رغم ضغط التوقعات المستقبلية..

تحليل: بن سلمان.. هل يكسر النموذج القديم لدول الخليج

ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. فهو يريد كسر

واشنطن

قد تكون الجغرافيا خادعة. فعلى الخريطة، تنافس السعودية كل من إيران والعراق في الحجم، كما تحجّم جيرانها من دول الخليج العربية. وقد تكون أرقام احتياطيات النفط مضللة أيضاً. فوفقاً لمؤشر "المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية" لعام 2019 الذي أصدرته "بريتيش بتروليوم" ("شركة البترول البريطانية")، تتموضع هذه الدول الثلاث في مستوى آخر تقريباً يختلف عن بقية الدول المطلة على الخليج، مع تصدّر السعودية الطليعة بحيّز كبير مقارنة بالدولتين الأخريين.

والحقيقة هي أنه كان من الأنسب في كثير من الأحيان اعتبار السعودية مجرد مملكة خليجية متواضعة تضم عدداً صغيراً نسبياً من المواطنين، وتحظى بدعمٍ اقتصادي من قوة عاملة أجنبية كبيرة، مع كون النفط و/ أو الغاز الطبيعي المكوّن السحري الذي يبقي الصرح منتصباً بأكمله.

وبخلاف إيران والعراق، تشكّل المملكة، إلى جانب دول الخليج العربية الأخرى - الكويت والبحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان - نظاماً سياسياً واقتصادياً فريداً. فالدول الأعضاء في «مجلس التعاون الخليجي» وراثية وقبلية وليست جمهوريات. كما أنها دول ريعية جوهرية، أي أنها تعتمد على إيرادات النفط بدلاً من تطوير اقتصاداتها غير النفطية، أو، لا سمح الله، فرض ضرائب على مواطنيها (رغم أن ذلك قد يبدأ [في مرحلة ما]).

كسر النموذج القديم

حتى قبل تفشّي جائحة "كوفيد-19"، كان النسيج السياسي والاقتصادي في الخليج منهكاً من الضغط، نتيجة التوقعات المستقبلية لأسعار النفط التي تتجه نحو الانخفاض. ولكن السنوات القليلة الماضية شهدت ظهور قوة موازنة، وهي الرؤية التي وضعها للسعودية القائدُ الفعلي الجديد للمملكة، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. فهو يريد كسر النموذج القديم للدولة الخليجية وتحويل السعودية إلى قوة تكنولوجية. ويريد أيضاً أن يُنظر إلى السعودية على أنها أهم دولة في الشرق الأوسط، ليس من قبل دول المنطقة فحسب، بل من المجتمع الدولي أيضاً. ويشكل ذلك تحدٍ كبير، لكن يمكن القول إنه النموذج الأكثر أهمية لمناقشة مستقبل المنطقة ما بعد الوباء.

وعلى الرغم من أن القدرة على تصدير النفط و / أو الغاز الطبيعي بسعر جيد هي أكبر وأهم متغير للتنبؤ بمستقبل دول الخليج، إلا أن التنبؤ بهذا السعر، على الأقل على المدى القصير، هو جهدٌ غير مجدٍ. ويكفي القول أن الطلب على النفط والغاز على المدى الطويل يبدو في منحدر هبوطي. وليس من المواساة القول بأن السيناريو الأكثر احتمالاً لارتفاع الأسعار هو التوتر السياسي، خاصة في منطقة الخليج نفسها!

ومع ذلك، فلأغراض هذا التحليل، حتى لو وضعنا جانباً أسعار النفط والعوامل المرتبطة بها، إلّا أنه لا يمكن تجاهلها بالكامل. وفي إطار مخطط الأمير محمد بن سلمان، من المقرر أن تستضيف السعودية القمة الاقتصادية لمجموعة العشرين في وقتٍ لاحق من هذا العام. وتأتي عضوية المملكة نتيجة ثروتها النفطية، وليس بسبب واقع ادعاءها زعامة العالمين العربي والإسلامي.

وقد يتم عقد القمة في النهاية كحدث افتراضي، ولكن الأمير محمد بن سلمان سيحاول تقديم عرض جيد. وسوف يكون التأقلم مع فيروس كورونا انعكاساً لجودة الرعاية الصحية الحديثة في المملكة. وسيكون هروب العمال الوافدين فرصة للمواطنين السعوديين لسد الثغرات. وسيتم تجاهل التدفقات الضعيفة من الإيرادات باعتبارها أقل أهمية الآن بما أن مشروعه «الرؤية 2030» يمضي قدماً في الاتجاه الصحيح. وسوف يُغفل الحديث - على نحوٍ ملائم - عن [الأمر] الواقع المتمثل بأنه ربما من الحري تغيير تاريخ الرؤية إلى عام 2040 أو حتى 2045. ولن يحتجّ أحدٌ. ولا يزال مصير الصحفي المعارض جمال خاشقجي في الذاكرة حتى لو لم تتم مناقشته.

لكنّ وضع دول الخليج الأخرى قد يكون أكثر صعوبة. فقد غيّر الأمير محمد بن سلمان العقد الاجتماعي في مملكته، ولكنّ معظم المشيخات والإمارات الأخرى - الكويت والإمارات وقطر وعُمان - هي أقل هرمية. وستجري الأحداث على الأرجح داخل مجلس [الملك] الحاكم وليس في الشوارع. فالبحرين فقط، التي غالبيتها من الشيعة ولكن تُحكم من قبل السنة، يمكن تحدّيها حقاً. أما السعودية، إلى جانب الكويت وقطر والإمارات، فتملك الاحتياطيات المالية اللازمة للمثابرة حتى بلوغ أهدافها، في حين ستبحث البحرين وعُمان عن الصدَقات، وكذلك مشيخات الإمارات السبع باستثناء أبوظبي الغنية بالنفط، ودبي - المركز التجاري للإمارات.

يمكن القول إنّ العوامل الفورية والأكثر إثارة للاهتمام في هذا الإطار، والتي لا يعيقها فيروس كورونا بشكل خاص بالنسبة للسعودية، هي كيفية التعامل مع التهديد الإيراني، والعلاقات مع إسرائيل، مع المواقف المرتبطة بذلك تجاه القضية الفلسطينية. وهذه قضايا لن تُترك لحقبة ما بعد الوباء. وما يؤكد إلحاحها بصورة أكثر هي الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر القادم والتي قد تُسفر عن استبدال الإدارة الجمهورية بزعامة دونالد ترامب بإدارة ديمقراطية برئاسة جو بايدن.

العنصر الإيراني

يشكّل سلوك إيران عدم اليقين السياسي الرئيسي في منطقة الخليج، وهي البلاد التي تعرّضت بشدة أيضاً لفيروس كورونا، على الرغم من أنه يتعذر إجراء تحليلٍ مجدٍ لمدى حدّة الوضع فيها نسبياً بسبب عدم وجود أرقام نوعية جيدة وبيانات أخرى. ومما يثير القلق أن قدرة إيران على ممارسة الأنشطة المزعزعة للاستقرار لم تتناقص على ما يبدو، إذا كان ذلك بسبب الفيروس أو بسبب زيادة العقوبات الأمريكية على برنامجها النووي، وصادرات النفط، والمعاملات المالية.

والأسوأ من ذلك، أن قدرة إيران على خوض الحروب غير المتكافئة لم تنتقص فحسب، بل ربما تتسارع. فهجمات الطائرات المسيرة في أيلول/سبتمبر الماضي على منشأة معالجة النفط السعودية الرئيسية في بقيق ومنشأة أخرى صدمت القوى العسكرية في جميع أنحاء العالم، إذ كانت التكنولوجيا المستخدمة فيها منخفضة المستوى نسبياً ورخيصة الثمن، مما يقوّض الفكرة القائلة إنّ دولاً كالولايات المتحدة لديها ميزة عسكرية متأصلة بسبب قدراتها التكنولوجية المتفوقة ومواردها المالية. وإذا كانت الولايات المتحدة قد انتصرت في الحرب الباردة بإنفاقها أكثر من الاتحاد السوفيتي، يبدو من غير المحتمل أن تنجح هذه المقاربة مع إيران.

وتشكل طموحات إيران النووية قضية منفصلة. فقد تؤدي العقوبات إلى تأخير ما يُعرف عموماً بأنه مشروع أسلحة نووية مستتر وراء برنامج نووي مدني، ولكن حتى هذه المسألة تثير مخاوف مبرَّرة. فباكستان المجاورة التي أصبحت دولةً نووية عام 1998 استخدمت التكنولوجيا نفسها تقريباً للحصول على اليورانيوم عالي التخصيب وعلى صاروخ قادر على إطلاق رأس حربي نووي على حد سواء، وكل ذلك حصل قبل 22 عاماً، علماً بأن الجهاز النووي الباكستاني كان جاهزاً للاختبار على الأقل خلال السنوات العشر التي سبقت ذلك التأريخ أو نحو ذلك.

ولا تزال التوترات الدبلوماسية بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين - بريطانيا وألمانيا وفرنسا - بشأن كيفية التعامل مع إيران تشكل نقطة ضعف واضحةً للغاية بالنسبة لطهران، التي تَعتبر أصلاً روسيا والصين داعمتين لها بشكل فعال. لكن التحدي الذي تواجهه واشنطن هو كيفية التعامل مع إيران بطريقة يُنظر إليها - من قبل إيران، والحلفاء الإقليميين، وكذلك المجتمع العالمي الأوسع - على أنها فعالة وبالتالي رادعة، وليس كونها خطوات من قبل قوة عظمى تفقد عظمتها.

كيف ترى إيران نفسها

إنّ مجرد وصف إيران كدولة مثيرة للمشاكل هو أمر مبسّط للغاية. ولكن من المهم محاولة فهم سلوك إيران الذي يعود جزئياً إلى تاريخها وكذلك إلى النظام الإسلامي الذي تولّى السلطة في الثورة التي أطاحت بالشاه عام 1979. وأحد أبرز جوانبه هو أن إيران تَعتبر نفسها القوة الرئيسية الطبيعية في المنطقة، والتي يُعتبر فيها "الخليج الفارسي" كما تسمّيه، دليلاً رئيسياً على ذلك. (وتطلق دول الخليج العربية اسم "الخليج العربي" على هذا الممر المائي، لكن الاسم الرسمي الذي تستعمله الولايات المتحدة هو "الخليج الفارسي"، بإدراكها أن الساحل الإيراني هو المهيمن).

بالإضافة إلى ذلك، إن الجمهورية الإسلامية هي دولة مسلمة شيعية - الطائفة التي تمثّل الأقلية في الإسلام - وتريد إعادة موازنة العلاقة التبعية بين الشيعة والأغلبية السنية. وعلى وجه الخصوص، تعتقد إيران الشيعية أن لها دوراً في دعم المجتمعات الشيعية في جميع أنحاء الشرق الأوسط التي كانت محرومة تاريخياً. ويقطع هذا المبدأ شوطاً طويلاً لشرح المصالح الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان، وكذلك البحرين والمنطقة الشرقية الغنية بالنفط في السعودية، وقد يؤدي وباء كورونا إلى تعزيز هذا المبدأ.

أما الجانب الآخر من ذلك فهو التنافس الديني والتاريخي المتأصل مع السعودية التي تُعدّ زعيمة العالم الإسلامي السني والمركز الرئيسي للإسلام بحكم السيطرة السعودية على مكة والمدينة، المدينتين المقدستين للإسلام. (يحمل ملك السعودية أيضاً لقب خادم الحرمين الشريفين. وفي السنوات التي أعقبت الثورة الإيرانية، كان هناك توتر في مكة والمدينة عندما سافر الحجاج الشيعة الإيرانيون إلى هناك).

وثمة جانبٌ مُعيّن لنظرة الجمهورية الإسلامية لمنطقة الخليج العربي وهو أن طهران تعتبر أمن المنطقة مسؤولية مشتركة لبلدان المنطقة، وهي صيغة لا تشمل الولايات المتحدة ولا الدول الأجنبية الأخرى، كالقوة شبه الاستعمارية السابقة، أي بريطانيا. ويتناقض ذلك بشكل مباشر مع السبب الرئيسي لتواجد واشنطن في الخليج، وهو حماية تدفق النفط من المنطقة إلى بقية أنحاء العالم.

وعلى الصعيد المحلي، تُعتبر الاتجاهات السائدة مربكة. فالتأييد الشعبي للحكومة بشكل عام يعاني من ضغوط بسبب الظروف الاقتصادية، وعدم الكفاءة الإدارية، وتصميم القيادة الإسلامية على عدم السماح بأكثر من نطاق محدود من المشاعر السياسية. إلّا أن ذلك يوازنه ما يبدو أنه تصميمٌ على تعميق جذور النظام الإسلامي وميل أكبر نحو المتشددين في «الحرس الثوري الإسلامي» من حيث المواقف السياسية.

وعلى الرغم من الضغوط والتوترات الداخلية والخارجية، إلّا أن إيران لا تبدو على شفير تغيير سياسي، سواء كان عميق الجذور أو من حيث السياسات. ويبدو صحيحاً أن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي يتريّث بانتظار مرور ما يعتقد أنها الأشهر الأخيرة من ولاية إدارة ترامب، متوقعاً وصول الحزب الديمقراطي إلى الرئاسة إن لم يكن آملاً في ذلك. وقد يعني تركيز واشنطن على الوباء والتوتر العنصري الناجم عن مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد في ولاية مينيسوتا أن تقديرات طهران صحيحة. لكن يجب أن لا نتوقع أن تتصرف إيران بشكل جيد، فالإغراء باستغلال ضعف مؤقت محتمل لدى خصومها سيكون كبيراً جداً.

العنصر الإسرائيلي

تشكّل مواقف دول الخليج تجاه إسرائيل التغيير الرئيسي الذي حدث في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة. ولم تعد العلاقات قائمة بالكامل على حل المطالب الفلسطينية، التي شملت بشكل رئيسي انسحاب إسرائيلي لخطوط عام 1967 والسماح لأولئك العرب الذين يدّعون أنهم لاجئون بالعودة إلى إسرائيل نفسها.

بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن ببساطة أن يُنسب هذا التحول، الذي قادته السعودية والإمارات، إلى التخوّف من إيران وجاذبية التعاون مع دولة أخرى ذات نفس التصوّر. وبدلاً من ذلك، يُنظر إلى إسرائيل بشكل متزايد على أنها شريك تجاري طبيعي تتداخل رؤيته مع رؤية دول الخليج للتعاون في الخيارات التكنولوجية للمستقبل. وعندما زار الأمير محمد بن سلمان الولايات المتحدة في عام 2018، سقط شخصٌ واحد على الأقل من على كرسيه في تجمّع مغلق للقيادات اليهودية عندما شاركها ولي العهد السعودي هذا الحلم.

وتمثّلت البطاقة الرابحة الأخرى التي يحملها الأمير محمد بن سلمان من ناحية التصورات، إلى جانب تلك التي يشاركها نظيره الإماراتي ولي عهد أبوظبي الأمير محمد بن زايد، في الدعوة إلى الإسلام المعتدل والتحرك ضد الإسلام المتشدد اللذان بدآ يحددان على ما يبدو طابع المملكة منذ فترة طويلة. فقد كان الترفيه الحي والسماح للمرأة بقيادة السيارة من التطورات المميزة في السعودية. كما أن الأمين العام لـ "رابطة العالم الإسلامي" التي مقرها في مكة، محمد العيسى، عمل بلا كلل في قضايا الأديان، والتي شملت زيارة معسكر الموت في أوشفيتز، إلى جانب قادة يهود أمريكيين، في كانون الثاني/يناير المنصرم.

وتختلف الآراء حول مضمون ومعنى هذا التواصل مع إسرائيل واليهود في بقية أنحاء العالم. ومهما كان الواقع، فإن الموقف على وشك مواجهة اختبارين: الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية واحتمال عدم فوز الرئيس ترامب بولاية ثانية.

وتبقى إحدى نقاط القلق الخاصة، أو التي يجب أن تشكل مصدر قلق، للسعودية ولدول الخليج الأخرى، هي مدى دعم الرأي العام الخليجي لمواقف قياداته المتغيرة تجاه إسرائيل. فهذه المواقف، بقدر ما يمكن قياسها، لا ترقى إلى درجة الحماسة. وقد تسبّبت الظروف الاقتصادية المتغيرة التي نشأت في البداية بسبب انخفاض أسعار النفط ثم وباء كورونا، في إجهاد العقود الاجتماعية المحلية فعلاً. لذلك فإن إيران التي دائماً ما كانت انتهازية قد تجد نفسها أمام نقطة ضعف جديدة بإمكانها استغلالها.

 ----------------------------------------------------

سايمون هندرسون هو زميل "بيكر" ومدير "برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة" في معهد واشنطن.