الإسلاميون لا يتجاوزون تصوراتهم الدينية المغلقة..

ما قصة الإسلاميين مع الفيلسوف الألماني هابرماس؟

الإسلاميون يتجاهلون أنّ إحدى مسلّمات الحداثة نفسها استمرارية النقد وإزاحة القداسة عن المعرفة

جهاد حسين

يحوز الفيلسوف الألماني هابرماس أحد رواد مدرسة فرانكفورت النقدية شهرةً كبيرةً في العالم العربي، خصوصاً في أوساط الإسلاميين، وذلك لا بسبب مواقفه التقويمية للحداثة والعلمانية فحسب؛ فالذين شرعوا في تقويم الحداثة من فلاسفة الغرب كُثر؛ بل بسبب فهم مغلوط لفكر الرجل يعتبره منتصراً للدين على حساب العلمانية.
نقد الحداثة
لطالما انطلق العقل الأيديولوجي الإسلامي من منصة عدائية للحداثة، لذلك هو في رحلة بحث دائم عما يغذي هذا العداء، وفي هذا البحث انتقل هذا العقل الى مستوى جديد وهو الاتكاء على الحداثة نفسها في نقدها الطبيعي لنفسها.
كان هابرماس أحد أشهر نقّاد الحداثة في جوانب كثيرة، لذلك كان اتكاء العقل الإسلامي على هذا النوع من النقد، وهو اتكاء فيه هشاشة كبيرة تكمن في ثلاثية الانتقاء والتعميم والتناقض؛ إذ يتم انتقاء الجوانب النقدية لهابرماس ومن ثم تعميمها على النسق الكلي المسمّى (الحداثة)، ليظهر التناقض المعرفي من خلال هدم الحداثة بالاتكاء على أحد جوانبها، وهو النقد.

الإسلاميون يتجاهلون أنّ إحدى مسلّمات الحداثة نفسها استمرارية النقد وإزاحة القداسة عن المعرفة

فالإسلاميون لا ينتبهون إلى أنّ إحدى مسلّمات الحداثة نفسها استمرارية النقد وإزاحة القداسة عن المعرفة.
لقد انتقد هابرماس الحداثة في جوانبها التي يعتبرها هشّة وخطيرة على الاجتماع الإنساني، وهي الوضعية العلمية وتداخلها مع ما هو اجتماعي، والبراغماتية المفرطة في العقل الأداتي.
وفي كل ذلك، على غير ما يفهم الإسلاميون، لا يقترح هبرماس سوى ما أسماه بالترشيد عبر نقده للوضعية، مبيناً آثارها السلبية، والعقل الأداتي موضحاً آثاره السيئة على التواصل البشري؛ فابتدع ما أسماه بـ (العقل التواصلي) لتجاوز محنة التمركز حول الذات التي أنتجها العقل الأداتي.

ولا يمكن أن يفهم من ذلك إلا توجه الفكر الغربي مع هابرماس نحو الانفتاح من جهة، وتحرير علاقة البشر في ما بينهم من سطوة البراغماتية المفرطة من جهة أخرى.

ما بعد العلمانية والفهم التضليلي
يروج الكثير من الإسلاميين، خصوصاً الجيل الذي انفتح على قراءة المنتوج الغربي، لفهم تضليلي لأطروحة ما بعد العلمانية لهابرماس؛ إذ يصوّرونها على أنّها تجاوز غربي للعلمانية وعمليات العلمنة، وعودة إلى هاجسهم المعروف وهو فرض الدين في الفضاء العام عبر الوصول إلى السلطة، خصوصاً في الجانب السياسي من هذا الفضاء.

بل إنّ ترويجهم لهابرماس ينطلق من هذا التصور حول ما بعد العلمانية كونها في الحقيقة انفتاحاً غربياً على ما هو ديني، ويصوّرون الأمر على أنّه حتمية إعجازية لذلك الديني، انطلاقاً من لاشعور إعجازي للفكر الديني كونه ثابتاً وخالداً.
لذلك نجدهم لا يتجاوزون تصوراتهم الدينية المغلقة؛ إذ لا يتحرك فكرهم نحو الانفتاح بينما يحتفون ويطالبون الآخرين بالحركة نحوهم، فيمارسون نوعاً من التمركز حول الذات الذي ينكرونه على الفكر الغربي. لذلك نجد أنّ رؤيتهم لما بعد العلمانية فيها تضليل متعمد مفاده هو نهاية العلمانية وعودة الفكر الديني.

الإسلاميون لا يتجاوزون تصوراتهم الدينية المغلقة ويمارسون نوعاً من التمركز حول الذات الذي ينكرونه على الفكر الغربي

وهذا ما لا يتصوره عاقل يفهم كيف تشكلت العلمانية في الغرب، فهي ضرورة أملاها التاريخ الأوروبي نفسه؛ حيث تستحيل العودة إلى ما قبلها كما يفهم الإسلاميون؛ فنقيض العلمانية في أوروبا هو الكهنوت والصراع الديني الطائفي وسلطة الكنيسة.
بحسب هابرماس ثمة حاجة ملحّة لمجتمع ما بعد علماني، ولكن دون التراجع عن العلمانية نفسها، وإنما عبر النقد وتجاوز بعض مسلماتها. بل إنّ نقد بعض مسلماتها لم يكن بالنسبة لهابرماس ممكناً ما لم تكن هناك تغيرات في الدين نفسه، وهي تغيرات أتت بفضل العلمانية كونها حرّرت الفضاء الدراسي للدين من السلطة الاحتكارية للتفسير الكنسي له.

وبفضل هذه التغيرات وجب الانتقال إلى شكل جديد من أشكال التسامح، وهو التسامح العلماني وغير الديني مع ما هو ديني، والذي هو معكوس في الحالة الإسلامية على غير ما يفهمه الإسلاميون من الحالة الغربية وإسقاطها بمشكلاتها على الحالة الإسلامية؛ حيث يتوجب هنا تسامح من نوع مختلف، ألا وهو تسامح الديني مع العلماني وغير الديني، وذلك إذا فهم الإسلاميون هابرماس كما يجب لا كما يريدون.
فما بعد العلمانية هو توسيع لشروط العلمنة لتسع الديني وتحوله عبر عمليات الأنسنة إلى ما يمكن اعتباره منفعة عامة.
عودة الدين
يشير هابرماس إلى عودة الديني إلى الفضاء العام باعتباره إحدى ثمرات الانفتاح والتسامح، ولما يمكن أن يضيفه الدافع الديني لدى المتدين من قوة للقيم العلمانية نفسها؛ فعودة الديني ليست، كما يتخيل الكثير من الإسلاميين، عودة الدين كسلطة حاكمة عبر أشخاص متدينين كما يريدون في العالم الإسلامي. فلا يمكن في الغرب فرض التصورات الدينية عبر سلطة الدولة لتصبح مبادئ ما قبل الدستورية، فهي لا تتجاوز كونها نقاشات في الفضاء العام يمكن الأخذ ببعضها إذا كان يعطي دافعاً أكثر للالتزام بالقيم الإنسانية والقيم التي تبلورت وفق المنهج الحداثي الغربي، فحينها يصبح المتدين يطرح رؤاه في مجتمع تحكمه مبادئ علمانية.
ببساطة، لا يمكن المطابقة بين نقد هابرماس للعلمانية الذي ينطلق من مبادئ وأسس التنوير الأوروبي نفسه القائم على حرية النقد وحرية عمل العقل في كافة مجالات الحياة، وبين النقد ذي المنطلقات الإسلامية الأيديولوجية الذي تتبنّاه الحركات الإسلامية بالمنطقة؛ فالنقد الأول تقدمي والآخر نكوصي.