب أمام سيناريو تقسيم المسجد، وتلكم خسارة صافية، وإن بالنقاط، ألحقت بالفلسطينيين.