معهد واشنطن..

تحليل: “قاعدة جزيرة العرب” في الجنوب: بين الأمس واليوم

تنظيم القاعدة في الجنوب بين الأمس واليوم

معهد واشنطن

لطالما ركّزت تغطية تنظيم “القاعدة” في اليمن بشكل غير متكافئ على التهديد الذي يطرحه تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” على الغرب، متجاهلةً في الوقت نفسه المحنة التي يعيشها السكان المحليون في المناطق الخاضعة لسيطرته.

غير أن تاريخًا معقدًا جنوب اليمن أدّى إلى تطوير تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” وتقويته وإلى دوره الحالي في جنوب اليمن قد جعل من سكان القسم الجنوبي لهذا البلد أولى ضحايا القمع والإرهاب، الممارسيَن من التنظيم وأسلافه على السواء.

يستخدم تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” – الذي يُعتبر الفرع الأكثر نفوذًا التابع لتنظيم “القاعدة” – مساحة كبيرة من الأراضي الواقعة جنوب اليمن والتي تمّ الاستيلاء عليها عقب الثورة اليمنية في العام 2011 كقاعدة له.

وبعد سنوات قليلة، عزّز موقعه أكثر فأكثر في المنطقة خلال فترة عدم الاستقرار في الجنوب الناتجة عن الصراع الأحدث في اليمن بين الحوثيين وحكومة هادي.

غير أن تاريخ تطوّر التنظيم يعود إلى ما قبل الصراع الحالي بكثير، حيث نمت جذوره قبل عقود خلت.

في العام 1990، تمّ توحيد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الجنوبية والجمهورية العربية اليمنية الشمالية لتشكيل دولة يمنية موحدة وفي حين كان يُعنى بالتوحيد نظريًا أن يكون رمزيًا لمستقبل سلمي أكثر بالنسبة لليمن بعد عقود من التوتر والصراع بين الدولتين، إلا أنه على أرض الواقع بقيت العلاقات بين شمال البلاد وجنوبها متزعزعة، حيث برزت التوترات من جديد في العام 1994.

وخلال هذه الفترة من الزمن، وصل “الأفغان العرب العائدون” – وهو المصطلح الذي يشتهرون به على نحو واسع – إلى الجنوب وأصبحوا أداة مفيدة بيد صالح ضدّ الاشتراكيين الجنوبيين، فشكّلوا بذور ما تطوّر لاحقًا ليصبح تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب”.

ففي كتابه “الملاذ الأخير”، عالج غريغوري جونسن التناقضات بين اليمن وحكومات عربية أخرى في دعمها للجهاد في أفغانستان ضد السوفيات، ولا سيما في ظل توجه المزيد من المقاتلين العرب إلى أفغانستان منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

وأشار جونسن إلى أن معظم الحكومات العربية “دعمت علنًا الجهاد رادعةً سرًا شبابها من السفر إلى أفغانستان”.

في المقابل، أرسلت الجمهورية العربية اليمنية الشمالية العديد من “أفضل وألمع” شبابها إلى الخطوط الأمامية للقتال، حيث أصبحت الرحلة بمثابة طقس عبور للكثيرين وبعد عودة “المجاهدين” إلى اليمن التي باتت موحدة مطلع التسعينيات، لقوا ترحيب الأبطال من قبل حكومة الرئيس صالح الشمالية – حيث تبوأ البعض منهم حتى مناصب عسكرية رسمية.


ويمكن شرح حماسة حكومة الشمال إزاء الحرب في أفغانستان جزئيًا بالدور الذي لعبه السوفيات في اليمن فقبل التوحيد، كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية خاضعة لسيطرة الاتحاد السوفياتي وكانت الدولة الشيوعية الوحيدة في شبه الجزيرة العربية وبعد التوحيد، لعب هذا الشرخ الكبير في الإيديولوجيا دورًا في سلوكيات “الأفغان العرب العائدين” إزاء الجنوب أيضًا.

وحين اندلعت الحرب الأهلية في صيف العام 1994، غزا جهاديو الشمال اليمن الجنوبي، متسلحين بفتوى دينية تبرر قتل الكفار الاشتراكيين في الجنوب وصدرت الفتوى عن وزير العدل اليمني الشمالي عبد الوهاب الدليمي والداعية عبد المجيد الزنداني، علمًا بأن الاثنين مدرجان الآن على قائمة الإرهاب العالمي الصادرة عن الولايات المتحدة.


وبعد أن هزمت الجماعات الشمالية القوات العسكرية الجنوبية، لم يغادر “الأفغان العرب” قط. وبدلًا من ذلك، أصبحوا ذراع الحكومة الشمالية في جنوب اليمن، المستخدمة للدفاع عن الوحدة اليمنية وحمايتها.

وبسطت الحكومة الشمالية كامل سيطرتها على الجنوب من خلال تطبيق الوحدة بالقوة، حيث اعتبر العديد من يمنيي الجنوب الوحدة كأنها احتلال وبقي “الأفغان العرب” هؤلاء في المناطق الجنوبية وأحكموا قبضتهم عليها خلال هذه الفترة.

أما على الجبهة السياسية، فقد أُعطي حزب “الإصلاح” (فرع “الإخوان المسلمين” في اليمن)، الذي بدأ العديد من سكان الجنوب يرونه في نهاية المطاف كراعٍ ومسهل لتنظيم “القاعدة”، فائض القوة في الجنوب وأشرف على تطبيق السياسات التي حوّلت اليمن الجنوبي من مجتمع اشتراكي علماني إلى مجتمع ديني محافظ.

وكان لهذه التغييرات الأثر الأكبر على التعليم وحقوق المرأة: ففي حين كان التعليم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية إلزاميًا للفتيات والفتيان، نصّت القوانين الجديدة في الجنوب على أن الأهل لم يعودوا ملزمين بإرسال أطفالهم إلى المدرسة على الإطلاق.

كما تغيّرت قوانين الزواج فقبل التوحيد، كان السنّ القانوني للزواج في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية محدّدًا عند 18 عامًا وتمّ الاستغناء عن هذا القانون، فبات الأهل يزوجون بناتهم في سنّ صغيرة عند الثانية عشرة.

وفضلًا عن تغيير القوانين في الجنوب، همّشت الحكومة المركزية في صنعاء سكان الجنوب وغالبًا ما أهملت مؤسسات الدولة على غرار المدارس والطرق والمستشفيات في الجنوب.

وقد كانت هاتان السياستان – أي إزالة الحماية القانونية تدريجيًا وإضعاف البنية التحتية للدولة – السبب في إحداث نقص في الخدمات والدعم.

ومن بين جماعات أخرى، ملأ تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” – المؤلف من فرعيْ “القاعدة” اليمني والسعودي في العام 2009 – هذا الفراغ، الأمر الذي بدوره عزّز شعبية الجماعة وسمح بتزايد فرص التجنيد.


وللمفارقة، أصبحت الجماعة الإرهابية التي ساعدت الحكومة المركزية على دعمها سببًا كي تستهدف هذه الحكومة الجنوب وكلما زاد نشاط “القاعدة” في المحافظات الجنوبية، من خطف الأجانب إلى تفجير الفنادق والوجهات السياحية، كلما عانى السكان المحليون حين انتقمت الحكومة بعنف باسم “محاربة الإرهاب”.

غير أنه غالبًا ما لم تأت التقارير على ذكر الرعب الذي مارسه عناصر “القاعدة” على سكان المناطق التي كانت خاضعة لسيطرتهم.

رغم هذا، ارتكبت المنظمات الإرهابية العاملة في اليمن الجنوبي جرائم مروعة بحق سكان الجنوب طوال العقد الماضي. وازداد معدل هذه الجرائم بشكل كبير بعد تأسيس “الحراك الجنوبي” في 2007 الذي طالب بإعادة اليمن الجنوبي إلى ما قبل اتفاق العام 1990 مع اليمن الشمالي.

وأقدم تنظيم “القاعدة” علنًا على جلد الجنوبيين الذين رفعوا علم اليمن الجنوبي الشيوعي، كما ضايق قادة “الحراك الجنوبي” وعذّبهم وهددهم – تمامًا كما فعل الأمن الوطني اليمني.

في هذا السياق، استمر الجنوبيون في رؤية قوات “القاعدة” – التي تشكّلت من عناصر من “الأفغان العرب” والمجندين المحليين – على أنهم ذراع حكومة صنعاء المستخدمين لتطبيق الوحدة اليمنية والدفاع عنها تمامًا كما فعل “الأفغان العرب” خلال حرب العام 1994.

ولم تكن هذه الاتهامات بلا أساس، فقد أظهرت الأدلة المتزايدة أن صالح استخدم “القاعدة” ضدّ معارضيه وكذلك من أجل سحب الأموال من الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب.

غير أن بعض أعمال العنف الأكثر حدّة برزت في ثنايا القتال بين الحكومة المركزية في اليمن والحوثيين، ما وفّر فراغًا أكبر وسمح بازدهار تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” في الجنوب.

وفي العام 2015، سمحت الحرب الأهلية لتنظيم “القاعدة” بتوسيع رقعة وجوده من المناطق النائية التي كان يسيطر عليها في الجنوب وصولًا إلى مدن رئيسية على غرار المكلا، عاصمة محافظة حضرموت.

وقد حكم تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” هناك وفي أماكن أخرى من خلال اللجوء إلى أعمال عنف فاضحة في أرجاء شبه الجزيرة وخلال الاستحواذ على المكلا، استهدف تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” صحفيين وناشطين، ونفذ مداهمات على المنازل وخطف وقتل كل من اعتبر أنه يشكّل تهديدًا لوجوده.

وتمّ شنق الأشخاص المتهمين بالتجسس لصالح التحالف العربي والولايات المتحدة علنًا وإبقاؤهم معلقين لأيام من أجل بثّ الخوف في النفوس.

وكان التنظيم يعمد إلى قطع رؤوس الشباب الذين تطوعوا في قوات الأمن، ورجم الزانين علنًا كما حرّم الرقص والموسيقى.

كذلك، عانت محافظتا شبوة وأبين الجنوبيتان هذه الأنواع من الوحشية: فقد تمّ خطف الكثيرين واتهامهم بالتجسس وإعدامهم علنًا، في حين تعرّض السكان الذين رفضوا تقديم الدعم إلى تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” للخطف أو التعذيب أو القتل.

وبعد عقود من التعذيب والاستغلال من قبل الجهاديين في الجنوب الذين شكلوا تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب”، كان الجنوبيون محفزين بشكل كبير للقتال.

وحين بدأ التحالف العربي – الإمارات العربية المتحدة بشكل رئيسي بدعم من الولايات المتحدة – بتدريب القوات الجنوبية المحلية لمحاربة التنظيم، رحّب آلاف الجنوبيين بالدعم واعتبروه فرصة لتخليص محافظاتهم أخيرًا من عقود من القمع والإرهاب المتزايد.

وكان هؤلاء الجنود محفزين لمحاربة تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” لأنهم كانوا الضحايا الأساسيين – ضحايا إرهاب التنظيم وحرب الحكومة ضدّه على السواء.

لكن ثمن المعارك التالية بين القوات الجنوبية وتنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” كان باهظًا فقد لقي العشرات من قوات الأمن الجنوبية من قوات “الحزام الأمني” و”النخبة الحضرمية” و”النخبة الشبوانية” حتفهم أثناء تحريرهم الجنوب من يد التنظيم.

وقبل أسابيع، استهدف تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” حاجز تفتيش تقيمه قوات “الحزام الأمني” في أبين، جنوب اليمن، ما أسفر عن مقتل 5 جنود وإصابة 3 آخرين.

رغم كل ذلك، تمّ إحراز تقدّم هائل ضد تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب”، حيث تمّ تحرير الجزء الأكبر من حضرموت وشبوة وأبين وحيث بدأ السكان يعيدون بناء حياتهم غير أنه من المهم تطبيق الأمن والاستمرار بدعم هذه القوات وتدريبها لمحاربة التنظيم.